Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تفرغ الأزمة لبنان من كوادره القضائية والمهنية؟

البلاد تعاني شللاً ممنهجاً في سلطاته الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية

محاولات في لبنان لإقناع القضاة بفك اعتكافهم المستمر منذ ستة أشهر (الوكالة الوطنية)

منذ بداية الأزمة السياسية وما رافقها من تداعيات اقتصادية ونقدية، لم يسلم أي قطاع أو مرفق حيوي في لبنان من الانهيار، لا سيما أن نسبة كبيرة من الموظفين تقدموا باستقالاتهم، وآخرين يطلبون إجازات مفتوحة من دون راتب، فيما تعمل الإدارات العامة منذ عامين بتقنين لتسيير بعض المعاملات الضرورية، وذلك بحضور عدد قليل من الموظفين الذين يتناوبون بيوم أو اثنين خلال الأسبوع.

تعتبر القطاعات العامة من أكثر القطاعات تضرراً، إذ لم تصحح سلسلة الرتب والرواتب بما يتناسب مع التضخم، الذي أفقد الموظفين 97 في المئة من قيمة مداخيلهم الأساسية، الأمر الذي أدى إلى دخولها في تخبط إداري ومالي.

 أشار مدير عام إحدى الإدارات الحيوية، طلب عدم نشر اسمه، إلى أن التضخم لم يقض على القدرة الشرائية للموظف فقط، إنما أيضاً على الميزانية التشغيلية، حيث لم تعد تكفي "النثريات" وشراء الأوراق وصيانة المباني، إضافة إلى عدم القدرة على شراء المازوت للتدفئة وتوليد الطاقة الكهربائية.

وكشف أنه يتم دراسة إقفال بعض الإدارات المحلية وإعادتها إلى الإدارة المركزية بهدف حصر النفقات، مضيفاً أن هذه الحالة الطارئة ستكون موقتة قبل إقفال تام وقسري لجميع الإدارات العامة خلال الستة أشهر، في حال لم تعالج موازنة 2023 الخلل المالي.


سابقة عالمية

على رغم شلل الإدارات والقطاعات الرسمية في البلاد، إلا أن اعتكاف القضاة وتحول قصور العدل إلى مراكز مهجورة له بعد آخر، وهي بحسب مرجع قضائي سابقة خطيرة لم تشهدها أي دولة في عالم، معتبراً أن اعتكاف القضاة يشل السلطة القضائية، التي تعتبر إحدى أركان النظام الديمقراطي.

وكشف المرجع القضائي عن سياق ممنهج مرتبط أيضاً بالشلل الحاصل على مستوى السلطة التنفيذية، إذ لا يستطيع مجلس الوزراء الانعقاد وإصدار مراسيم تتعلق بحياة المواطنين اليومية، كذلك السلطة التشريعية باتت بفعل الإخفاق في انتخاب رئيس للجمهورية عبارة عن هيئة ناخبة لا تستطيع تشريع القوانين مهما تكن ضرورية ومهمة.

زوال لبنان

الشلل الحاصل على مستوى السلطات الثلاث يعيد للأذهان تصريحات سابقة لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان حذر فيها من أن لبنان "يواجه خطر الزوال"، مشبهاً حينها الواقع بغرق سفينة "تايتانيك"، لكن من دون موسيقى.

في السياق ذاته، يعتبر النائب العام التمييزي السابق القاضي حاتم ماضي أن ضرب القضاء هو ضربة للعدالة والدولة، مؤكداً أن القضاء مستهدف بشكل مباشر، سواء عبر الضغط المالي أو عبر المحاصصة السياسية والطائفية وحتى من خلال التهديدات الأمنية.

ويرى ماضي أن اعتكاف القضاة هو جرعة مرة، لكن لم يكن منه بد بعد أن تدنى راتب القاضي بشكل مريع ليصبح نحو 200 دولار، بحيث لم يعد يكفي لسد الواجبات الحياتية الأولية، الأمر الذي يدفع عدداً منهم إلى الاستقالة والهجرة، مشيراً إلى استقالة 5 قضاة كبار أخيراً وتقديم أكثر من 20 آخرين طلبات إجازة مفتوحة بلا راتب بهدف السفر الدائم أو الموقت.

