تسعى تونس إلى إجراء تعديل على مجلة محروقاتها وتطويرها من أجل استعادة ثقة المستثمرين في قطاع الطاقة بعد أن أقرّت بأنها لم تعد موقعاً جاذباً للاستثمار في هذا القطاع الاستراتيجي الذي يتضمن عديداً من الإشكاليات والصعوبات في العقد الأخير بسبب المطالب الاجتماعية من جهة وتراجع الإنتاج من جهة أخرى.
وأعلنت وزارة الصناعة والمناجم والطاقة التونسية اعتزامها إجراء تنقيح جزئي لمجلة المحروقات (مجلة جامعة لكل التشريعات والقوانين في مجال الاستكشاف والتنقيب والاستغلال) بصفة تشاركية مع الوزارات المعنية في مرحلة أولى ومع مختلف مكونات المجتمع المدني الناشطة في قطاعي الطاقة والمناجم. ويتزامن تنقيح المجلة التي صدرت في عام 1999 مع تحديات قطاع المحروقات في تونس الذي اتسم بتراجع في أنشطة البحث والاستكشاف (ثلاث آبار استكشافية وأربع أخرى تطويرية منذ سنة 2010 إلى الآن) وانخفاض للإنتاج بالحقول وتزايد الاستهلاك ما أدى إلى تفاقم عجز الميزان الطاقي بنسبة تفوق 50 في المئة مع ارتفاع الأسعار العالمية للنفط والغاز وضغوطات على السوق العالمية للطاقة.
إشراك الشركات الناشئة
وقال المدير العام للمحروقات بوزارة الصناعة التونسية رشيد بن دالي لـ"اندبندنت عربية" إن "مشروع تنقيح المجلة جزئياً يرتكز على جملة من المبادئ الأساسية أهمها إشراك الشركات الناشئة للاستثمار في قطاع الطاقة الى جانب إمكان القيام بطلبات العروض عند إسناد رخص الاستغلال للحقول أو الآبار النفطية"، مشيراً إلى حتمية التنقيح الجذري والعميق وضرورة التفكير جدياً في جاذبية تونس في مجال الطاقة التي لم تعد جاذبة وفق مختلف الدراسات والتقارير الدولية.
واعتبر بن دالي أن "مجلة المحروقات التونسية في الأساس تعنى بالاستثمار في قطاع المحروقات وتنظم كيفية الدخول إلى تونس من أجل القيام بالعمليات الاستثمارية في مجال المحروقات"، لافتاً إلى أن "الركيزة الأساسية للمجلة باعتبار المخاطر في القطاع، فإن الدولة التونسية لا تعتمد على مواردها الذاتية في ما يخص الاستكشاف بسبب المخاطر الاستثمارية والمالية، وهي ترغب بأن يتولى المستثمرون القيام بالاستثمارات اللازمة"، مؤكداً أن "الشركات العالمية والتونسية ذات القدرات المالية تدرك جيداً مدى أهمية الاستثمار في مجال الطاقة، خصوصاً عند الاستكشاف إذ يحتاج إلى ضخ أموال كبيرة سواء في الدراسات الجيولوجية والتنقيب التي تصل إلى حدود 10 أعوام من الاستكشاف وقد لا تتحصل على النتائج المرجوة في نهاية المطاف ما يضيف مخاطر مالية في هذا القطاع".
20 مليون دولار كلفة الاستثمار
وتقدر كلفة الاستثمار في مجال المحروقات بتونس للتوصل الى بئر نفطية بنحو 60 مليون دينار تونسي (20 مليون دولار أميركي)، وتزيد الكلفة إلى 150 مليون دينار (50 مليون دولار)، إذا كان البحث والاستكشاف في عرض البحر، ونظراً لتلك الكلفة تعتمد الحكومة التونسية خياراً استراتيجياً يضمن عدم المخاطرة بالأموال، ولكنه يسمح بالشراكة مع المستثمرين أو المؤسسات الأجنبية عند التوصل إلى استكشاف بالاستغلال عن طريق المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية إحدى الشركات الحكومية.
