Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روافد التمرد... من هم التيغراي؟

يستمدون وحدتهم من كونهم ورثة مملكة أكسوم القديمة وجزءاً من صراعات المنطقة عبر التاريخ

نشأت أول حركة تمرد للتيغراويين على الحكم الأمهري بقيادة الإمبراطور هيلي سلاسي الذي فرض نمط حكم شديد المركزية (أ ف ب)

مع انفجار الحرب في شمال إثيوبيا بين الحكومة المركزية الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي، تناولت الوسائط الإعلامية والبحثية هذا الصراع الذي تفجر بشكل واسع وسريع، وبدا أن المتلقي العادي من خارج هذه المنطقة المجبولة بالصراعات المسلحة، غير قادر على تحديد خلفيات هذه الحرب، فضلاً عن من هم التيغراي، وماذا يمثل هذا الإقليم في تاريخ إثيوبيا والمنطقة ككل، ولماذا تداخلت الأدوار المحلية والخارجية في التعاطي مع نوع من "التمرد" الذي قادته حكومة الإقليم، تحت لواء التنظيم الأبرز الذي حكم إثيوبيا لما يقارب ثلاثة عقود، وهو الأمر الذي يتطلب أن نعود قليلاً لتاريخ هذه المنطقة وخصوصيتها الجغرافية والتاريخية والعرقية والحضارية، لنتلمس خلفيات الصراع.

في التاريخ القديم 

بالعودة إلى تاريخ الحبشة ككل، لا سيما على مستوى تكويناتها البشرية وأصول سكانها في ما قبل التاريخ، يقول إدريس جميل الباحث في الشأن الأفريقي، لـ"اندبندنت عربية"، إن "هناك مجموعة من الشواهد القائمة على الاستقراءات التقريبية تشير إلى أن سكان منطقة الحبشة ينتمون إلى سلالات تنحدر من ثلاثة أصول: نيلية، وحامية، وسامية، ويعتقد أن أول من سكن هذه المنطقة هم المجموعة النيلية وحتى مجيء المجموعة الحامية القادمة من الجزيرة العربية عبر باب المندب". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتابع "هنالك من يرى أن القبائل الحامية نزحت إلى هذه المنطقة من القوقاز عن طريق مصر والنيل عبر موجات متعاقبة في زمن غير معروف للمؤرخين مما دفع السكان الأصليين إما إلى الاختلاط معهم أو النزوح إلى خارج تلك المنطقة أو التقوقع في مناطق محدودة فيها".

ويضيف جميل "عند انهيار سد مأرب قبل عشرة آلاف عام تقريباً نزح كثير من قبائل تلك المنطقة، وأشهرهما قبيلتي حبشات وجعز عبر باب المندب وجزيرة دهلك إلى الهضبة الحبشية، واستوطنوا فيها واستطاعوا أن يفرضوا وجودهم هناك نظراً إلى ما كانت تتمتع به هذه المجموعات من كنوز أهمها: معالم حضارية عريقة متمثلة في اللغة المكتوبة، ومهارات زراعية متقدمة، وأساليب متطورة للتحكم في مياه الأمطار عن طريق إنشاء المدرجات والمسطحات على سفوح الجبال وزراعتها بالمحاصيل والأشجار، كما حملوا معهم فنونهم المعمارية وبراعتهم في النحت على الحجر، وبناء السدود الضخمة الثابتة لحجز المياه التي اشتهرت بها مدينة مأرب التاريخية".

يؤكد جميل عدم وجود أية فواصل واضحة حالياً بين المجموعات الثلاث المعروفة، موضحاً "ليس ثمة مجموعة صافية العرق بل مجموعات لغوية أصبحت تتكلم لغات من النوع النيلي، والحامي، والسامي، كما هو معروف في علم أنثرولوجيا الأصول البشرية، وقد اعترت تداخلات وتحولات من مجموعة إلى أخرى. ومن هنا يمكن القول إن سكان هذه المنطقة قد تشكلوا عبر ردح من الزمن من عناصر منحدرة من الأصول الثلاثة تكون منها في المحصلة النهائية هذا الخليط البشري المعروف بالعنصر الحبشي في التاريخ.

تركة مملكة أكسوم 

بدا العنصر السامي تاريخياً أكثر هيمنة في أعالي الهضبة وتشمل مناطق تيغراي، وشوا، وقوجام. وهذه المقاطعات الثلاث مجتمعة أسست مملكة أكسوم التاريخية (80 قبل الميلاد - 825 ميلادي) وامتد نفوذ هذه المملكة إلى مناطق الهضبة الإريترية وما وراءها.