وقال "لو كان القضاء حراً لكان لاحق وسجن كل المتسببين بالانهيار"، معتبراً أن الاعتكاف عطل العدالة وأثر سلباً على حقوق المتقاضين، مطالباً القضاة بأن يلعبوا دورهم في فتح ملفات الفساد وملاحقة الفاسدين، مشدداً على أن السلطة السياسية هي من أوصلت البلاد إلى هذا الحد.

انقسام القضاة

في آخر تطورات اعتكاف القضاة، الذي يقترب من شهره السادس، تتحدث مصادر في وزارة العدل عن انفراجتين، الأولى تتعلق بالنيابات العامة، إذ بدأ القضاة منذ فترة بمتابعة قضايا الموقوفين، ولا سيما في المخالفات والجنح للحيلولة بعدم حجز حريات المواطنين، أما في ما يتعلق بالثانية فتشير المصادر إلى تفاهم مبدئي يقوده وزير العدل يقضي بدفع مبالغ مالية للقضاة من خلال صندوق التعاضد تضاف إلى رواتبهم الشهرية، لحين إعادة إقرار قانون جديد لسلسلة الرتب والرواتب ضمن موازنة 2023 المتوقع تأخرها لأشهر عدة مقبلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلا أن هذه الانفراجات قد لا تكون شاملة، إذ تؤكد المعلومات وجود انقسام بين القضاة حول المعالجة الموقتة المطروحة، مطالبين بربط رواتبهم بمنصة صيرفة بعد دولرتها لتفادي التضخم المستمر، كشرط أساسي لفك اعتكافهم، معتبرين أن السلطة تحاول الهروب إلى الأمام والضغط على القضاة بمعالجة مالية محدودة وتأليب الرأي العام ضدهم.

ويعتبر القضاة أن موازنة 2022 أثارت استياءً عارماً في أوساطهم، إذ إنها لم ترصد في ميزانيتها سوى 0.49 في المئة لوزارة العدل ومعها مختلف مرافق السلك القضائي ورواتب القضاة، وخصصت لصندوق التعاضد 10 مليارات ليرة فقط.

عسكرة القضاء

نتيجة لاعتكاف القضاة وفقدان الاتصال بين القوى الأمنية والنيابات العامة، الأمر الذي يؤدي إلى احتجاز حرية المواطنين وتوقيفهم لأسباب تافهة، كعدم دفع غرامة مخالفة سير مثلاً، أصدر المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان مذكرة داخلية تعطي القطاعات الأمنية السلطة الكاملة لتنفذ مهام الضابطة العدلية عند تعذر الاتصال بالنيابات العامة أو تمنعها عن إعطاء إشارة قضائية، الأمر الذي أثار اعتراضات واسعة واتهامات بتحويل البلاد إلى دولة بوليسية.

وتعطي المذكرة الحق لأي عسكري باستخدام السلطة لتوقيف من يعتبره مرتكب جريمة مشهودة، كذلك الإبقاء على أي شخص محتجزاً وليس موقوفاً، بذريعة أنه ارتكب جريمة مشهودة في ظل تعذر الاتصال بالنيابات العامة، وبرر عثمان المذكرة بالخلل الناجم عن الاعتكاف القضائي، الذي أفضى إلى كوارث وعطل مصالح المواطنين.

 

النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات رفض مذكرة عثمان، ورد عليها بشكل حاسم مستنداً إلى القانون، مشيراً إلى أنه لا يحق للعسكريين الحلول مكان النيابات العامة، ليلغي بذلك برقية المدير العام.

وشدد عويدات على أن "إجراءات التحقيق مناطة بإشراف النيابة العامة، بالتالي فإن أعمال نص المادة 40 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لا يستقيم إلا بحضور النيابات العامة".

