Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

أوبرا روسية على مسرح إيطالي بحضور أوروبي ولا عزاء للسياسة

"بوريس غودونوف" دراما مثيرة للجدل لها "إسقاطات" على الحاضر... ومحيط "لا سكالا" يتحول إلى "ثكنة عسكرية" لمواجهة "شغب النشطاء"

الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا ورئيسة حكومته جيورجيا ميلوني وآخرون حرصوا على حضور أوبرا "بوريس غودونوف" (أ ف ب)

في توقيت تشتد فيه ربقة الحصار على كل ذي علاقة بروسيا، ماضيها وحاضرها، كان "مثيراً للجدل" ما حظيت به أوبرا "بوريس غودونوف" التي كتبها أبرز شعراء روسيا ألكسندر بوشكين ووضع موسيقاها موديست موسورسكي من اهتمام غير مسبوق بعد الإعلان عن عرضها على مسرح "لا سكالا" الإيطالي، أحد أشهر دور الأوبرا العالمية.

الجدل أثارته الأوساط الأوكرانية وناشطون مدافعون عن موقف كييف من دون حساب لضرورة الفصل بين السياسة والثقافة على حد تعبير كثير من الساسة الأوروبيين. ولعل ذلك تحديداً ما يجعل عرض هذه الدراما التاريخية الأوبرالية في مثل هذا التوقيت شديد الحساسية، ذا معنى خاص. وثمة من يقول إن هذه العرض الأوبرالي بكل ما يتضمنه من دلالات وإسقاطات يمكن أن يكون خطوة عميقة المغزى والمضمون على طريق إزالة بعض ما تراكم من خلافات وشوائب عكرت ولا تزال صفو العلاقات الروسية- الأوروبية.

تجاوز القائمون على هذا العرض المسرحي في أوبرا "لا سكالا" ما تعالى من احتجاجات وما احتشد من تظاهرات استهدفت الحيلولة دون عرض هذا العمل الفني شديد الثراء والنيل من أجوائه الاحتفالية.

وكان مسرح "لا سكالا" اختار أوبرا "بوريس غودونوف" لافتتاح موسمه الثقافي الفني رقم 71 ولم يكتف بمجرد اختيار هذه الأوبرا الروسية بكل مضمونها الذي نستعرضه بين ثنايا هذا التقرير الإخباري، بل كان حرصه شديداً على دعوة إلدار عبد الرزاقوف صوليست مسرح "مارينسكي" في سان بطرسبورغ، وهو المسرح الأشهر بعد "البولشوي" في روسيا وأحد أشهر المسارح العالمية، للقيام بدور البطولة، ومعه عدد كبير من الفنانين والمغنين الروس ممن انضموا إلى فريق العمل متعدد الجنسيات. فالمخرج الدنماركي الجنسية اختار لرائعة بوشكين عدداً من أشهر وأمهر الفنانين من دون النظر إلى العرق أو الجنسية، بل أيضاً من دون أي اعتبار للميول السياسية.

إزاء ذلك كله لم يكن غريباً أن يتسامى رجال السياسة فوق أحزان الحاضر، ولو إلى حين. شدوا الرحال إلى ميلانو تأكيداً من جانبهم على ضرورة الفصل بين الثقافة والسياسة.

وإذا  كان يبدو من الطبيعي أن يتصدر الحضور في "لا سكالا"  الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا ورئيسة حكومته جيورجيا ميلوني وآخرون من أبرز ممثلي النسق الأعلى للسلطة في إيطاليا، فقد كان غريباً أن تحرص المفوضة السياسية للاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، الألمانية الأصل، المعادية لكل ما هو روسي اليوم، لأسباب تعود لتفاقم الأزمة الأوكرانية وما أعقبها من مواجهات عسكرية مع روسيا، على حضور مثل هذا العرض المسرحي الأوبرالي الروسي في مثل هذا التوقيت وما صاحبه من جدل وشغب من جانب النشطاء السياسيين الموالين للقضية الأوكرانية.