وقد أنشأ الأكسوميون إمبراطورية قوية في المنطقة (الواقعة في إقليم تيغراي الحالي)، كما تركوا إرثاً حضارياً كبيراً يؤرخ لأنماط الإدارة والحكم، ولوحات ومنمنمات ومنحوتات ضخمة لأهداف دينية قبل مجيء المسيحية، وتعتبر إحدى هذه الأعمدة المصنوعة من الصوان (الغرانيت) من أكبر المباني الغرانيتية في العالم، ويصل طولها إلى 90 قدماً (نحو 27.5 متر)، وأنشئت في عهد عيزانا (الذي ازدهر حكمه بين عامي 320 و360 ميلادي)، وتحولت أكسوم إلى المسيحية في القرن السابع الميلادي، وإليها لجأ المسلمون الأوائل من مكة خوفاً من اضطهاد قريش، وتعرف تلك الرحلة في التاريخ الإسلامي بالهجرة الأولى، أو الهجرة الأولى إلى الحبشة.

التحول إلى إثيوبيا

بدأ استخدام مسمى "إثيوبيا" للمملكة في القرن الرابع، وهو الوقت ذاته الذي أصبحت المسيحية ديانتها الرسمية، ومثلت العاصمة الدينية في المنطقة لمدة طويلة، وأصبح ملكها حامي حمى النصرانية في المنطقة. واستمرت على تلك الحال لزمن طويل إلى أن تعرضت للهزيمة في اليمن علي يد الفرس وزحفت قبائل البجة شديدة المراس من الشمال إلى أراضيها، ودخلت بعدها مملكة التيغراي في عزلة تامة لقرون عدة استمرت من عام 650 إلى 1270 وهو التاريخ الذي انتقل فيه حكم الحبشة إلى أسرة زاقوي الأجوية الحامية اليهودية من شمال الحبشة.

وبعد تحالف بين "يكونو أملاك" من الأسرة السليمانية و"تكلا هيمانوت" من الكنيسة الحبشية ضد الأسرة الأجوية الحاكمة مرة أخرى انتقل الحكم عام 1270 إلى أصحاب مملكة أكسوم، وحولت عاصمة المملكة الحبشية إلى بلاد الأمهرا بدلاً من لاستا، وبعد أن استتب الأمر الداخلي للحكام الجدد بدأوا يعززون مراكزهم بتوسيع مملكتهم نحو الشمال الغربي إلى مناطق قوجام، وداموت، وبجمدر، وبعدها توجهوا لإيقاف المد الإسلامي الذي كان ينتشر في دواخل الحبشة، ولإيجاد منفذ بحري للاتصال بالعالم الخارجي، الأمر الذي أدخلها في صراع مستمر مع المجموعات الوثنية في الجنوب ومع المسلمين في ممالك الطراز الإسلامي ووصل الصراع ذروته في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وبخاصة في عهد عمداصيون الذي حكم المملكة الحبشية بين "1314-1344"، والذي اعتبره كثير من المؤرخين المؤسس الحقيقي للإمبراطورية السليمانية.

صراعات على السلطة 

القرون التالية شهدت مرحلة من الفوضى والتفكك، إذ استقل حكام الأقاليم بمناطقهم، وما عاد للمركز من سيطرة، وفقدت الكنيسة ممتلكاتها في القدس، ولم تستعد إثيوبيا عافيتها إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الإمبراطور ثيودروس (1855-1868)، ثم خلفه الإمبراطور يوحنس الرابع (1872 -1889)، وهو آخر ملوك التيغراي، قبل أن يخلفه الملك منيليك (1889 -1913) الذي يعد المؤسس لإثيوبيا الحالية بخريطتها المعروفة الآن.

وحينما رحل منيليك عام 1913 لم يكن له ولد يرثه فورث عرشه سبطه ليج إياسو. لكنه أزيح من العرش وتولت ابنة منيليك زوديتو، وأصبح رأس تفارى وصياً ووارثاً للعرش، فاستولى رأس تفارى على العرش بعد إزاحة زوديتو عام 1928 تحت اسم الإمبراطور هيلي سلاسي الأول، ومنذ توليه عرش البلاد أسس ثقافة إثيوبية رسمية تدور حول فلك تقديس ذات الإمبراطور مستخدماً في ذلك المؤسسة الإمبراطورية، والكنيسة القبطية، والقوى الإقطاعية، في أجواء من العزلة والاستبداد، كما فرض ثقافة مركزية تتمثل في الثقافة الأمهرية عوض التيغراوية. 

