Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صندوق النقد طوق نجاة أم أداة للهيمنة الدولية؟

تذهب بعض الدول إلى أن دوره يتمثل في الإنقاذ النزيه وقت الأزمات الكبرى وترى أخرى أنه وراء إعلان الإفلاس

خلاف دولي على تحديد الدور المنوط به صندوق النقد في الأزمات العالمية الكبرى (أ ف ب)

مرة أخرى يتجدد الجدل حول دور صندوق النقد الدولي، وهل هو بستان الموعودين أم صندوق الشياطين؟

الموعودون يرون فيه أداة للإنقاذ المالي، لا سيما عندما تدلهم المخاطر الاقتصادية، وتشعر الشعوب بالعجز فلا يجدون من حولهم سوى أن يولوا وجوههم شطر العاصمة الأميركية واشنطن قاصدين الصندوق الأشهر، وعلى أمل أن يكون المنقذ والمخلص، أو هكذا يخيل إليهم على أفضل تقدير. غير أنه وعلى جانب آخر، هناك من يرى الصندوق عينه جحيماً للشياطين، والتعبير قريب جداً من الوصف الذي خلعه الأرجنتينيون عليه، بخاصة بعد تجاربهم المرة، في الاقتراض منه، والمآلات التي قادهم إليه.

 يتجدد الجدل هذه الأيام حول دور الصندوق بعد قرابة ثلاثة أعوام من تفشي جائحة "كوفيد-19" المهلكة، وما فعلته في البشرية، من أدنى المسكونة إلى أقصاها، ولم تكتف المقادير بذلك، بل جاءت الحرب الروسية – الأوكرانية التي تلقي بظلالها السوداء على أوضاع العالم الاقتصادية في العام المقبل 2023، ما يجعل الصندوق نصب أعين المهانين والمجروحين من أقنان الأرض.

ماهية الصندوق

مؤسسة مالية دولية، مقرها العاصمة الأميركية واشنطن، ويتألف أعضاؤها من 190 دولة. يعد الصندوق أحد أهم تجليات نظام "بريتون وودز"، الذي نظم شؤون العالم اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية، وبنيته التكوينية تعود إلى عالمين من كبار المفكرين الاقتصاديين في منتصف القرن الـ20 هما هاري ديكستر وايت، وجون مينارد كينز، ويعد عام 1956 هو البداية الحقيقية لعمل الصندوق، وذلك من خلال مشاركة 29 دولة في رسم خيوطه الأساسية.

يدير الصندوق مجلس إدارة مكون من 24 عضواً، 8 منهم دائمون، وتعد الخزانة الأميركية المساهم الرئيس بنسبة 16.5 في المئة، تليها اليابان بـ6.14 في المئة، ثم الصين بـ6.08 في المئة، وتمتلك الدول الأوروبية مجتمعة العدد نفسه لأسهم الولايات المتحدة.

كل عضو في الصندوق يملك رأسمال مكوناً من الاشتراك المدفوع عند الانخراط، ومن توزيع أسهم مجانية على مر السنين.

ويرتبط حجم القروض التي يقدمها الصندوق بالمساحة الاقتصادية والدبلوماسية للمقترض، والظرف الاقتصادي وعلاقته بواشنطن.

ماذا عن الأهداف الرسمية المعلنة للصندوق؟

يمكن اختصاراً إجمالها في العمل على رعاية التعاون النقدي الدولي، والحفاظ على الاستقرار المالي، وكذا تسهيل التجارة الدولية، والحث على رفع معدلات التوظيف والنمو الاقتصادي المستدام، عطفاً على تقليص الفقر في مختلف أنحاء العالم.

على أن هناك انسداداً تاريخياً ملاحظاً في عملية إصلاح الصندوق منذ سنة 2010، بسبب معارضة الولايات المتحدة في شأن تخفيض مساهمتها لمصلحة الوافدين الجدد مثل الصين، وتبدو واشنطن متمترسة وراء جدار الصندوق، وكأن العالم لم يتغير منذ عام 1945، الأمر الذي يستدعي تساؤلاً عميقاً عن ما ورائيات المشهد؟

 

 

صندوق النقد والهيمنة العالمية

يعلو كثير من الأصوات متساءلة عما إذا كان الصندوق أداة محايدة لاستنقاذ الأمم والشعوب، أم أنه أحد أوراق الهيمنة العالمية المالية التي خلقت النظام العالمي منذ ثمانية عقود تقريباً، هذا النظام الذي تكرس بنوع خاص بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود، ونشوء وارتقاء النظام الدولي الجديد، بقيادة الولايات المتحدة، وفي عهد بوش الأب.

