بعد إطلاق أنقرة عملية عسكرية جديدة باسم "المخلب السيف" ضد مسلحي حزب "العمال الكردستاني" في إقليم كردستان العراق والمناطق الكردية في شمال سوريا، تتباين الرؤى والاحتمالات المطروحة وراء الدوافع في ملف يعد تاريخياً ضمن الأوراق المؤثرة، وربما الحاسمة أحياناً في حلبة الانتخابات التركية.
وشن الجيش التركي، ليل السبت/ الأحد، سلسلة غارات جوية إلى جانب قصف مدفعي على ما قال إنها مواقع لـ"حزب العمال الكردستاني" المعارض في معاقله داخل الحدود العراقية من جهة إقليم كردستان والمناطق الكردية في شمال سوريا، والذين تصفهم أنقرة بـ"الإرهابيين" ضمن عملية أطلق عليها اسم "المخلب السيف" بعد نحو سبعة أشهر من شنها عملية مماثلة باسم "مخلب القفل".
وأعلن وزير الدفاع التركي خلوصي آكار أن "العملية حققت إصابات مباشرة بعد توجيه 89 ضربة جوية" في وقت كشف فيه جهاز "مكافحة الإرهاب" التابع لحكومة إقليم كردستان عن مقتل نحو 32 من عناصر العمالي.
وقالت إنقرة إن العملية تأتي "في إطار الدفاع عن النفس المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وضمان سلامة الحدود والقضاء على الإرهاب" بعد أيام من اتهامها للميليشيات الكردية بالوقوف وراء انفجار إسطنبول الذي أوقع ستة قتلى وعشرات الجرحى.
وينظر إلى العملية التركية على كونها تأتي لاستكمال خطتها في إنشاء منطقة آمنة ممتدة من معاقل "العمالي" في جبال كردستان إلى حدودها الجنوبية مع سوريا، إلا أن الأهداف التركية قد تتعدى ذلك لتشمل طموحاتها "التاريخية" في المنطقة، أو تكون ورقة ضمن الصراع السياسي الداخلي التركي قبيل الانتخابات المقررة في يونيو (حزيران) من العام المقبل، من دون استبعاد أن يكون ضمن صراعها الدائر مع طهران على النفوذ في المنطقة.
مبررات مبطنة
وفي شأن طبيعة الدوافع التركية يربطها المحلل كمال رؤوف بالتطورات الحاصلة في المنطقة، بخاصة في كل من العراق وإيران، إذ قال، "يبدو أن الاضطرابات في إيران والوضع السياسي المتوتر في إقليم كردستان والتغيرات السياسية التي حصلت في بغداد، تمنح أنقرة فرصة للاندفاع، بخاصة أنها لديهما طموحات تاريخية لا تخفيها في الإقليم ومواقفها المضادة لطموحات الشعب الكردي". وأردف أن "أنقرة اتخذت من انفجار إسطنبول الأخير طعماً لطرح سيناريو يظهر الكرد بأنهم يشكلون تهديداً للدولة التركية، وهذا لا يبدو واقعياً لأن الإقليم راعى مصالح الدولة التركية كثيراً، سواء في مسألة النفط أو على صعيد التبادل التجاري، أو من حيث الصمت الكردي تجاه الاعتداءات التركية المتكررة، إذاً ما الذي تريده أنقرة من الكرد؟".
ويتساءل رؤوف، "إذا لم تكن لدى الأتراك نزعة تاريخية ضد الكرد، ماذا يريدون بالضبط؟ على رغم أن الكرد لعبوا دوراً فاعلاً في دحر تنظيم (داعش) وتحقيق الاستقرار في المنطقة، لذا فإن مبررات الأتراك غير منطقية". وتابع، "يبدو أن الأتراك يحاولون استغلال موقعهم الجغرافي لتحقيق غاياتهم في ظل الصمت الدولي القائم، العراق يعاني ضعفاً، وهو منشغل بأزماته، وتعاني قواه ومكوناته حالة استقطاب حتى داخل كل مكون، وهذا يسهل التدخلات الإقليمية".