محاولات تشويه

ومن النشطاء من تجاوز القول والهتافات المعادية إلى محاولات تشويه واجهة مبنى "لا سكالا" بطلاء سرعان ما نجحت السلطات المعنية في إزالته. ولعل ذلك ما كان وراء تحول المكان إلى ما هو أشبه بالثكنة العسكرية بعدما كثفت قوات الشرطة وجودها في كل أرجاء المنطقة والشوارع المجاورة، بحسب تقرير صحيفة "كوريري ديلا سيرا" الإيطالية.

وتسابقت الصحيفة الإيطالية مع وسائل إعلام أخرى كثيرة ومنها التي تمثل الأجهزة الإعلامية الرسمية الروسية، في تسجيل هذا الحدث الروسي الهوية، العابر للجنسيات بمكوناته وأبعاده. ومن اللافت في هذا الصدد أن ممثلي الأنساق العليا للسلطة سواء من الجانب الإيطالي، أو من الوافدين من خارج إيطاليا، لم يكتفوا بمجرد المشاركة والاستمتاع بهذا العمل الفني المتميز، بل بدا حرصهم واضحاً على تسجيل مواقفهم التي بدت في بعض جوانبها أشبه بمحاولة التوفيق بين الشيء ونقيضه.

 

ومن هذه التصريحات ما تناقلته وسائل الإعلام الروسية والإيطالية، لكن بحسب ما يتناسب مع مواقفها ومواقعها، فعلى سبيل المثال تعمدت وسائل الإعلام الروسية المرئية والمسموعة والمكتوبة التركيز على ما قالته مفوضة الشؤون السياسية للاتحاد الأوروبي حول ضرورة فصل السياسة عن الثقافة، وأنها تحب الأوبرا الجيدة، فيما أعربت عن إعجابها الشديد بموسيقى موسورسكي وتشايكوفسكي من دون التوقف عند ما قالته حول تضامنها مع الشعب الأوكراني الذي وصفته بالعظيم. كما نقلت المصادر الروسية ما ذكره رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي إجنازيو لا روسا حول أن "الفن العظيم ليس له لون"، وذلك فضلاً عما دعا إليه حاكم إقليم لومبارديا أتيليو فونتانا في شأن "ضرورة عدم جعل الثقافة جزءاً من التناقضات". أما المايسترو ريكاردو تشايلي، فأعرب عن شديد تمسكه وإعجابه بهذا العمل الفني بالغ الأهمية بقوله إن "التخلي عن بوشكين وموسورسكي هو التخلي ذاته عن دانتي وشكسبير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت الأوساط السياسية والاجتماعية الأوكرانية في إيطاليا بادرت بإعلان احتجاجها ضد مثل هذا التكريم التي تحظى به رموز الثقافة الروسية، في توقيت اعتبرته غير مناسب وبعث قنصل أوكرانيا في ميلانو أندريه كارتاش برسالة رسمية إلى كل من مدير "لا سكالا" دومينيك ماير وعمدة ميلانو جوزيبي سالا وحاكم لومبارديا أتيلو فونتانا يناشدهم فيها بإعادة النظر في قرار افتتاح الموسم بأوبرا روسية، وكذلك ضرورة مراعاة عدم إدراج أية أعمال فنية روسية ضمن برنامج مثل هذه المؤسسة الفنية العريقة بهدف "عدم الترويج والدعاية لرموز الثقافة الروسية"، على حد تعبيره، وذلك في إطار الحملة الضارية التي تشنها الأوساط الأوكرانية في إيطاليا ضد حرص "لا سكالا" على افتتاح موسمها الثقافي لهذا العام بأوبرا روسية، فضلاً عن إدراجها لكل من باليه "كسارة البندق" و"بحيرة البجع" لتشايكوفسكي ضمن صدارة ريبيرتوار هذا المسرح العالمي.

كما حرص التلفزيون الروسي بكثير من قنواته الرسمية على الحضور والنقل المباشر الذي واكبته تعليقات الإشادة بهذا الحدث العالمي غير المسبوق. قالوا إن "لا سكالا" لم يفتتح موسمه الثقافي خلال الأعوام السبعة الأخيرة بعرض أجنبي وأشاروا إلى أن قناة "راي" الإيطالية الحكومية تبدأ البث للعالم كله.