يمتلك الجانب الأميركي حق النقض "الفيتو" بحكم الأمر الواقع، يسمح له بمنع أي عملية يعتبرها مخالفة لمصالحه، على سبيل المثال في خريف 1956، عندما هاجمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، مصر، منع البيت الأبيض قرضاً طلبته لندن، ما وضع الجنيه الاسترليني في وضع صعب، وأجبر الحكومة البريطانية على التخلي عن حملة السويس.

يذهب الصحافي وأستاذ الفلسفة الألماني أرنست فولف، "إلى التعليق على فكرة حيادية صندوق النقد الدولي بالقول إنها ترن في أذن الساسة، كأن الصندوق مؤسسة حيادية، يكمن هدفها الرئيس في ترك العالم الاقتصادي يعمل بأكبر قدر ممكن من النظام، وفي تصحيح الاختلالات بأسرع وقت متاح".

لكن الحقيقة، هي إنها إحدى المؤسسات التي أنشأتها القوة العظمى الجديدة، الولايات المتحدة، لتفرض ليس هيمنتها العسكرية فحسب، بل الاقتصادية أيضاً على العالم. وقد عرفت أدوار الصندوق في مراحله المختلفة جدلاً واسعاً، حول نجاعتها من جهة، وحول مدى ارتباطها بأجندات سياسية توجهها من جهة أخرى.

سياسات إصلاحية أم كارثية؟

يحاجج المدافعون والمنافحون عن الصندوق بأنه ليس السبب وراء أزمات عديد من دول العالم التي تدخل لإنقاذها. ومرد الأمر، هو أن أصول مصائب تلك الدول متراكمة على الصعيد الداخلي، حيث تؤدي السياسات الجبائية، والإنفاق العام المفرط، أو سعر الصرف غير المناسب، عاجلاً أو آجلاً، إلى توقف النمو الاقتصادي بالتوازي مع ندرة متزايدة في العملة الأجنبية. وفي هذا الحال، يصبح من غير الممكن شراء الضرورات، والقيام بواجبات الحياة الرئيسة.

يقول رئيس الجمعية الخيرية البريطانية المعنية بمعالجة الديون ومشكلات اللامساواة العالمية جيروم فيلبس، "إن صندوق النقد يزعم أنه لم يعد يفرض سياسة التقشف على أحد، لكن لا يمكن تجنب استعمال هذا المصطلح، إذ لا تزال عملية الإقراض تتطلب شروطاً تؤثر في أفقر الناس، في زمن ترتفع فيه أسعار الوقود والمواد الغذائية على نحو كارثي".

وغالباً ما تكون السياسات المطلوبة من الدول التي تتلقى القروض من الصندوق مؤلمة، بادعاء تحسين ميزانياتها المالية، وتسهيل وصولها إلى أسواق الرساميل العالمية. تلك السياسات تدخل عادة في خانة التدابير التقشفية، إذ يطلب من الحكومات التي تطلب القروض، أن تقوم بخيارات شائكة مثل تقليص منافع الرعاية الاجتماعية، أو خفض الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية.

ولعله من المؤكد أن سياسات صندوق النقد الدولي في أغلب دول العالم الثالث على وجه التحقيق والتدقيق، كانت لها نتائج كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. تترك تلك السياسات الدول الفقيرة أكثر فقراً مما كانت، مع ارتفاع الديون وتعاظم الفوائد وزيادة معدلات البطالة ونسب التضخم.

لا تبدو هذه اتهامات جزافية، بل تجارب تاريخية، فعلى سبيل المثال، وفي عام 2002، أزالت غانا التعريفة الجمركية على وارداتها الغذائية طبقاً لتعليمات الصندوق، وكانت النتيجة إغراق أسواقها بالمنتجات الأوروبية أضر بالغ الضرر وأصاب المزارعين، كما رضخت زامبيا كذلك لشروط الصندوق، وأزالت التعريفة على وارداتها من الملابس التي كانت تعمل بها نحو 140 شركة محلية للملابس، وخلال فترة قصيرة لم يتبق من هذه الشركات المحلية سوى ثماني شركات فقط.