نقطة التقاء المصالح
واستبعد رؤوف احتمالات وجود تنسيق رفيع بين أنقرة وبغداد وطهران لضرب المسلحين الأكراد، قائلاً إن "النقطة المشتركة الوحيدة بين الأطراف الثلاثة، بخاصة أن هناك قوى عراقية ترغب بذلك وتعتقد أن الإقليم أصبح دولة داخل دولة، هي نشر قوات اتحادية على الحدود بعد طرد القوى الكردية المعارضة، وإذا ما حصل ذلك فإنه سيشكل ضربة للإقليم". وعن تقييمه لموقف ودور حكومة الإقليم يعتقد أن وضعها "ليس بأفضل حال من بغداد، هناك انقسام سياسي، حتى إن البعثة الأممية سبق وحذرت من المخاطر المحدقة بكيان الإقليم، وفعلت واشطن الشيء نفسه عندما استضافت وزير البيشمركة وأبلغته بضرورة توحيد قوات البيشمركة المنقسمة بين الحزبين الحاكمين، وحذرت من استمرارها كميليشيات حزبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتأتي العملية التركية متزامنة مع تسريبات أوردتها وكالة "أسوشييتد برس" نقلاً عن مسؤولين عراقيين وأكراد قولهم إن "بغداد تلقت تهديداً إيرانياً من قائد (فيلق القدس) التابع للحرس الثوري إسماعيل قآني أثناء زيارته لبغداد، الإثنين الماضي، بشن عملية عسكرية برية في إقليم كردستان إذا لم يبسط الجيش العراقي سيطرته على الحدود المشتركة"، بعد يوم من هجمات صاروخية شنتها طهران على مقار تابعة للقوى الكردية الإيرانية في الإقليم.
ورقة انتخابية
إلا أن المحلل سامان نوح يقدم رؤية مختلفة عن رؤوف في طبيعة دوافع الهجوم التي يرى أنها ترتبط مباشرة بالوضع السياسي التركي داخلياً، قائلاً، "تركيا مقبلة على انتخابات يبدو أنها ستكون حامية منتصف العام المقبل، لأن حزب الرئيس رجب طيب أردوغان يعاني تدني شعبية حزبه الذي يأتي لأول مرة منذ تسلمه للسلطة خلف تحالف المعارضة بنحو 10 نقاط وفق استطلاعات الرأي، وهنا يبدو أن هناك نصيباً مؤثراً للكرد في هذه المعادلة، وقد يكونون أداة لترجيح الكفة لأحد الطرفين". ولفت إلى أن "أردوغان أمامه أحد خيارين، إما حل تحالفه مع القوميين، وهذا مستبعد بالطبع، أو الاتفاق مع الكرد، وقد حاول ذلك بالفعل، لكن يظهر أن القوميين يرفضون، حيث يوجه البعض من هؤلاء أصابع الاتهام للأكراد بالوقوف وراء هجوم إسطنبول الأخير، في محاولة لإحباط أي خطوة بهذا الاتجاه التي من شأنها أن تضعف ثقل القوميين".
ويعتقد نوح أن أردوغان يستخدم الهجوم للضغط على حزب الشعوب الديمقراطي الكردي للتوصل إلى اتفاق سياسي لأنه لا يبدو أن أمامه أي خيار أفضل حالياً طالما تمكنت المعارضة من الحفاظ على وحدة ائتلافها، وقد يصعد من وتيرة الحرب ضد الكرد في حال فشل بإقناعهم، وهذا سيظهر خلال الأشهر القليلة المقبلة، وحينها يمكنه اللجوء إلى خيار تأجيل الانتخابات تحت مبرر حماية الأمن القومي". وأضاف، "حتى لو نجح في ذلك فإن عليه أن يقدم بعض التنازلات التي قد لا تعجب القوميين، وهذه معادلة صعبة".
