Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"لدي أحلام كهربائية" يفاجئ مهرجان القاهرة بتخطيه النمطية اللاتينية

المخرجة الكوستاريكية فالانتينا موريل تصور الرجال بحساسية أنثوية

من فيلم "لدي أحلام كهربائية" في مهرجان القاهرة (ملف الفيلم)

تعيش إيفا (دانيالا مارين نافارو) مع والدتها، السيدة المحترمة التي لا يصدر منها سوء. ومع ذلك، فهي تفضّل والدها (رينالدو أميين غوتييريز)، الشاعر الحر الذي يعيش حياة بوهيمية وصعلكة. لماذا يا ترى تنتهز إيفا مجرد أي فرصة للذهاب عنده، وقضاء بعض الوقت في صحبته وصحبة أصدقائه على رغم صعوبة الاحتكاك به؟ للاطلاع على الجواب والإحاطة بالحقيقة، علينا التسلل إلى عقل المراهقة التي هي إيفا، وهذا ما تفعله فالانتينا موريل، المخرجة الكوستاريكية المقيمة في بلجيكا، في "لديّ أحلام كهربائية"، وهو أول فيلم روائي طويل من تأليفها وإخراجها، انطلق في مهرجان لوكارنو الصيف الماضي ونال ثلاث جوائز، ثم شارك في مسابقة مهرجان تسالونيك الذي أعطاه جائزته الكبرى. وها إنه يحط اليوم في مهرجان القاهرة (13-22 نوفمبر/ تشرين الثاني) ضمن قسم "أسبوع النقاد"، في عرضه الشرق أوسطي الأول.  

لحسن حظنا وحظ الفيلم، أن لا جواب واضحاً يحسم نزعتها إلى والدها. فاليقين غير مستحب في السينما. هذا الدرس تعرفه موريل جيداً. لكن في المقابل، كتابتها السينمائية المرهفة تسمح لنا بالبحث عن بعض الحقيقة في التفاصيل المتروكة للمُشاهد وقدرته على قراءتها. 

الأب والإبنة

صحيح أن البنات يفضّلن آباءهن، لكن في حالة إيفا المسألة أعقد من ذلك بكثير. ليست مجرد انجذاب بين أب وابنته. العلاقة تنطوي هنا على عنف ورفض وقوة. تجد إيفا فيه ما لا تجده في الآخرين. ولا شك في أنه انعكاس للكثير ممّا يخيفها. الفيلم عن مرحلة البلوغ الصعبة، وفي حضور أب كهذا، تصبح المراهقة عبئاً مزدوجاً. ودّت المخرجة أن تتحدّث عن العلاقة التي تربط أب بابنته، وهي علاقة تمارَس على قدم المساواة. فليس هناك أب ينصح ابنته ويدعمها ويساندها، وهي تقفز من فترة عمرية إلى أخرى. من خلال هذه الحكاية، أرادت موريل أن تعكس الفكرة، لكون الفتاة أكثر نضجاً من الراشدين المحيطين بها. تأخذ بيدهم، تمنعهم من ارتكاب الحماقات... حتى أن المخرجة تقول في مقابلاتها بأنها آثرت قصة فتاة تعي أن كل الذين من حولها هم مراهقون مثلها، وأن البلوغ ما هو سوى وهم بوهم. 

 

لا تصوّر موريل بطلتها كضحية، لا نتعاطف معها أكثر ممّا نتعاطف مع والدها الذي لا نتعاطف معه أصلاً. هنا سر نظرة المخرجة التي ارتأت هذه الخيارات في صوغ الشخصيات ومعالجة الظروف. على رغم أنها لا تملك السيطرة الكاملة على ما يحدث لها، فإيفا شخصية بذاتها تعرف ماذا تريد، وتحصل عليه بلا صخب أو تمرد أو دموع. الحياة تسير دربها المعتاد، بيد أن ما يجعل الأفلام التي عنها، مختلفة عن بعض، وما يميز هذا عن ذاك، هو وجهة النظر الملقاة على الشخصيات وتطورها.