 

 

مسارب الشك ومواضع اليقين

تبدو الإجراءات التي يمضي صندوق النقد في طريقها غير واقعية، بل ربما غير مقبولة حتى من العقول الدولية التي لها باع كبير في التفكر والتدبر ووسط رجالات الإنتلجنسيا العالمية بنوع خاص.

خلال الصيف الماضي، وفيما نذر العاصفة الاقتصادية تهب على العالم، دعا أكثر من 500 أكاديمي ومنظمة دولية من 87 بلداً الصندوق الشهير والحكومات الوطنية إلى وقف تدابير التقشف مقابل تأييد السياسات التي تدعم العدالة بين الجنسين، ناهيك بالأمن البيئي وتخفيض اللامساواة في الدخل.

تدفعنا الآثار الاقتصادية الكارثية التي ظهرت على أغلب الدول المقترضة للتساؤل حول ما إذا كان هناك دور خفي يلعبه الصندوق لصالح الدول المسيطرة عليه، وعلى الاقتصاد العالمي بشكل أوسع، وعلى رأس تلك الدول الولايات المتحدة بهدف لا يغيب عن أعين الناظرين يتمثل في تكبيل اقتصادات الدول الفقيرة، وإغراقها في مزيد من الديون والتبعية؟

هل التساؤل من قبيل التفكير والتفسير التآمري للتاريخ أم أنه محاولة لقراءة ما هو أكثر عمقاً من الظاهر على السطح، لا سيما أن السياسة الدولية، ليست فردوساً للأطهار، ولا يوتوبيا لأصحاب النيات الحسنة. ربما نجد الجواب الشافي الوافي في صفحات كتاب "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها" لصاحبه الصحافي والمؤلف الأميركي غريغ بالاست، ومن خلال محاورات معمقة ورصينة للغاية جرت بها المقادير مع المتخصص في الشأن الاقتصادي الأول في عالم النظام المالي العالمي البروفيسور جوزيف ستغليتز، قبل أن تتسبب هذه التصريحات في طرده من جنة الصندوق والبنك الدولي، وإبعاده عن دائرة منظمة التجارة العالمية، جميعها دفعة واحدة، والذي يرى أن هناك أربع خطوات قاتلة يمضي العمل عليها من قبل صندوق النقد الدولي، وبشكل ممنهج للتلاعب بمقدرات الدول والشعوب.. ماذا عن ذلك؟

الطريق إلى الخصخصة

يطلق ستيغليتز على هذه العملية "الارتشاء"، حيث يحصل خبراء الصندوق على نسب مئوية من تفكيك الصناعات الوطنية، وعدم الاعتراض على بيعها، بل السعي إلى دى قادة الدول في طريق التخلص منها وبأسعار لا تناسب قيمتها الحقيقية، مبررين ذلك بتجنب خسائر مالية أكثر فداحة. حدث ذلك على سبيل المثال في روسيا عام 1995، حيث كان المطلوب بيع معظم صناعات روسيا، وقد تم إقناع رئيسها وقتها بوريس يلتسين بجدوى سياسات الخصخصة كباب خلفي لتمويل حملته الانتخابية، ولم يكن يهم الصندوق وقتها، ما إذا كان يلتسين فاسدا أم لا؟

في هذا الإطار تعرضت الممتلكات الصناعية الروسية للنهب من خلال تخفيض مردودها الوطني إلى النصف تقريباً مسببين بذلك كساداً اقتصادياً ومجاعة. ولعله ليس سراً القول إن ما جرى مع روسيا حدث مع كثير من البلدان الأخرى، ذلك أن الخصخصة ليست سوى الحلقة الأولى والخطوة الأساس في طريق اختراق الصندوق للدول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحرير سوق رأس المال

تالياً سيخبر القائمون على الصندوق قادة الدولة الساعية إلى الاقتراض أنه لكي يتم إنقاذ الاقتصاد الوطني، فإنه لا بد من تحرير سوق رأس المال، وهذا يعني إبطال أي قانون في أي دولة يبطئ أو يفرض ضريبة على الأموال التي تقفز فوق الحدود.