صراع على النفوذ
واستبعد نوح وجود تنسيق إيراني - تركي مسبق لضرب الأكراد قائلاً، "قد يكون العكس، فالتهديدات الإيرانية بشن هجوم بري إلى داخل الإقليم تثير قلق أنقرة التي تحاول اليوم توسيع نفوذها قبل طهران، وصراع النفوذ بين الدولتين في الداخل العراقي واضح". وأضاف، "طهران بإمكانها شن هجوم بري كما تفعل أنقرة، لكن بشكل محدود، ولا ننسى أن تركيا لا تستطيع الوصول براً إلى جبال قنديل (معقل حزب العمال الكردستاني) وأحد الأسباب هي التحفظ الإيراني نتيجة قرب الموقع مع حدودها، بدليل أن طهران تركز في هجماتها على المجاميع الكردية المعارضة مثل (الديمقراطي) و(كوملة)، لكنها لا تستهدف كثيراً حزب الحياة الحرة (جناح مسلح تابع لحزب العمال) على رغم أنه الوحيد الذي له ثقل عسكري فعال في شن هجمات، تجنباً لإخلاء الساحة لأنقرة". وختم نوح مؤكداً أن "كلتا الدولتين تستخدم ملف الأكراد كمخرج لأزماتها الداخلية".
تواطؤ أميركي
أما أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والفلسفة في جامعة صلاح الدين في أربيل، كامران منتك، فأعطى من جانبه قراءة مختلفة كون الدوافع التركية تأتي ضمن التوجه الأميركي لإعادة رسم خريطة المنطقة. ويرى أن "تحذير واشنطن مواطنيها من زيارة الإقليم والمناطق الكردية السورية قبل ساعات من انطلاق الهجوم التركي، مؤشر إلى وجود تفاهم أميركي - روسي مسبق، وقد حصل أمر مماثل في منطقة سريكاني (رأس العين) وغري سبي (التل الأبيض) في سوريا عندما أعطوا لأنقرة الضوء الأخضر لاحتلالهما، واليوم يحصل الشيء نفسه في محاولة لاستكمال سيطرة تركيا على المناطق المتبقية ضمن مشروعها لإنشاء ما يسمى المنطقة الآمنة، ووفق هذا التحليل فإن واشنطن بدلاً من أن تحمي إقليم كردستان، تشرف على تقسيمه". وأشار إلى أن "اللافت كان وصف بيان القنصلية الأميركية الإقليم بشمال العراق، وهذا يعني أن الحزام الأمني التركي وما يسمى منطقة السلام التي تريد إنشاءها يشمل حدود الإقليم، ويؤشر إلى التساهل الأميركي لتركيا إلى وجود توجه للتقسيم ضمن العملية الجارية لتشكيل النظام العالمي الجديد، كما تأتي ضمن عملية إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وللأسف كل المؤشرات تذهب باتجاه أن تصبح كردستان ضحية من جديد".
مشهد معقد
وفي شأن رؤيته حول التهديدات الإيرانية بشن هجوم بري على الإقليم يعتقد منتك أن "تحشيد طهران عند الحدود وتكثيفها لتحركاتها الدبلوماسية مع دول المنطقة، يعقد المعادلة، وهذا له احتمالان، إما أنها تلقت أيضاً، مثل أنقرة، الضوء الأخضر لأخذ موطئ قدم لها في الإقليم، من أجل مواءمة حدودها مع تركيا وعدم السماح للأخيرة بفرض هيمنتها الجغرافية، أو أنها تسعى لاستغلال الفرصة بغية مهاجمة الإقليم، لكن في كل الأحوال الإقليم أمام مرحلة خطيرة، في وقت تعاني فيه قواه السياسية من انقسام حاد، وهي تخوض حواراً عقيما داخل حلقة مفرغة".