تفريغ لبنان

تخشى مصادر قضائية أن تنعكس الأزمة على مستقبل العدالة، إذ بات واضحاً أن معظم القضاة الناجحين يتطلعون للبحث عن فرص في الخارج، الأمر الذي يؤكده رئيس "الدولية للمعلومات" جواد عدرا، الذي يكشف عن أرقام صادمة للهجرة من لبنان خلال السنوات العشر الماضية بما يصل إلى نحو 875 ألف مواطن معظمهم خلال السنوات الثلاث الماضية.

وأظهر تقرير للبنك الدولي عام 2020 أن لبنان احتل المرتبة الـ113 بين 144 دولة نسبة إلى ظاهرة هجرة الأدمغة، وأن 53 في المئة من المهاجرين أطباء ومهندسون وأصحاب مهارات، و44 في المئة هم من الجامعيين.

هجرة الأطباء

ومن الواضح أن هجرة الكفاءات لم تتوقف على القطاع العام فحسب، إنما تمددت إلى مختلف القطاعات، وكشف نقيب الأطباء البروفسور يوسف بخاش عن هجرة 3500 طبيب منذ بداية الأزمة، مشيراً إلى أن معظمهم من الذين تتراوح أعمارهم ما بين 40-50 سنة، علماً بأن هناك نحو 600 طبيب يتخرجون سنوياً من الجامعات اللبنانية.

وشرح بخاش أنه خلال العامين الماضيين شهد لبنان هجرة عدد كبير من الأطباء والكوادر الأكاديمية على مرحلتين، الموجة الأولى كانت هجرة الأطباء الأكاديميين في المستشفيات الجامعية الكبرى، وهذا النوع من الهجرة بدأ مع الانهيار المصرفي والنقدي بعد ثورة تشرين 2019، أما الثانية فكانت بعد انفجار مرفأ بيروت الذي قضى على ما بقي من أمل لدى العديد من الأطباء الذين غادروا البلاد مع عائلاتهم، خصوصاً أن 75 في المئة من اللبنانيين غير قادرين على تسديد أتعاب الأطباء.

موجة الهجرة المستمرة طاولت بشكل واسع الأساتذة الجامعيين، ولا سيما الجامعة اللبنانية، حيث فرغت بعض الكليات من أساتذتها، خصوصاً المتعاقدين، وباتت بعض الأقسام مهددة بالإقفال.

وبحسب مصادر الجامعة اللبنانية، تجاوزت نسبة الأساتذة المستقيلين من كليات العلوم وإدارة الأعمال والهندسة والطب 50 في المئة، وتشكل هذه النسبة، وإن كانت تقديرية، مؤشراً خطراً جداً، لأن المتعاقدين في الجامعة اللبنانية والبالغ عددهم نحو 3500 أستاذ يدرسون ما نسبته 80 في المئة من مجمل الساعات التعليمية في الجامعة، التي يدرس فيها نحو 80 ألف طالب وطالبة، أي ما يشكل نحو 36 في المئة من الطلاب الجامعيين في لبنان.

وطاولت الاستقالات الجامعة الأميركية في بيروت أيضاً، حيث خسرت نحو 20 في المئة من كادرها التعليمي.

وأوضح رئيس الجامعة اللبنانية بسام بدران أن هناك عدداً كبيراً من أساتذة الجامعة المتعاقدين أصبح خارج البلاد، وأن العدد أقل في صفوف أساتذة الملاك والمتفرغين.

ولفت إلى تقدم عشرات الأساتذة المتفرغين بطلبات إجازات بلا راتب، وأن الهدف على الأرجح هو استكشاف فرص عمل خارج لبنان، لكنه حتى اللحظة من الصعب الحديث عن عدد دقيق، وذلك بانتظار جمع الطلبات من مختلف الكليات، مذكراً أن عدد الأساتذة المتفرغين يبلغ 1600 أستاذ وأستاذة.

يشار إلى أن راتب الأستاذ الجامعي المتفرغ يتراوح بين 3 ملايين ليرة (70 دولاراً تقريباً) و8 ملايين (200 دولار)، بعد أن كانت قيمته تتراوح بين ألفين و5 آلاف دولار.

المزيد من تقارير