نظرياً، تسمح إزالة القيود على سوق رأس المال في دولة ما لرؤوس أموال البنوك الأجنبية والشركات متعددة الجنسيات بالتدفق داخل وخارج تلك الدولة، لكن للأسف في دول مثل إندونيسيا والبرازيل تدفقت الأموال إلى الخارج، وإلى الخارج فقط. هذه العملية تعرف باسم "دورة الأموال الساخنة"، حيث تدخل الأموال إلى الدولة للمضاربة في العقارات والعملات، ثم تهرب عند أول أثر لوجود مشكلات، وبذلك قد تجف احتياطات المضاربة بإعادة رؤوس أموالها، ورفع نسب الفوائد 30 في المئة و50 في المئة و80 في المئة.

ماذا عن النتائج؟

حدث ولا حرج، وقد شاهدها العالم في آسيا وأميركا اللاتينية، لقد دمر ارتفاع نسب الفوائد قيم الملكيات وخرب الإنتاج الاقتصادي واستنزف الثروات الوطنية.

من عند المرحلة الثانية المتقدمة، يسحب صندوق النقد الدول المرهقة إلى المرحلة الثالثة، وهي وضع الأسعار اعتماداً على السوق، وهو مصطلح مزخرف لرفع أسعار الغذاء والماء والغاز المنزلي، وهذا يؤدي إلى المرحلة التي يسميها "ستيغليتز"، "الإخلال بالأمن". لكن هل هذا إخلال مقصود؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك، ومتوقع مسبقاً من قبل الصندوق والعقول التي تديره، فعندما تصبح دولة ما فقيرة ومعدمة، يستغل الصندوق الفرصة ليعصر آخر نقطة دم منها، ثم يرفع الحرارة إلى أن ينفجر المرجل بأكمله. وعند تلك اللحظة تنفجر البلاد، وهنا تظهر خطة "المساعدة من الصندوق والبنك الدوليين"، وتبدأ بالطلب من السلطات بأن تستعد للنزاع المدني وللمعاناة مع "الحل السياسي"، وفي تلك الأمم المفلسة، الحل يعني الدبابات في الشوارع.

عطفاً على ذلك، فإن كل إخلال أمني يسبب هرباً مذعوراً لرؤوس الأموال، وإفلاسات جديدة حكومية، ولهذا الإحراق الاقتصادي وجهه المشرق بالطبع، فالشركات الأجنبية يمكنها عندئذ أن تلتقط بقايا الممتلكات بأسعار مزاد الحريق.

استراتيجية تخفيض الفقر

هذه هي الخطوة الرابعة ضمن خطوات الصندوق المثيرة للشكوك، وتعني التجارة الحرة التي تسير وفق قواعد منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي. تبدو فكرة التجارة الحرة هذه، أقرب ما تكون إلى "حروب الأفيون"، فتلك الحروب كانت أيضاً من أجل فتح الأسواق، كما في القرن الـ19.

أما الآن، فيحطم الأوروبيون والأميركيون الحواجز أمام التجارة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، في الوقت الذي يسدون فيه أسواقهم الخاصة أمام زراعة العالم الثالث. وفي حروب الأفيون، استخدم الغرب الحصار العسكري لإرغام الأسواق كي تفتح أمام تجارتها غير المتوازنة. واليوم بإمكان الصندوق والبنك والمنظمة فرض حصار اقتصادي فعال كالحصار العسكري تماماً وفي بعض الأحيان مميتاً مثله أيضاً.

أقنعة متغيرة ونظام واحد

يختلط المشهد أحياناً على غير المتخصصين في علم الاقتصاد، حين يأتي الحديث عن الثلاثية التقليدية صندوق النقد، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. غير أن الحقيقة التي لا جدال من حولها، هي أنها أقنعة متغيرة لنظام سيطرة واحد، تشابكت بينها الخيوط، وتداخلت الخطوط، فالحصول على قرض من البنك الدولي على سبيل المثال، يقتضي بقبول نحو 114 شرطاً، تفرض فيها منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد طلباتهما. وفي مقدمة متطلبات صندوق النقد، القبول بسياسات أكثر قصاصاً، وتشدداً من قوانين منظمة التجارة العالمية.

ولعل أكثر ما يقلق المتخصص الاقتصادي العالمي ستيغليتز هو أن خطط البنك الدولي التي تبتكر بسرية وتوجه بواسطة أيديولوجيا استبدادية على حد وصفه، ليست مفتوحة أبداً للنقاش والمعارضة. فعلى رغم ضغوط الغرب لإجراء الانتخابات في أوساط العالم النامي، فإن ما يسمى رامج تخفيض الفقر، لم تؤسس أبداً بشكل ديمقراطي، وبذلك صارت نتيجة طبيعية لسياسات هذا الثالوث غير المقدس بلغة الغرب، "تقويض الديمقراطية، لا تعزيزها".

علاوة على ذلك، تبدو تلك البرامج غير نافعة، والدليل أن إنتاجية أفريقيا السمراء، تحت توجيهات المساعدة البنيوية لصندوق النقد الدولي ذهبت إلى الجحيم في حقيبة يدوية.

 

الناجون من جحيم الصندوق

هل من ناجين من جحيم صندوق النقد، وهل من دول قدر لها الهرب من قيوده الكارثية؟

ربما تعتبر ماليزيا، ذلك النمر الآسيوي، الذي تعرض لهزة عنيفة خلال تسعينيات القرن الماضي، دولة شبه وحيدة في هذا المضمار، والأمر يرجع إلى رئيس وزرائها الأسطوري مهاتير محمد.

لم يقبل مهاتير مساعدات الصندوق من قبل، على رغم أن بقية الدول الآسيوية التي تعرضت للأزمة عينها استجابت لتوصيات الصندوق، بل ورفض أي رؤية مقترحة من قبل جماعة واشنطن.

طبق مهاتير سياسات مالية معاكسة تماماً لما تمت التوصية به، والمثير أن ماليزيا تخطت أزمتها المالية، ونجحت في تعزيز عملتها (الرينجت)، بل إنها خرجت بأقل الخسائر مقارنة بدول أخرى مثل الفيليبين وكوريا الجنوبية وإندونيسيا.

نصح مهاتير دوماً بعدم الاقتراض من صندوق النقد، وأن يتم اللجوء إلى البدائل الداخلية، وصرح أكثر من مرة بأنه لا يحب سياسة الاقتراض، بخاصة أن المقترض يخضع أبداً ودوماً للمقرض، والصندوق والبنك ليسا مؤسستين عالميتين بمعنى الكلمة، ولكنهما يخضعان لسيطرة وهيمنة عدة دول فقط، ومن ثم فإن توجههما يصب لخدمة مصالح تلك البلدان.

وفي مقابلة مع شبكة "بلومبيرغ" الاقتصادية في يوليو (تموز) 2017، قال مهاتير، وهو يسترجع ذكرياته حول الأزمة الاقتصاية، مشيراً إلى عمق الإشكالية في التعاطي مع الصندوق، وكيف أنها تتمثل في خلق نوع من الوصاية على المقترض، بل وتوجيه دفة البلاد ومقدريها الاقتصادية ومواردها المالية بما يصب في صالح ومصالح الجميع باستثناء أبناء الدولة عينها.

على سبيل المثال، يقطع مهاتير بأن الصندوق يسمح بالاتجار في العملة، على رغم أن العملة ليست سلعة في الواقع، وهذا يتسبب في إفقار الدول، ومن ثم تذهب للاقتراض، ومن هنا تبدأ المأساة والدوران في حلقة مفرغة.

هل كان لابتعاد مهاتير عن الصندوق دور في تحول ماليزيا إلى عملاق اقتصادي، بعد أن كانت دولة ذات اقتصاد بسيط يعتمد على الزراعة؟

 

 

عن الوجه الإيجابي للصندوق

تقتضي الموضوعية التساؤل هل يعني ما تقدم أنه ما من فائدة بالمرة من وجود صندوق النقد الدولي؟

المؤكد أن هناك من يدافع عن دوره العالمي، لا سيما في أوقات الأزمات الكبرى، وقد كانت جائحة "كوفيد-19" الأخيرة مثالاً على أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به في سياق الاقتصاد العالمي.

