Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المباحثات بين موسكو وكييف بين الواقع والمأمول

تباعد المواقف والتمسك بالثوابت عقبتان على طريق "الحلول الوسط" وأميركا وحدها تملك القول الفصل

زيلينسكي متحدثاً إلى الجنود الأوكرانيين أثناء زيارته مدينة خيرسون المحررة حديثاً (أ ف ب)

الأنباء الواردة من جبهات القتال لا تبشر بخير وفير لروسيا، وإن أشارت إلى استعادة قواتها بعض تفوقها في جنوب شرقي أوكرانيا، في وقت تعرب فيه القيادة الأوكرانية عن مواقف أكثر تشدداً عن ذي قبل تجاه ما يتعالى من نداءات على المستويين الإقليمي والعالمي تدعو كلاً من موسكو وكييف إلى مائدة المفاوضات.

وفي حين تبدو موسكو وقد جنحت إلى السلم، ربما تحت وطأة ما تواجهه من انتكاسات على صعيد المواجهة العسكرية التي تبررها القيادات العسكرية والسياسية في موسكو باعترافها أن القوات الروسية أضحت في مواجهة مباشرة مع "الناتو بكل قدراته المادية واللوجستية"، تقف كييف في وضعية المنتشي بما تحقق لها من انتصارات سارع الرئيس الأوكرني فولوديمير زيلينسكي إلى الاحتفال بآخرها مع قواته في مدينة خيرسون.

وهناك في خيرسون التي أعلنتها موسكو "أرضاً روسية لا أحد كائناً من كان يملك حق التنازل عنها أو يتفاوض حولها" نظراً إلى أنها صارت جزءاً لا يتجزأ من أراضي روسيا بموجب التعديلات الدستورية التي جرى الاستفتاء حولها في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) عام 2020، أعلن زيلينسكي أنه "لم يغلق الباب" أمام المحادثات مع موسكو، لكنه قال إن "أوكرانيا ستتحدث مع روسيا التي ستكون مستعدة حقاً للسلام"، في إشارة غير مباشرة إلى ما سبق وأعلنه من "أن ذلك لن يكون ممكناً إلا إذا تم تغيير رئيس البلاد"، معلناً شروطه التي أوجزها في ما قاله حول "حتمية استعادة أوكرانيا سيادتها الإقليمية (أي استعادة كل ما استولت عليه روسيا من أراض في القرم والدونباس ومقاطعتي زابوروجيا وخيرسون)، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، وتعويض بلاده عن جميع الخسائر الناجمة عن الحرب، ومعاقبة كل مجرم فيها، وضمان عدم حدوث ذلك مرة أخرى"، وكلها شروط تؤكد كل الشواهد أنها غير قابلة ليس فقط للتنفيذ، بل ولا تستحق حتى عناء التفكير، على حد قول مصادر برلمانية روسية، وهو ما تناولته "اندبندنت عربية" في تقرير سابق من موسكو.

وعلى رغم أن موسكو الرسمية سبق وأعلنت مواقف متشددة مشابهة في أكثر من مناسبة، وكلها كانت تقول باستحالة التفاوض أو مجرد التفكير في مناقشة أية قضايا تتعلق بمصير أي من أجزاء الدولة الروسية، ومنها القرم والدونباس وما جرى ضمه من الأراضي الأوكرانية التي كانت حتى الأمس القريب تخضع للسيادة الأوكرانية في مقاطعتي زابوروجيا وخيرسون، فإنها عادت وكشفت عن "بعض مرونة" أوردتها في ما صدر عن عدد من مسؤوليها الرسميين مقرونة بإعلان حول عدم التخلي عن الثوابت وما حدده "الكرملين" من أركان.