هذا الأب الذي يجرجر خلفه اضطراباً لن نعرف عنه الكثير. يدخل الكادر ويخرج منه وهو على قدر من الارتباك الذي يشبه ارتباك شاعر. فيه شيء بدائي متوحش. اختار البقاء خارج الأطر الاجتماعية التقليدية والمسؤوليات. هذه الحياة التي يعيشها على سجيته، ثمة من سيدفع ثمنها بالنيابة عنه. فالحرية المطلقة في مجتمع كهذا ليست سوى وهم. حتى لرغبته في قطع الروابط وكسر صورة الأب النمطية وخلق علاقة تواطؤ مع الابنة، سقفٌ سرعان ما يبلغ حدوده. الشخصيات تحمل مقداراً من الالتباس، مما يمنع التصنيفات الجاهزة. قد لا نجد أعذاراً عندما يقدم على تعنيف ابنته، ولكن في المقابل لن نعتبره وحشاً. نظرة الفيلم تسمح بوجود مثل هذا الهامش. ليست الحياة كلها محاكمات، والعنف ملموس أكثر عندما يتحرر من نظرة الإدانة تجاهه. والعنف والقسوة هما في أي حال، لغة تخاطب بين الشخصيات، حتى خلال ممارسة الحب أو كبت الرغبة الجنسية، ولا يعنيان بالضرورة قتلاً أو اعتداء. كل شيء عنيف ومع ذلك، الرقة والنعومة اللتان يفرزهما الفيلم في بعض لحظاته، لا مثيل لهما. في هذه اللحظات القليلة والأساسية، يوفّر الفيلم فسحة لأب وابنته ليقولا حبّهما واحداً للأخرى، لا بالكلمات التي اعتدناها، بل من خلال تحطيم الثوابت. يكاد لا يوجد عناق أو كلمة جميلة، بل لحظات تشنّج قصوى وتوتر. وسط هذا الجو، يلوح بريق أمل ثم ينسحب تدريجاً. لكن المشاعر تمر عبر الشباك، كالأسماك الصغيرة التي تُعطى فرصة ثانية. 

جمالية بصرية

الفيلم جميل بصرياً، وجميل أيضاً وخصوصاً في توليده للحظات حسية، بشفافية وصدق. كما معظم الذين أنجزوا أفلاماً للمرة الأولى، هناك نظرة حية، تسمح للمخرجة أن تسقط من حساباتها الكثير مما يجعل الأفلام مفتعلة. حتى الموسيقى التصويرية لا حاجة لها. البساطة تتكفّل بالكثير. وهذا كله يحاكي العقل ويلمس الإحساس في آن. أحدهما لا يعيش من دون الآخر. نضحك في لحظات الأسى، ونفرح في أشد اللحظات عنفاً وقسوة. 

هذا الفيلم الذي استوحت موريل بعض تفاصيله من البيئة (الطبقة الوسطى) التي نشأت فيها، لا يعطينا درساً في شيء. لا يحكم على الناس والظروف. بل يجعلنا نفكّر في الكيفية التي كنا صرنا فيها لو كنا في مكان الأب وفي مكان الزوجة وفي مكان الابنة. لن نتوحد بالضرورة مع الشخصيات، ولكن نشعر حتماً بما تشعر به كل واحدة من هذه الشخصيات المتلاصقة بعضها ببعض والبعيدة بعضها عن بعض في الحين نفسه. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

البناء الدرامي الذي يعتمده الفيلم تصاعدي. هناك الكثير من المشاهد التي قد نعتقد لوهلة بأنها بلا جدوى. أي أنها لا تضيف شيئاً على ما هو مطروح. هذا هو الاعتقاد الذي يتولّد من تراكمها. ولكن مخطئ مَن يعتقد أن المخرجة لم تحسب حساباً لكلّ لقطة. وكل لقطة تسهم في إيصالنا إلى تلك الخاتمة حيث يتفجّر الانفعال من تلقاء نفسه. كل الظروف نراها قابلة للإصلاح. وهذا يتأتى من طبيعة النظرة التي تلقيها المخرجة على شخوصها، تنصت إليهم وتمنحهم فسحة للكلام والتعبير، لأنها تعلم جيداً أن أي طريقة أخرى لصناعة فيلم هي طريقة محكومة بالفشل. ويحلو لي الاعتقاد أنها لا تنجز فيلماً "عنهم" بل "معهم"، وهذه ليست مجرد لعبة كلامية، بل حقيقة تتشكّل أمامنا كقطع البازل. 

اللافت في تجربة هذه المخرجة الواعدة، هي أنها تصوّر الرجال بحساسية نسائية. النحو الذي تحاصرهم به في الإطار، ملتقطة أنفاسهم ومقتفية حركاتهم، يبشّر بسينمائية مهمة على نسق كلير دوني. لا شيء يفلت منها، كل التفاصيل حاضرة وجاهزة. أما جمالياً، فالفيلم ضيق الصورة، نكاد نخالها من أوروبا الشرقية، لولا اللونان الأخضر والأحمر الطاغيان اللذان يُبعدان الفيلم عن الضوء السائد في البلدان الباردة. التصوير بسيط بدوره، ولكن خلف البساطة هذه شغل مضاعف. كل حركة كاميرا تقول شيئاً ما، لا وجود للاعتباطية. أما الاختزال فيسهم في صناعة تشويق دائم. أخيراً، الموسيقى أداة في يد المخرجة لزجنا في بيئة ذات خصوصية، بعيداً من نظرة بقية العالم إلى أميركا اللاتينية التي طالما قدمتها السينما باعتبارها "كارتيلات" لتجارة المخدرات وأحزمة فقر.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما