ناقش "مجلس العموم" البريطاني في الرابع عشر من يناير (كانون الثاني) 2019، الصفقة التي اقترحتها رئيسة الوزراء حينها تيريزا ماي لمغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي. أظهر سجل "هانسارد" Hansard Commons (وهو التقرير الرسمي لجميع النقاشات البرلمانية) أن تعبير "بريكست" تم ذكره في المجلس 165 مرة في ذلك اليوم. وفي تسريع لما جرى بعد نحو أربعة أعوام، تحديداً في يوم الإثنين، الرابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) 2022، أعلن حزب "المحافظين" عن فوز أحد المتحمسين لخروج بريطانيا من الكتلة الأوروبية ريشي سوناك برئاسة الوزراء، في بلاد بات من الصعب التعرف عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعاقب بين هذين التاريخين رئيسا وزراء وغادرا، وحدث بينهما انهيار للجنيه الاسترليني بعد وضع موازنة مصغرة كارثية، وبروز فضيحة غلاء المعيشة التي تجتاح الأمة. ويبقى السؤال: كم من مرة تم الإتيان على ذكر "بريكست" في ذلك الإثنين بالتحديد؟ مرتان.
بدت مغادرة المملكة المتحدة للكتلة الأوروبية كأنها العبارة الوحيدة التي علقت على شفاه الناس قبل الانتخابات العامة الأخيرة في عام 2019، لكن بعد وصولها إلى نقطة الانهيار، فشل سياسيو ويستمنستر في الربط بين النقاط الواضحة تماماً، فقد أصبح بريكست مسألة كبرى مثيرة للجدل ما من أحد يريد التطرق إليها، وهي تضغط على اقتصادنا ومجتمعنا وبيئتنا بكل ما في الكلمة من معنى.
في إيرلندا الشمالية - حيث على حد تعبير الصحافي الناقد فينتان أوتول "تتحول السياسة البريطانية أكثر فأكثر إلى أشلاء" - لا يتمتع الساسة بترف تجاهل "بريكست". فمع رفض "الحزب الوحدوي الديمقراطي" DUP العودة إلى مقاعده في برلمان "ستورمونت" Stormont (الجمعية التشريعية في إيرلندا الشمالية) إلى حين إلغاء "بروتوكول إيرلندا الشمالية" Northern Ireland Protocol من صفقة "بريكست" (الذي يحكم قضايا الجمارك والهجرة على الحدود في الجزيرة ما بين جمهورية إيرلندا وبريطانيا، لكن منذ بدء تنفيذه أثار خلافات بين لندن وبروكسل لأنه عطل التجارة بين بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية)، فإن حكومة الإقليم بأكملها قد تعطلت بشكل مخيف.
ومن شأن "مشروع قانون بروتوكول إيرلندا الشمالية" Northern Ireland Protocol Bill - الذي اقترحته رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس ولم يتراجع عنه بعد خلفها ريشي سوناك - أن يمزق في شكله الراهن المعاهدة التي تفاوضت عليها الحكومة البريطانية (اضطلع فيها سوناك نفسه بدور بارز). ومن شأنه أيضاً أن ينتهك القانون الدولي الذي تؤكد حكومتنا أن الدول يجب أن تلتزمه، وتستمد سلطتها من البرلمان الذي لطالما ادعى زملاؤه من المؤيدين للخروج البريطاني بأنه صاحب سيادة.
قد لا يكون البروتوكول مثالياً بأي حال من الأحوال، لكنه ساعد حتى الآن في الحفاظ على السلام في إيرلندا الشمالية، والإبقاء على العلاقات الدبلوماسية مع أقرب جيراننا في زمن الحرب [في أوكرانيا] والحد من بعض أسوأ الآثار المترتبة عن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي الذي أوقعتنا فيه هذه الحكومة.
ويعود السبب في تفاقم الكثير من الأزمات التي نواجهها اليوم ليس إلى البروتوكول نفسه، كما "يعتقد الحزب الوحدوي الديمقراطي" وغيره من "المحافظين" اليمينيين، بل إلى الخروج البريطاني بحد ذاته. وقد تبين لـ"لجنة التجارة والأعمال في المملكة المتحدة" UK Trade and Business Commission المشتركة بين الأحزاب، التي أنا عضو فيها، في أثناء زيارة أخيرة لإيرلندا الشمالية، أن الكلف الجديدة والتعقيدات التنظيمية المترتبة عن اتفاق "بريكست" قد تسببت الآن في جعل الخطوط الكاملة للإنتاج ونماذج الأعمال هناك، غير قابلة للاستمرار.
