Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"هاوية جميلة" الفائزة بجائزة الأدب العربي الفرنسي تدين العنف

الروائي التونسي الفركوفوني يامن المناعي يرفع الصوت ضد ظلم العالم

الروائي التونسي الفرنكوفوني يامن المناعي (موقع الجائزة)

بعد "مسيرة الشك" (2010)، "سرنادة إبراهيم سانتوس" (2011) و"الركام الساخن" (2017)، التي توجت جميعاً بجوائز أدبية مهمة، يضيف الكاتب الفرنكفوني التونسي يامن المناعي إلى سجل إنجازاته رواية جديدة بعنوان "هاوية جميلة"، صدرت مثل سابقاتها عن دار "إليزاد" التونسية، وحصدت قبل أيام "جائزة الأدب العربي" في باريس.

رواية قصيرة (110 صفحات) كتبها المناعي خلال أسبوعٍ فقط على شكل مونولوغ محموم يسرد فيها بأسلوب ناري اليقظة القاسية لمراهق تونسي يثور على الظلم المتفشي في وطنه. المونولوغ الذي يمسك بأنفاسنا حتى الصفحة الأخيرة ينطق به المراهق المذكور الذي نجده في مطلع الرواية مرمياً في السجن بسبب سلسلة جرائم لا يندم على ارتكابها، وهو مونولوغ يتوجه فيه بالتناوب إلى المحامي المكلف بالدفاع عنه وإلى خبير في الطب النفسي استدعي لتقويم حاله العقلية، وتنكشف فيه تدريجياً الأسباب التي قادته إلى الجريمة. محرك سردي ناجع يغوص بالقارئ على طول الرواية داخل وعي يفيض من كل الجهات مثل نهر هادر، حاملاً معه سديماً جارفاً.

مونولوغ سردي

وفعلاً، ضمن فيض لا ينضب، ينطلق المونولوغ برفض المراهق التعاون مع محاميه وبكيله الشتائم له وللنظام الذي ينتمي إليه، ولا عجب في سلوكه هذا، وأيضاً في تعمد المناعي عدم إعطائه اسماً، فهو يمثل كل الشباب التونسي المقموع الذي انتفض نهاية العام الماضي و10 سنوات قبل ذلك، من دون أن يحظى بالمستقبل المنشود. جيل فتي يخضع لعنف البالغين الذين فشلوا في استخلاص أية عبرة من سنوات الاستبداد خلال عهد الرئيس بن علي، كما يشهد على ذلك استمرار الفساد والمحسوبية والسلطوية الذكورية.

 

من هذا المونولوغ سنكتشف حياة هذا المراهق البائسة والمجبولة بالعنف، عنف كلي الحضور من أعلى المجتمع إلى أسفله، ولا يلبث أن يطبعه عنوة نظراً إلى استحالة الفرار منه، فسواء داخل الحكم أو في البيت أو في المدرسة أو في الشارع يسود ويتغلغل، وبالنتيجة يقوض المجتمع بما في ذلك عناصره الفتية التي تكرر نموذجه على من هم أضعف منهم مثل الحيوانات، عنف لا يلبث هذا المراهق أن يتمرد عليه بالسلاح الوحيد الذي يعرفه وهو "العنف".

لكن لماذا سيقدِم على ذلك فجأة؟ والده الدكتور في الحضارة العربية - الإسلامية رجل مادي وسطحي لا تشغل باله سوى المظاهر، ولا يكترث بالتالي لأسرته التي تضطلع الأم بتوفير حاجاتها، وبين ضرب هذا الوالد له عند أقل تعكر لمزاجه، والمضايقات التي يتعرض لها في المدرسة، لا يجد ملاذاً له سوى الكتب، إلى أن يعثر يوماً في الشارع على كلبة صغيرة ويقرر الاعتناء بها، على رغم معارضة والديه. وهكذا ستمنحه "بيلا"، وهو اسم الكلبة، على مدى ثلاث سنوات كل المحبة والوفاء والثقة التي افتقر إليها حتى ذلك الحين لبناء نفسه، "طوال علاقتنا لم تتوقف عن إبراز أفضل جانب فيّ، الجانب الأكثر شجاعة وجدارة، وعن شحذ قوة داخلي كنت أجهل وجودها".