وفي هذا الشأن نقلت وكالة أنباء "تاس" عن سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية ما قاله حول أن "روسيا منفتحة على الحوار مع أوكرانيا من دون شروط مسبقة". أما دميتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم "الكرملين" فقال إن "موسكو لا تسجل تغييرات في موقف أوكرانيا"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن "الجانب الروسي يمكنه تحقيق أهداف العملية العسكرية من خلال المفاوضات"، وذلك ما يحتدم حوله كثير من الجدل وبخاصة في توقيت يشهد تنازلات وتراجعاً عما كانت روسيا حققته من انتصارات في الأيام الأولى من "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، ومنها ما يتعلق بخيرسون بكل ما تتسم به هذه الخطوة من مأسوية تناقلت مصادر روسية رسمية وإعلامية كثيراً من تبعاتها، وفي وقت كشفت أوكرانيا عن خطة تستهدف الوصول إلى ميناء بيرديانسك على ضفاف بحر آزوف، وهو في حال تنفيذه يمكن أن يفرغ كثيراً من خطط روسيا من محتواها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن الحرب أينما كانت ساحاتها ووقتما جرت أحداثها، لا بد أن تكون في سبيلها إلى نهاية تستدعي بالضرورة جلوس أطرافها إلى مائدة المباحثات من منظور المثل الصيني القائل "إذا أردت تحقيق الانتصار على خصمك فإنه يتوجب عليك توفير الجسر اللازم لانسحابه". وما يجري على صعيد النزاع الروسي - الأوكراني لن يكون استثناء إلا في حال تحقيق أحد طرفي النزاع نصراً ساحقاً يضع الأمور في ما يشتهيه من نصاب وأهداف، وذلك ما لم يحدث بعد ويحاول كثير من الأطراف الدولية تجاوزه بما تدعو إليه الأطراف المعنية من مباحثات.

ونذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ما كان يرومه من وساطة جرت مشاهدها في إسطنبول خلال مارس (آذار) الماضي، وأسفرت عملياً عن نتائج كان يمكن أن تضع حداً للصراع قبل استفحاله وتطوره بإعلان موسكو ضم "المناطق الأوكرانية الأربع". وهو ما كان حذر منه هنري كيسينجر عميد الدبلوماسية الأميركية الأسبق في كلمته التي ألقاها عبر "الفيديو كونفرنس" في مؤتمر الأمن الأوروبي خلال فبراير (شباط) الماضي.

وها هو الرئيس الأميركي جو بايدن يعلن توجهاً مماثلاً، إذ كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن بعض ملامحه في ما قامت بنشره من "تسريبات" حول اتصالات جيك سوليفان مستشاره لشؤون الأمن القومي مع كل من يوري أوشاكوف مستشار الرئيس بوتين للشؤون الخارجية، ونيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، وهو أيضاً ما تناولته "اندبندنت عربية" في تقريرها السابق من موسكو.

وفي ما يبدو أنه استجابة لما أعربت عنه على نحو غير مباشر كل من موسكو وكييف من استعداد للجلوس إلى مائدة المفاوضات، وبصرف النظر عما أعلنته كل من العاصمتين من شروط، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضرورة تكثيف الجهود الدبلوماسية، داعياً إلى "حوار الجانبين بعيداً من اتخاذ قرارات متسرعة ووضع شروط مسبقة جذرية". وبصرف النظر عن الذي عاد وأشار إليه حول أن "المفاوضات المستقبلية يجب أن تعقد بشروط مقبولة من الجانب الأوكراني" فإن هناك في موسكو من يقف مؤيداً للتوقف أكثر عند ما صدر عن ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية من تصريحات تفيد بقبول روسيا التفاوض من دون أي شروط مسبقة.

وفي الوقت الذي يتواصل الجدل حول حقيقة موقف الإدارة الأميركية من إجراء هذا الحوار أو المباحثات بين الجانبين الروسي والأوكراني، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" عن أن "ما يجرى من مناورات بهذا الصدد أمر ضروري للإدارة الأميركية لمعالجة الانقسامات مع الحلفاء في أوروبا"، وذلك فضلاً عما أشارت إليه من محاولاتها الرامية إلى الحفاظ على وحدة الموقف مع حلفائها في "الناتو" والاتحاد الأوروبي، وضمان أن "يبقى التصعيد تحت السيطرة ولا يؤدي إلى تهديد حقيقي للمصالح الأمنية الأميركية، وصولاً إلى حرب مع روسيا"، وذلك ما قد يكون ضمن ما تناوله رئيسا جهازي الاستخبارات الروسية والأميركية في مباحثاتهما "السرية" التي جرت أخيراً في أنقرة، بحسب توقعات مصادر روسية.

وثمة ما يشير إلى أن هذه المباحثات جاءت في توقيت مثالي تبدو فيه كييف في وضع يصعب أن تضمن تكراره، وهي التي تواصل احتفالاتها باستعادة خيرسون في الوقت نفسه الذي تتصاعد الاعترافات من جانب أصوات "شبه رسمية" في موسكو بما جرى من تقصير اضطرت معه القيادة العسكرية إلى الانسحاب من خيرسون على رغم كل ما يقال من تبريرات، ومنها أن "الانسحاب خطوة تكتيكية" على طريق تعديل مسار "العملية العسكرية الخاصة".