ورداً على سؤال حول عمليات التنقيح الجزئي لمجلة المحروقات، قال المدير العام للمحروقات بوزارة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية "تم إصدار مجلة المحروقات سنة 1999، ولكن بعد مرور هذه الفترة، فإن كل نص قانوني يحتاج إلى تنقيح أو تعديل ومراجعة"، مضيفاً أننا "لاحظنا في السنوات الأخيرة بروز مظهرين اثنين، يتعلق الأول بتراجع الإنتاج الوطني من النفط من معدل 80 ألف برميل يومياً قبل 2010 إلى حوالى 35 ألف برميل حالياً"، مشيراً إلى أننا "أمام تلك الوضعية لن نبقى مكتوفي الأيدي وعملنا على كيفية إعادة التحفيز في المجال لتدارك الوضع، الأمر الذي يتطلب إعداد دراسة لتطوير المجلة".
المصادقة النهائية في 2023
وحول المظهر الثاني بمجلة المحروقات قال بن دالي، إنه "يتمثل في بروز نوعية جديدة من الشركات التي تدخل في الاستثمار، إذ إنه في السابق كانت هناك شركات عالمية كبيرة ذات مصداقية وإمكانيات مالية جيدة للاستثمار في هذا القطاع، بينما ما حدث في العقد الأخير بروز الشركات الناشئة ورغبتها في الاستثمار في عديد من المجالات، ومن ضمنها قطاع المحروقات عبر مهندسين وخبراء عملوا في السابق في كبرى الشركات العالمية في المجال، ولها القدرة لرفع الموارد المالية، الأمر الذي يستوجب عدم إقصائها من الاستثمار في المحروقات ووجوب تغيير النظرة إليها ما يستدعي تنقيح القانون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتضمن التنقيحات الجديدة التي سيتم إقرارها ضمن مشروع تنقيح مجلة المحروقات من طرف المتخصصين والمجتمع المدني أن يتم الاعتماد على طلبات العروض عند إعلان رغبة تونس في استغلال قطعة أرض شاغرة وفيها مأمولية، أو عند إسناد رخص الاستغلال، وقد تفاعلت الإدارة التونسية إيجابياً مع هذا المقترح. وتابع بن دالي أن التنقيح الجزئي يعني تحسيناً مباشراً للمجلة، مشيراً إلى أن "الفصول الجديدة أخذت شكلها النهائي بعد سلسلة من الاجتماعات مع المتخصصين وممثلين من المجتمع المدني" ولفت إلى أنه "من المرتقب عرضها على الوزارات المعنية ثم مجلس الوزراء التونسي"، متوقعاً أن "تتم المصادقة عليها في الثلث الأول من سنة 2023 في حال الموافقة على الصيغة النهائية للتنقيح الجزئي لمجلة المحروقات".
تونس غير جاذبة للاستثمار
وحول التنقيح الجذري والعميق للمجلة، شدد المدير العام للمحروقات بوزارة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية على أنه "سيفضي إلى خيارات معينة للدولة التونسية، إذ إن معظم الدراسات وآخرها دراسة قام بها البنك الدولي استناداً إلى المتخصصين، أجمعوا على مبدأ وحيد هو أن تراجع الإنتاج ومن ثم الاستكشاف، يعني أن تونس أصبحت دولة غير جاذبة للاستثمار في هذا المجال"، مشيراً إلى أن "الضرائب الموظفة على القطاع في تونس كانت مخصصة للآبار المنتجة، لا سيما أن المجلة عند إرسائها كانت حينها غالبية الآبار النفطية منتجة وبكميات كبيرة، ووصلت تونس في حقبة الثمانينيات إلى إنتاج 100 ألف برميل يومياً بينما الأمور تغيرت بشكل كبير في الوقت الحالي مع التراجع اللافت في مجال الاستكشاف والتنقيب، ومن ثم الإنتاج ما يستوجب إعادة النظر في الضرائب المفروضة".