وقد أضحت أكسوم لاحقاً مجرد مدينة في إقليم تيغراي الحالي، وثمة مزاعم قديمة تفيد بأن أكسوم هي المكان الأخير الذي وصل إليه تابوت العهد، والموطن الأصلي لملكة سبأ.

تيغراي ملاذ المضطهدين 

بدوره يقرأ تسفالدت أسرات تاريخ التيغراي بمعزل عن تاريخ إثيوبيا الحديث، معتبراً "أن انهيار مملكة أكسوم ودخول المنطقة في حروب طويلة وظهور نخبة جديدة للحكم بدءاً بالملك تديروس، قضى على الامتداد الحضاري الذي مثلته المملكة بكل معالمها التاريخية"، مشيراً إلى أنها كانت "نموذجاً للحكم الراشد في وقت متقدم من التاريخ، وشهدت استقراراً كبيراً لم تعرفه كبريات الإمبراطوريات في ذلك العصر".

ويدلل أسرات "على أن مملكة أكسوم كانت ملاذاً لكل من يعاني من الاضطهاد الديني والسياسي في بلاده، ومن بينهم أصحاب النبي محمد، الذين لجأوا من بلادهم مكة إلى أكسوم، فوجدوا الترحاب وحق اللجوء الديني والإنساني". 

ويضيف "في كتب التاريخ الإسلامي هناك أقوال للنبي محمد تتحدث عن عدل أسحما ملك أكسوم، وأن لا أحد يظلم في حكمه، بل إنه يمثل ملاذاً لكل المضطهدين والمظلومين"، مؤكداً أن "تكالب الطامعين على حكم هذه المملكة قاد المنطقة ككل إلى تواريخ مظلمة ساد فيها القتل والغزو والنهب، على عكس التاريخ الذي سطرته تلك المملكة كنموذج للاستقرار والعدل والحكم الراشد". 

حركة التمرد الأولى

نشأت أول حركة تمرد للتيغراويين على الحكم الأمهري بقيادة الإمبراطور هيلي سلاسي، الذي فرض نمط حكم شديد المركزية سواء في إدارة السلطة والثروة، أو في الشأن القومي والثقافي الذي جعل منطقة تيغراي التاريخية على الهامش، مما دفع التيغراويين إلى تأسيس حركة التمرد الأولى في مايو (أيار) – نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، وأطلقوا عليها مسمى "وياني" (Woyane)، وهو اسم مستعار من لعبة محلية بين مجموعات متنافسة من الشباب من قرى مختلفة، وتعني "الطليعي" مما يدل على روح المقاومة، وعلى رغم نجاحهم في اجتياح المقاطعة بأكملها فإنهم هزموا من الجيش النظامي الإثيوبي المدعوم من سلاح الطيران البريطاني الحليف، وبعد ثلاثة عقود قامت الحركة الثانية تحت مسمى الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي عام 1975.

يرى جميل أن "ثمة خلاصات مهمة يمكن استلهامها من تاريخ التيغراي لقراءة المشهد السياسي اليوم، أهمها أن التيغراويين يستمدون قوتهم ووحدتهم من كونهم ورثة مملكة أكسوم التاريخية، وباعتبار أنهم جزء أساس في الصراعات والتدافع في هذه المنطقة عبر التاريخ سلباً وإيجاباً، وطالما تبادلوا الحكم مع قومية الأمهرة". 

ويضيف أن ما يميز التيغراي عن غيرهم هو وحدة الهوية التي تمثل الكنيسة الأرثوذكسية قوامها، فضلاً عن وحدة اللغة (التغرينية)، وكل ذلك أسهم في قدرتهم على صهر القادم إليهم في ثقافتهم، كما أسهم الموقع الجغرافي أيضاً في توفير الحماية من الاختراق حيث يتميز الإقليم بتضاريس جبلية وعرة.

إلى ذلك يتميز التيغراويون كأحد الشعوب العريقة في المنطقة بخصائص أهمها "المركزية الحادة، والسعي دائماً لعقد التحالفات لا سيما مع القوى الغربية، وقد ساعد وجودهم في الحزام الفاصل بين الحضارة المسيحية والإسلامية، في جلب الاهتمام من القوى الدولية والإقليمية".

ويختم جميل بالقول إن "التيغراويين يعرفون جيداً استحقاقات السلطة، لكن من نقاط الضعف إن الثقافة الحبشية عموماً تقوم تاريخياً على قاعدة الغالب والمغلوب عوض ثقافة الحوار والتداول السلمي للسلطة، وهذا ما يبرر التدافع الذي عرفته المنطقة منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة".

المزيد من تقارير