ومن اللافت في هذا الشأن وبحسب شواهد كثيرة أن "القضية الأوكرانية" تظل بكل تفاصيلها وتعرجاتها وفي كثير من جوانبها حبيسة أدراج الإدارة الأميركية التي تملك بشأنها القول الفصل، على رغم كل ما يصدر عن كييف من تصريحات تستهدف الإيحاء باستقلالية قرارها. ويكفي للاستشهاد على ذلك مدى الاضطراب والقلق الذي ينتاب القيادة الأوكرانية لدى أي تأخر أو تقصير في إرسال ما تحتاج إليه المعارك مع روسيا من أسلحة عصرية ومعدات عسكرية أسهمت إلى حد كبير وباعتراف كثير من المصادر المحلية والأجنبية في تغيير موازين القوى خلال الأشهر القليلة الماضية.

على أن ذلك لم يمنع في الوقت نفسه جنوح عدد من المعلقين شبه الرسميين صوب "النقد الذاتي"، ومنهم ألكسندر نازاروف الذي نقل عنه موقع "روسيا اليوم" الحكومي مقالة قال فيها إنه "وبشكل عام لا يسع المرء إلا أن يعترف بأن القيادة العسكرية والسياسية الروسية ارتكبت عدداً من الأخطاء، والجيش الروسي لم يكن مستعداً بما فيه الكفاية للحرب مع الغرب الموحد، لكنني أعتقد أن الانتقادات والنقاشات حول التغييرات الضرورية يجب أن تترك لمرحلة ما بعد النصر".

وإذ أشار إلى أن "ترك خيرسون هو بالطبع حقيقة مؤسفة وبالتأكيد يضيف مخاطر لنا"، قال نازاروف إنه "لا يعتقد في وجوب الحكم على مآلات الحرب في أوكرانيا قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) المقبل"، وأضاف أن روسيا تحتاج إلى كسب الوقت والصمود حتى نهاية عام 2024، مع استمرار إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر الاقتصادي لأوكرانيا والغرب".

وثمة من يقول إن مثل هذه اللحظة التي تتعالى فيها أصوات "النقد الذاتي" في روسيا من جانب، وانفجار التظاهرات الاحتجاجية في كثير من العواصم وكبريات المدن الغربية من جانب آخر، يمكن أن تكون التوقيت الأكثر مناسبة لإجراء الاتصالات على مختلف المستويات، شريطة أن تكون الإدارة الأميركية طرفاً أساسياً فيها بعيداً من "الإغراق" في نشوة الانتصارات الذي تتبدى ملامحه في كثير من التصريحات الأوكرانية الرسمية، في وقت تحاول القيادات العسكرية الروسية تدارك ما حدث في خيرسون، والاستعداد لمواجهة ما تضمره القوات الأوكرانية من خطط تستهدف قطع الاتصالات بين منطقة خيرسون وشبه جزيرة القرم، إلى جانب ما نقلته وكالة "تاس" عن قيادات إقليمية في منطقة الدونباس ومنها فلاديمير روغوف زعيم حركة "نحن مع روسيا" في مقاطعة زابوروجيا من تحذيرات تقول باحتمالات "مهاجمة مدينة بيرديانسك على ساحل آزوف من أجل الوصول إلى شواطئ هذا البحر عبر تجاوز مدينة ميليتوبول".

وفي هذا الصدد يشير مراقبون في موسكو إلى ضرورة التوقف عند كل إشارة صدرت عن الجانب الأميركي، بما في ذلك ما قاله الرئيس جو بايدن حول احتمالات تقديم القيادة الأوكرانية "تنازلات إقليمية عليها وحدها أن تبت فيها"، وإن أكد أن واشنطن لا تنوي مطالبة كييف بتقديمها.

وشدد هؤلاء على ضرورة أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها عن تأجيج الصراع من خلال ما تدعو إليه وما تقف وراءه من محاولات لتجييش أعضاء المجتمع الدولي ضد روسيا، على غرار ما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من قرار في شأن التعويض عن الأضرار التي لحقت بكييف واعتبرته موسكو "باطلاً قانونياً" ومخالفاً لميثاق الأمم المتحدة، على حد تعبير قسطنطين كوساتشيف نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي.