تقليص الضرائب
وأكد بن دالي في المقابل أن "تونس عليها أن تظهر أن لها إمكانيات في الاستكشاف والتنقيب"، معتبراً أن "التنقيح الجذري والعميق سيشمل بالتأكيد مجال الضرائب في القطاع الأمر الذي يستوجب قرارات على أعلى مستوى، (قرار سياسي) عبر تحديد الضرائب الموظفة في قطاع المحروقات، إما بالترفيع فيها بخاصة التقليص منها في ضوء مدى جاذبية البلاد وتراجع الإنتاج، كما تستوجب الوضعية إنجاز دراسات هل لتونس القدرات الاستكشافية وبروز آبار منتجة لمزيد فرض ضرائب أم لا". ورأى بن دالي أن "تونس حالياً في مفترق الطرق بين مزيد من تطوير الحقول والآبار القديمة ومزيد من تكثيف الاستكشافات والتنقيب في أماكن جديدة غير تقليدية".
الاستكشاف بمناطق الوسط
وانحصرت الاستكشافات في العقود الماضية على الجنوب التونسي لدرجة تسببت في استنزاف الحقول في هذه المناطق خصوصاً "حقل البرمة" الذي كان يُعد من أكبر الحقول في العالم ولكن وصل الآن إلى مرحلة نضوب كبيرة، إذ لا يتعدى إنتاجه اليومي حاجز ستة آلاف برميل يومياً.
وحول عمليات التنقيب والاستكشاف بمناطق تونسية جديدة، أكد المدير العام للمحروقات بوزارة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية أن "بعض مناطق الوسط التونسي، خصوصاً أعالي البحار في الشمال، لم تستكشف بعد ما يوفر إمكانيات جديدة لتونس لإعادة التموقع في مجال الاستكشاف عن المحروقات"، مستدركاً "لكن ذلك يتطلب دراسات معمقة إلى جانب استثمارات مالية هائلة"، ولفت إلى أن "المسالة تتطلب إعادة النظر في باطن الأرض التونسي وإقناع المستثمرين الأجانب واستقطابهم والترويج بأن تونس لديها إمكانيات طاقية" قائلاً "أهم نقطة في نظري هي مراجعة الجباية ما يستوجب قراراً سياسياً".
الشركات الأجنبية تغادر
وعن أسباب تراجع جاذبية تونس في مجال الطاقة، حصرها بن دالي في مجموعة من العوامل أهمها المطالب الاجتماعية المرتفعة إضافة إلى كثرة الاعتصامات والاحتجاجات التي نفرت كبرى الشركات النفطية في تونس، مشيراً إلى أن "اعتصام الكامور (أحد أهم حقول تونس في الجنوب) شكل منعرجاً خطيراً ومثل خسارة كبيرة لقطاع المحروقات في تونس، إذ إن شركات منتصبة عدة في تونس أعلنت مغادرتها البلاد، وأن شركات مستعدة للمغادرة أيضاً على رغم ما تملكه من أنشطة في الوقت الذي أبدت فيه شركات كبيرة أخرى رغبتها في المغادرة بصفة ضمنية وغير مباشرة بسبب تردي المناخ الاجتماعي وعدم قدرتها على مواصلة النشاط تخوفاً من بضعة أشخاص يغلقون الحفريات الاستكشافية".
قرارات عاجلة
وعبر المدير العام للمحروقات بوزارة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية عن أسفه لارتفاع الاحتجاجات والمطالب الفئوية والاعتصامات التي دفعت عدداً كبيراً من الشركات إلى إعادة حساباتها بصفة جدية ومغادرة تونس سواء بشكل فوري أو الانتظار حتى انتهاء آجال الرخصة لعدم تجديدها والمغادرة بحثاً عن مناخ أعمال أفضل". وخلص بن دالي إلى ضرورة الإنصات لمشاغل هذه الشركات وإعادة الثقة إليها واتخاذ قرارات عاجلة تثنيها عن مغادرة البلاد.