Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بوب ديلن في "هايد بارك"؟ إنه لا يزال أيقونة، لكن صوته في الحفلات يشبه صوت مغنّي حانة مصاباً بالتهاب الحلق

تردّ لوسي جونز، في عمودها الأخير المخصَّص لمواضيع الأسبوع الثقافية، على أخبار تقول إن المغني وكاتب الأغاني الأسطوري سيتصدر مهرجان الصيف البريطاني لعام 2019

رغم اختلاف الآراء حول أدائه, بوب ديلن لا يزال يجذب الكثير من الناس لحضور عروضه (غيتي) 

كان للأخبار بأن حفلات بوب ديلن ستتصدر مهرجانات الصيف البريطاني لعام 2019 تأثير غريب فيَّ،والفكرة الاولى التي طرأت على ذهني كانت: وااووو!!! ديلن في هايد بارك؟ متى ستكون التذاكر متاحة؟ وأين بطاقتي الائتمانية؟ ولكن... سرعان ما تذكرت رحلتي الطويلة إلى حفل ديلن في هوب فارم عام 2012، وكم كان مروِّعًا.  
في طفولتي، كانت لدى والديَّ أسطوانات كثيرة، سبعٌ منها لفناني الروك أو البوب، والبقية كلاسيكية. اثنتان من تلك السبع، ولا أنكر أنهما وُشِمتا في وجداني، كانتا ألبومين لبوب ديلن، "The Freewheelin’ Bob Dylan" (بوب ديلن الطليق) و"Blood on the tracks" (دماء على الطريق).  فضّلْتُ وانا الطفلة الصغيرة، فريق الـ"ABBA" والمغني ستيفي وندر، لكني وقعتُ في وقت لاحق في حب كلمات ديلن وطريقة تعبيره. عندما كنتُ مراهقةً، تحدّثَتْ أغنيتُه "You’re a big girl now" (أنت فتاة كبيرة الآن) عن الخيبات العاطفية لفترة المراهقة، كما وُصف الألمُ في رائعته "Like a corkscrew to my heart" (مثل المثقاب اللولبي لقلبي). أما في عشرينيات عمري، فكانت أغنية "it's alright ma I’m only bleeding" (الأمور بخير يا أماه أنا فقط أنزف) بالنسبة إليَّ بمثابة نشيد القوة في وقت مدمر. عندما كنت أقلّب السطور في رأسي لأجد العزاء والاستنارة في حروف ديلن الوجودية، أدركت أنني محتاجة إلى رؤيته في عرض حي قبل أن يموت.

أعلم أن ما سأقوله سيُعتبَر "تدنيسًا" في نظر أتباع طائفة ديلن، الذين ينتشون بمجرّد وقوفه على المسرح يكوي القمصان، ولكن لا بأس، فعليَّ أن أقول إن أداءه لم يكن جيدًا. في عرض "هوب فارم"، بالكاد استطعت سماع الكلمات تخرج مع صوته المتحشرج، كما لم أتمكن لفترة من التعرف إلى بعض النغمات. لقد بدا لي في بعض الأحيان مغنيَ حانة مخبولًا يعاني التهاب الحلق وقد تناول عددا كبيرًا من أقداح "الشانديز". لم أكن أتوقع أداءً كأداء بول مكارتني الذي كان يترافق مع ابتسامات وغمزات وغناء الجمهور معه وهم يرفعون أذرعهم في الهواء. ولكن حتى هذه الأخيرة افتُقدت، فلم يكن ثمة اتصال مع الجمهور على الاطلاق، أو حتى مجرد إيماءة.

لقد أُخبرت بذلك، وكنت قد وصلت إلى استنتاج، من خلال الآراء المتباينة فيه لسنوات، أن عروضه يمكن أن تكون بخلاف المعهود، إلا أن المشاهدة كانت مزعجة حقًّا. من الناحية الفنية، هو لم يقدِّم صوتًا غنائيًّا مقبولًا، بل كان أقرب إلى نباح الكلب منه إلى صوت "الرمل والغراء"، كما وصفه ديفيد بووي حين كان يتحدث عن قدراته الغنائية. لقد ذكّرني بجيمس براون حين كان عام 2004 يدعم في هايد بارك فرقة "ريد هوت تشيلي بيبرز" بأداء لم يهتمَّ الجمهور به، ما نشر جوًّا كئيبًا للغاية. 