ففي تبريره لعدم مشروعية مثل هذا القرار، قال كوساتشيف في تصريحات نقلتها وكالة "نوفوستي" إن "قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة من حيث المبدأ ليست لها قوة ملزمة، ولكن عندما تتعارض من حيث محتواها مع ميثاق الأمم المتحدة والمعايير الأساسية للقانون الدولي، فإن هذا يجعل هذه القرارات ليست فقط مجرد قرارات تصريحية بل باطلة من الناحية القانونية"، في إشارة إلى تواصل المحاولات الرامية إلى تجميد ومصادرة كثير من الأصول والأموال الروسية في الخارج لصالح إعادة بناء أوكرانيا.

ومن اللافت في هذا الصدد أن القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للامم المتحدة في شأن إلزام روسيا تعويض أوكرانيا عما لحق بها من أضرار ودمار، جاء في توقيت كان المجتمع الروسي أقرب إلى تأييد المحاولات التي تدعو إلى الحوار بين موسكو وكييف من دون أي شروط مسبقة، كما أنه جاء تالياً لما سبق وأعلنته بلدان الاتحاد الأوروبي حول مصادرة أموال وأصول روسية موجودة لديها تزيد قيمتها على 300 مليار دولار بحجة "تعويض الأضرار التي لحقت بأوكرانيا"، وذلك كله بحسب إفادات روسية رسمية، وهو ما لا يتناسب مع ضرورة توفير الأجواء اللازمة لبدء الحوار بين موسكو وكل من كييف والإدارة الأميركية المتضامنة معها، فضلاً عن أنه قد يدفع في الاتجاه المعاكس المؤيد لاستمرار "القتال حتى النصر"، أو على أقل تقدير التوصل إلى ما هو أقرب إلى تجميد الأوضاع على ما هي عليه، وهو ما لا يبدو في مصلحة أي من الأطراف المتحاربة.

وها هي موسكو تتوقف اليوم عند ما تضمنه البيان الختامي لـ"مجموعة الـ20" في جزيرة بالي الإندونيسية من دعوة إلى المباحثات ووقف الحرب واتفاق دول المجموعة على "إدانة الأعمال العدائية في أوكرانيا"، وتحذيرها من أن "استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها أمر غير مقبول، وأن التسوية السلمية للنزاعات، والجهود المبذولة للتغلب على الأزمات، وكذلك الدبلوماسية والحوار، أمر حيوي".

وتلك دعوة لا تبتعد عملياً عما سبق أن قاله هنري كيسينجر في خطابه الذي ألقاه بمنتدى "دافوس" الاقتصادي في مايو (أيار) الماضي، حول أن "استمرار الحرب ومحاولات تركيع روسيا سيكون أمراً خارجاً عن القانون ويخلق اضطرابات شديدة في العلاقات بين روسيا وأوروبا سيصعب السيطرة عليها في وقت لاحق"، إلى جانب ما خلص إليه البيان حول "ضرورة توقف الغرب عن محاولة هزيمة روسيا على يد الجيش الأوكراني لتجنب كارثة في أوروبا"، وذلك ما يستذكره مراقبون كثيرون داخل روسيا وخارجها، في توقيت مواكب لما قاله الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية حول "أنه على الأرجح لن يكون هناك نصر عسكري واضح في الصراع في أوكرانيا"، وأن الأطراف "بحاجة إلى اللجوء إلى وسائل أخرى"، ومنها ما ذكره حول أن "الشتاء المقبل يفتح فرصة لبدء المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا".

وبصرف النظر عن ردود الأفعال السلبية تجاه مثل هذه التصريحات من جانب كييف، وما بدر عن واشنطن الرسمية من تطمينات تستهدف تبديد ما يتناثر على الطريق من قلق وعثرات، فإن الفرصة تبدو اليوم مناسبة أكثر من سابقاتها لبدء حوار قد يوفر للأطراف جميعاً ما "يحفظ ماء الوجه". فهل يكون كل ذلك مناسباً للانتقال من الواقع الراهن بكل تعرجاته وتعقيداته صوب المأمول الذي طالما تعلقت بأهدابه شعوب المنطقة والعالم قبيل حلول الشتاء المقبل بكل ما يحمله في أحشائه من آلام وأحزان؟

المزيد من تحلیل