قصة القيصر غودونوف

أما عن العرض الأوبرالي، فأشارت القناة الرسمية الإخبارية الروسية إلى أن المشاهد، إيطالياً كان أو أجنبياً، يعرف تاريخ غودونوف قيصر روسيا (1598-1605)، وهي الفترة التي يعرفونها تحت اسم "عصر المحن والاضطرابات"، وقالت إنه ربما يكون من الطبيعي ألا يعرف المشاهد أن بوشكين (شاعر روسيا العظيم) كتب مسرحيته تحت تأثير أعمال كرامزين أشهر مؤرخي روسيا، في محاولة لتبرير أية إيحاءات أو إسقاطات على الحاضر، وذلك ما قد يكون المقدمة المناسبة للتوقف عند موضوع هذه الدراما التاريخية شديدة الأهمية، وبما قد يكون تفسيراً لاختيارها في مثل هذا التوقيت بكل ما يتسم به من حساسية ودلالات.

قصة القيصر غودونوف عامرة في جوهرها بالإسقاطات والدلالات عميقة المغزى، بما تتضمنه من ذكريات حول قدراته كدبلوماسي موهوب استطاع إطالة أمد الهدنة بين روسيا وبولندا في نهاية القرن الـ16، مما أسهم في استجماع القوى والقوات للحرب ضد السويد واستعادة أراضي البلطيق.

 

القصة تحكي أيضاً تفاصيل الصراع على العرش بما تتضمنه من إشارات إلى الميول التي حددت كثيراً من سياسات بوريس غودونوف ومدى جنوحها نحو الوئام والتعاون مع البلدان الأوروبية. وبهذه المناسبة ثمة من يقول عنه إنه أكد مكانته كدبلوماسي موهوب، "تمكنت روسيا معه من تحقيق مراجعة جزئية لنتائج الحرب الليتوانية التي خسرها سلفه إيفان الرهيب بحلول عام 1595. كما استعاد الجيش الروسي كثيراً من الأراضي الروسية من السويد، إضافة إلى ما جرى التوصل إليه في وقت سابق من عام 1591 من توقيع اتفاق سلام مع الكومنولث البولندي الليتواني"، وذلك فضلاً عما تحقق من نجاح على الجبهة الشرقية في مواجهة التتار وتعزيز الحدود الجنوبية لروسيا. كما اتخذ عدداً من التدابير الناجحة لغزو سيبيريا. وهناك من يقول أيضاً إنه لو قيض لخلفائه الاستمرار في السلطة، لكانت روسيا حققت كثيراً على صعيد تقدم الثقافة والعلوم والإصلاحات التي كان يمكن معها تحقيق التطور على قدم المساواة مع الدول الغربية.

المثير في هذا الصدد أن كل ما تموج به الأوساط الثقافية الإيطالية والأوروبية من أحداث واحتدام الجدل حول عرض أوبرا "بوريس غودونوف"، يأتي بعد أحداث مماثلة تجاوزت في حدتها "الخط الأحمر" نحو ما وصفه بعض المراقبين في روسيا وخارجها، بالعبثية واللامعقول، لما أسفرت عنه من تطاول على مكانة وقيمة كثيرين من رموز الأدب والثقافة والفنون الروسية، ومنهم أمير القصة القصيرة أنطون تشيخوف وقيصر الرواية العالمي فيدور دوستويفسكي وأحد أهم رموز الموسيقى العالمية بيتر تشايكوفسكي، ممن فرضت بلدان أوروبية عدة حظراً على تداول إنتاجهم وتدريسه في أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية، وبدء "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في أوكرانيا. 

وكانت المؤسسات الثقافية البولندية أول من بادر بإعلان مثل هذه القرارات وما أعقبها من حظر الأعمال المسرحية والعروض الموسيقية لكبار رموز الأدب والفن والموسيقى، كما سارعت إيطاليا إلى اتخاذ قرارات مماثلة على غرار ما فعلته جامعة ولاية بيكوكا في ميلانو حين بادرت بإلغاء محاضرات حول أعمال فيودور دوستويفسكي، بل كان هناك من جنح نحو ما هو أكثر من مجرد المنع، مثلما حدث في أوكرانيا وعدد من بلدان البلطيق التي شهدت رفع وتدمير كثير من تماثيل الأدباء والفنانين الروس، على نحو مماثل لما حدث مع تماثيل كبار القيادات العسكرية السوفياتية التي انتشرت في هذه البلدان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. 

المزيد من تقارير