وقائع سردية

لكن في أحد الأيام يعطيه والده بعض النقود للذهاب إلى السينما، وبما أنها المرة الأولى التي يتلقى فيها شيئاً منه تنتابه الريبة، لكن ينتهي به الأمر بقبول العرض لأنه لطالما حلم بمشاهد فيلم على الشاشة الكبيرة، ولدى عودته إلى المنزل يدرك فوراً سبب "كرم" والده المفاجئ إثر ملاحظته تواري صديقته الوفية "بيلا"، وحين يبدأ بالبحث عنها يكتشف أنه لم يعد بإمكانه إنقاذها لأن والده تخلص منها، ولا عجب إذاً في الجنون الذي سينتابه، فهذه الكلبة كانت حصن البراءة الأخير في وجه القسوة التي تحاصره، قسوة مجتمع يغتال ضمائر أفراده رجالاً ونساء وأطفالاً، فيكررون بدورهم الفعل نفسه ضمن دوامة قتل لا نهاية لها. جنون يدفعه إلى صرع والده ورئيس البلدية ووزير البيئة، إضافة إلى ذلك الرجل الموكل رسمياً بقتل الكلاب في المدينة "مخافة من انتشار داء الكلب بين الناس".

مونولوغ هذا المراهق هو إذاً، وقبل أي شيء، مرافعة ضارية ضد العنف الأعمى داخل مجتمعه، "أردت أن أروي الجانب الآخر من تونس الذي لا يظهر على البطاقات البريدية"، صرح المناعي لدى صدور روايته، مضيفاً أنه كان يخشى من أن يتلقاها أبناء وطنه بشكل سيئ، لكنه تنفس الصعداء حين تبين له أن قصتها تخاطبهم، لأن "العنف مكون كلي الحضور في حياتهم". وفعلاً تشكل "هاوية جميلة" خير قراءة سوسيولوجية لمسيرة فرد مراهق داخل بلد يعاني احتقار الأقوياء فيه للضعفاء. قراءة تعري في طريقها كل مساوئ هذا البلد، بدءاً بالقذارة والبؤس في الأحياء المحيطة بعاصمته، ووصولاً إلى عالم الراشدين فيه الذين يحول انغماسهم في امتيازاتهم المكتسبة من دون اكتراثهم للظلم والإهمال وسائر الآفات المنتشرة فيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي المآل التراجيدي لقصتها تقرأ هذه الرواية كاستعارة مريرة لمرحلة ما بعد الرئيس بن علي تحديداً، حيث قتل الأب هو قتل لنموذج بطريركي بلغ أوج لامبالاته وقسوته، وبات يشكل عائقاً منيعاً في وجه كل شاب تونسي يسعى إلى إعادة ابتكار ذاته، ففي معرض سخريته من مصير بلده بعد "ثورة الياسمين" يقول بطلها ببصيرة، "كسبنا الديمقراطية؟ يا لهذا الإنجاز! من قبل كنا نعاني الطاعون، والآن لدينا الخيار بين الطاعون والكوليرا. من قبل كنا نعاني الأربعين حرامي، والآن لدينا أربعون ألفاً".

لكن البعد الوطني المركزي في هذا العمل لا يسيء إلى شمولية الأسئلة التي يطرحها، بل يشكل ركيزة ناجعة لها، ولذلك تقرأ "هاوية جميلة" أيضاً كحكاية فلسفية يصطدم فيها العنف والرقة، وتحث قارئها على التأمل في وضع العالم الذي تستشري في أرجائه كل آفات المجتمع التونسي، وبالنتيجة نتلقاها كمديح للحب القادر وحده على تغيير العالم، وكبرهنة بواسطة العبث على أن العنف لا يحل شيئاً، وحين يشتعل يصبح من الصعب جداً الخروج من حلقته المفرغة.

ولإدانة حماقة عالم قائم على العنف ووضعه أمام تناقضاته، يلجأ المناعي على المستوى الشكلي إلى التلاعب بالكلمات داخل نصه، فيقلبها ويناور فيها بمهارة نادرة تبين تارة خطورتها وطوراً تفاهتها، أو تحولها إلى مرآة نرى فيها أنفسنا وعيوبنا. وفي هذا السياق يشحذ لغة قاطعة مثل سكين، تقوم على جمل قصيرة لا كلمة فائضة فيها، وتقترب بصراحتها الصائبة وانعدام أي مرشح فيها من المحكية الفجة، لا بل الفظة، لغة يلهبها هاجس العدالة المنشودة والغضب الناتج من انتفائها.

المزيد من ثقافة