الكلف الاقتصادية الباهظة التي تواجهها الأنشطة التجارية بعد "بريكست" لا تقتصر على إيرلندا الشمالية، فقد تراجعت التجارة بشكل عام بنسبة 15 في المئة، الأمر الذي أدى إلى توقف الاستثمار التجاري وتراجع الإنتاجية بنسبة أربعة في المئة، وانخفاض الأجور، وحتى الصفقات التجارية التي تفاوض عليها وزراء في الحكومة فهم يمزقونها الآن علانية، ناهيك بارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتسجيل أعلى معدل تضخم في "مجموعة السبع" G7، ونقص خطير في العاملين في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية. كل ذلك ولم يمض سوى عامين على "الاتفاق الذي أبرمناه".
صوت البريطانيون على المغادرة لعدد لا يحصى من الأسباب - كان البعض حانقاً من اللعبة التي تم التلاعب بها، وشعر البعض بأن الوضع الراهن يخذل الكثير منا، وهم على حق - فمجتمعنا يشعر بالانقسام وبعدم المساواة والضعف. فالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي لم يحل تلك القضايا، بل زاد من تفاقمها.
من هنا فإن عبارات كير ستارمر الفارغة حول ضرورة "إنجاح "بريسكت"" لن يكون لها مفعول في احتواء الأزمة. إن التظاهر بأن "بريكست" يمكن أن يكون إيجابياً هو ادعاء غير صادق، إذ إنه يخدم الحكومة ويقوض مصلحتنا الوطنية. وعلينا أن نقر بأن الأمر يقتصر الآن على الحد من الأضرار.
ولا عجب في أن متتبعي استطلاعات مؤسسة "يوغوف" YouGov وجدوا أخيراً أن عدداً قياسياً منخفضاً من الأفراد (32 في المئة) يقولون، إن قرار المغادرة، بعد التفكير فيه كان القرار الصحيح، في مقابل 56 في المئة قالوا إن المغادرة البريطانية للاتحاد الأوروبي كانت فكرة سيئة. الهامش واضح. ويبدو أن الأعوام الستة الأخيرة التي مضت على الاستفتاء قد أقنعت الناس بأن العمل مع أوروبا هو أكثر فائدة من العمل ضدها.
وهذا هو السبب الذي جعل "حزب الخضر" يقرر في أحدث مؤتمر حزبي له بالسعي نحو معاودة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بمجرد أن يصبح الوضع السياسي ملائماً، وتكون الشروط الصحيحة متاحة. إن هذه الخطوة لن تكون فورية - لذلك هناك إجراءات يتعين أن نتخذها على المدى القصير.
وتشمل هذه الإجراءات تنفيذ البروتوكول بكامله، من خلال إنشاء البنية التحتية اللازمة لتطبيق ضوابط الصحة والصحة النباتية. وتشمل أيضاً العودة إلى الاتحاد الجمركي سعياً لمحو أسوأ الآثار التي خلفها الخروج من الاتحاد الأوروبي. وكذلك التوقيع على اتفاق شامل مع الاتحاد الأوروبي لحماية الحياة البشرية والحيوانية والنباتية. ويتضمن عودة سريعة إلى نظام حرية تنقل الأشخاص بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، والعودة إلى برنامج "أبحاث هورايزون" Horizon Research الخاص به (ناشر مفتوح يخدم البحث الأكاديمي والمجتمعات العلمية من خلال إطلاق مجلات يراجعها أقران علميون).
وهذا يعني تجسيد تشريعات الاتحاد الأوروبي التي تحافظ على معايير عالية لحقوق العمال وصحتهم وسلامتهم، بدلاً من تخفيفها.
وكلما أسرع رئيس الوزراء ريشي سوناك وجميع سياسيينا في تداول عبارة "بريكست" - أو في الأقل أقروا واعترفوا وقبلوا بأنها أحدثت بالفعل فوضى في البلاد - كلما أسرعنا في التراجع عن الضرر الفوري وطويل الأمد. وإذا لم يقوموا بذلك، فستستمر الأزمة في الضغط علينا.
كارولين لوكاس هي عضو في البرلمان البريطاني عن "حزب الخضر" تمثل دائرة "برايتون بافيليون" الانتخابية جنوب إنجلترا
© The Independent