تخبرنا البيانات أن القروض التي قدمها لصالح 92 دولة زادت منذ جائحة "كوفيد" إلى نهاية أبريل (نيسان) الماضي عن 219 مليار دولار. وقد أقرض الصندوق 23 دولة من بين أعضائه الـ190، نحو 113 مليار دولار، منها تسعة مليارات إلى 14 دولة منخفضة الدخل.

وعلى صعيد السيولة وافق الصندوق في أغسطس (آب) 2021 على توزيع وحدات حقوق سحب خاصة للدول الأعضاء بقيمة 650 مليار دولار، وتوزعت على كل البلدان الأعضاء بالتناسب مع أنصبة حصصها في الصندوق، مما أعطى دفعة كبيرة من السيولة للبلدان، وكان نصيب اقتصادات الأسواق الصاعدة ونظيرتها النامية، نحو 275 مليار دولار، كما حصلت البلدان منخفضة الدخل على 21 مليار دولار.

في هذا الإطار تقول المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا إن ذلك ساعد في شكل خاص البلدان الأكثر ضعفاً التي تكافح للتعامل مع تأثير أزمة كورونا.

وبحسب بيان الصندوق، فإن إحدى الخطوات الأساسية المطروحة في هذا الصدد هو أن تتطوع البلدان الأعضاء ذات المراكز الخارجية القوية بتحويل جانب من مخصصاتها من حقوق السحب الخاصة لدعم الإقراض الموجه للبلدان منخفضة الدخل من خلال الصندوق الائتماني الخاص بالتنمية والحد من الفقر، وهو أداة صندوق النقد لتقديم القروض للبلدان منخفضة الدخل الذي يقدم دعماً ميسراً من دون فوائد في الوقت الراهن. ويقدم هذا التمويل الميسر من دون فوائد، فيما يبحث الصندوق في خيارات أخرى أيضاً لمساعدة البلدان الأفقر والأضعف في جهودها من أجل التعافي.

ويشير البيان كذلك إلى إمكان النظر في إنشاء صندوق ائتماني جديد للمرونة والاستدامة لتسهيل نمو أكثر مرونة واستدامة على المدى المتوسط. وعطفاً على ذلك استجاب الصندوق بسرعة كبيرة على نطاق واسع، وبصورة غير مسبوقة، في تقديم المساعدات المالية المقدمة إلى 50 دولة من الدول المنخفضة الدخل التي بلغت 13 مليار دولار أميركي عام 2020، مقارنة مع متوسط قدره مليارا دولار سنوياً في فترة ما قبل الجائحة بزيادة تجاوزت ستة أضعاف وفق بيانات الصندوق. كما قدم الصندوق كذلك تخفيضاً لأعباء الديون في شكل منح، بما يعادل 729 مليون دولار، لعدد 29 بلداً من أفقر بلدانه الأعضاء وأشدها ضعفاً، وجاءت ثلاثة أرباع موارد الإقراض الجديدة من الصندوق الائتماني للنمو والحد من الفقر بسعر فائدة صغيرة جداً.

بين الإصلاحات والتوقعات

تبقى التساؤلات مفتوحة حول الإصلاح الإداري المطلوب للصندوق، وإعادة هيكلته، ليصبح أكثر إنسانية وعدالة. كما يبقى السؤال حول إمكانية ظهور بدائل أممية أخرى عن الصندوق واردة، والحديث جارٍ عن بنك لمجموعة "بريكس"، برأسمال مقداره 100 مليار دولار، يلعب دوراً بديلاً عن الصندوق بدرجة أو بأخرى.

وفي كل الأحوال، سيظل العام المقبل 2023، حيث التوقعات مزعجة لجهة ركود عالمي وكساد كبيرين، نقطة اختبار للصندوق وقدرته على ضبط مسارات العالم النقدية، وفي الخلفية تصريح لكريستالينا جورجيفا عن وجود نحو 700 مليار دولار جاهزة للإقراض، ربما ستكون دعماً للدول المتزايد عددها وتسعى في طريق الحصول على مزيد من القروض، لا سيما أن الصندوق يدرس في الوقت الراهن 28 طلباً للحصول على مساعدات مالية جديدة، ويبحث عن سبل توفير تمويل للبلدان المحتاجة.