ولكن... إنه ديلن.. لقد كان أمامنا.. وعلى الرغم من أن الكلمات التي كان يزمجر بها ويدمدم لم تكن مفهومة أحيانًا، إلا أنها كلماتُه. لم يبدُ العرض عاديًّا، شعرت وكأني أشاهد فرقة موسيقية تستجيب للملهم (كانت فرقته رائعة). أصدر الرجل 38 ألبومًا سُجِّلت جميعها في الاستديو، ولذا كان حماقةً مني الأملُ في سماع أغنياتي المفضلة Gates of Eden "بوابات عدن"، وHurricane "إعصار"، وتوقُّعُ أغان أخرى بجودة النسخة المسجلة ذاتها. يبدو الأمر كما لو أن أغنياته تعيش مثل كائنات مستقلة يعيد هو تفسيرها واختراعها بحسب مزاجه.  كان ديلن على الدوام شخصًا توهميًّا ولغزًا معاكسًا، كان يفعل ما يحلو له، ومن الطبيعي أنه لم يكن يتعرض لأي ضغوط من أجل إرضاء الآخرين.

شعرت بأني شُطِرتُ شِقَّين. محبَطةً كنتُ ولكن مع شعور بالرهبة، إعجاباً برفضه احترام القوالب والعزفَ وفق ما تريده الحشود ولو كانت جمهوره، العزفَ ولو لروائع أعماله غير العادية. 

في السنوات الأخيرة، فاز ديلن بجائزة نوبل للآداب، وعرض لوحات، وأصدر ألبومات رائعة لاقت استحسان النقاد، وشارك في الكتابة المسرحية لبرودواي، وتعاون لطرح نوع من الويسكي... وبطبيعة الحال ما زال يقوم بجولته الفنية "Never Ending Tour" (جولة لا تنتهي). يبلغ من العمر 77 سنة. إنه ليس ذلك الشخص الذي يعزف الموسيقى الحية أو يصنع فنًّا لأنه يريد المال أو يحتاج إليه. إنه يعزف موسيقى حية لأنه يجب عليه ذلك، لأنها جزء منه.

تنوعت الآراء حول موسيقاه في العقد الماضي، على رغم أنه يعزف قوائم أغانيه ذاتها. يرى بعض الناس أن العروض كانت سامية ومبهجة، وبعضهم وجدها منفرة، بل حتى إساءةً في استخدام السلطة، لكنهم في الإجمال لا يزالون يرغبون في مشاهدته يغني. كانت وحيدةً تلك المرة التي أخذ فيها استراحة من جولاته الفنية مدتها ثلاثة أشهر عام 1988. ربما للأمر علاقة  بتجربة البلوز مع فرقة كاملة، صوت لا تسمعه كثيرًا هذه الأيام.

وبعد وفاة برينس، وديفيد بووي، ولينارد كوهين، ولو رييد، وإريثا فرانكلين، يبدو أننا في سنوات شفق مُرّة تخبو معها شمس نجوم موسيقى روك وبوب الستينيات، وتزيد في مرارتها مشاهدةُ هذا الحرس القديم يخرج للأداء بأصوات منهكة عالمياً ووجوه ذابلة. 
في مقابلة نادرة مع بوب فلاناغان نُشرت على موقع ديلن الإلكتروني عام 2017، سُئل عما إذا كان يرى شخصًا مختلفًا عندما يشاهد نفسه يقدم عروضًا منذ 40 أو 50 عامًا، فأجاب: "إنني أرى نفسي كأغنية " Nature Boy " (فتى الطبيعة) لـنات كينغ كول.. فتى غريب، مسحور جدًّا، فنان محنك للغاية، يجمع في داخله مزيجًا من كل أنواع الموسيقى، ووصل بالفعل إلى ما بعد الحداثة". وتابع: "ذلك شخص مختلف عما أنا عليه الآن".

لا يمكن أن يُتهم ديلن بالثبات أو البقاء على حاله. لقد صنع حياة من كلماته، "فلتكن يداك مشغولة دائمًا/ ولتكن قدميك سريعة دائمًا/ وليكن لديك أساس قوي/ عندما تهب رياح التغيير". كان الأمر كما سيكون دائمًا... إنه الأمر الوحيد الأكيد في ما يتعلق بديلن. ولكن إذا كنت تفكر في الحصول على تذكرة بقيمة 75 جنيهًا إسترلينيًّا في مهرجان الصيف البريطاني حتى تسمع -على سبيل المثال- أغاني مثل "Blonde on Blonde" (شقراء على شقراء) أو "دماء على الطريق" بجودة تسجيل الاستوديو ذاتها، فاحذر. إنها ليست 1966 أو 1975، ولن تحصل على الجودة ذاتها بالتأكيد ولو في حفلة صيفية كبيرة في حديقة.

 ما سوف تشاهده هو أيقونة القرن العشرين حية تتنفس، الفنان الذي لم يقدم تنازلات على الإطلاق، والذي غيّر كل شيء جاء بعده. بالنسبة إليَّ، أعتقد أنني سأبقى في المنزل وأستمع إلى النسخ الأصلية.
 

© The Independent

المزيد من فنون