Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تطفئ الموسيقى التوتر في "المستطيل الأخضر"؟

بقدر التنوع البشري الهائل لعشاق كرة القدم من مختلف الشعوب والثقافات والأهواء يكون هناك استعراض للأناشيد حتى تبدو الملاعب وكأنها عرس كوني ضخم

درجت مباريات كرة القدم وعلى رأسها المونديال أن تحتل الموسيقى مساحة مرموقة من الفعاليات المصاحبة (مواقع التواصل)

قبل أشهر قليلة من بدء العد التنازلي لانطلاق بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 التي تقام في قطر أدت فرقة أطفال أوغندية "غيتو كيدز" فيديو استعراضياً يصور وجودهم في حفل افتتاح كأس العالم وهم يرقصون ويحملون لافتة مكتوباً عليها "كأس العالم قطر 2022". بعد انتشار الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي دعت قطر أعضاء الفرقة الذين أتوا بالفعل وأدوا رقصتهم وتجولوا في ملاعب المونديال.

وربما كان هذا من أوائل الفعاليات التي تسبق الافتتاح الرسمي يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني)، والذي سيحتوي على عرض يتضمن لوحات بصرية وفنية وسمعية بمشاركة طائرات من دون طيار "مسيرة" وألعاب نارية، بحسب ما أعلنت "اللجنة القطرية العليا للمشاريع والإرث"، وذلك قبل انطلاق مباراة افتتاح كأس العالم في الـ20 من نوفمبر، وتختتم مع المباراة النهائية في 18 ديسمبر (كانون الأول). ويضم برنامج الفعاليات الترفيهية أكثر من 90 حدثاً تنظم على هامش البطولة، وتتضمن أنشطة ثقافية ومهرجانات موسيقية وعروضاً ترفيهية تشمل أكثر من ستة آلاف عرض وفقرة في 21 موقعاً مختلفاً. وتضم العروض أشكالاً من الفنون أبرزها الحرف اليدوية والتراثية والأزياء والتصميم وفنون الأداء والموسيقى والأفلام.

هنالك رابط جوهري وحيوي بين الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، والموسيقى باعتبارهما شكلين ثقافيين، وللدور الذي تلعبه الموسيقى في تحسين الأداء بدءاً من الأناشيد الوطنية والأغاني المتعلقة بأحداث تاريخية، مروراً بالأغاني الخاصة بالمونديال وغيرها من أنواع الموسيقى الشهيرة. ومنذ بداياتها التاريخية تميزت كرة القدم بثقافة موسيقية تطورت حتى أصبحت جزءاً من روتينها، واندمجت مع الهتافات في تكامل نابض بالحياة. وتقوم فكرة كرة القدم على التفاعل والتعبير بوسائل شتى، وكون الموسيقى هي إحد أهم وسائل التعبير الاجتماعي، فإن الإحساس بها يضفي على الأجواء مشاعر مختلفة من الفرح والنشوة والسعادة.

مظاهر احتفالية

بدأت مظاهر كرة القدم الفنية في أوروبا بارتداء اللاعبين القبعات العمودية التي كانت تلبس في الحفلات، وكانوا يتعمدون الصراخ وإحداث الصخب والضجيج لتحويل أنظار حارس المرمى عن الكرة وتسديد هدف. وكان الجمهور يشاركهم هذه الحركات الفنية التي أصبحت الآن حكراً على الجمهور بطريقة أكثر تطوراً. ولهذه المظاهر الاحتفالية جذور أيضاً تتعلق بارتباط ظهور كرة القدم الحديثة بالثورة الصناعية، فوظفت في تلك الفترة كعنصر للسلم والاندماج الاجتماعي، وأصبحت رمزيتها تعود إلى العمال كفئة شعبية كانت تتفنن في الاحتفال والترفيه عن نفسها بعد أيام عمل شاقة، وابتدعت أشكالاً مختلفة من الاحتفالات فجربت الفنون الاستعراضية والموسيقى، وتطور تناولها لأنواع من الموسيقى مع مرور الزمن.

وعند النظر إلى الاحتفالات والمهرجانات المصاحبة لمباريات كرة القدم، خصوصاً المونديال، نجد أن كرة القدم تنطوي بشعبيتها الواسعة من حضورها الميداني المثير هو الآخر، على قراءة مغايرة كرياضة ورسالة سلام في لوحة فنية تسعى إلى الخروج مما يحيط بها من تصورات جماهيرية مبنية على المنافسة المتوترة. وهنا تتبدى جمالياتها المتتالية القائمة على لحظات مكتنزة بثراء فني، وفي مساحات مقتنصة من البهجة تحاول تحويل التعقيد إلى سلاسة والتوتر إلى تشويق، وإبقاء المستطيل الأخضر ساحة سلام وتنافس حضاري بدلاً من أن يتحول إلى ساحة عراك وفوضى.

وما ساعد على هذا الربط أن كرة القدم تتوفر على عناصر ثقافية وجمالية وعناصر تجعلها الرياضة الأكثر شعبية وجماهيرية بامتياز. والمتأمل للمشهد يدرك مغزى الأداء الجماعي للأناشيد الوطنية والأغاني وحتى الأهازيج الشعبية، وهذه الصورة الحقيقية والواقعية للوحدة العفوية لا تغيب عن المشهد إلا ببروز عوامل أخرى سلبية، ومفاجآت تحول السلوك الحضاري إلى نقيضه، لذلك تزداد وتيرة الموسيقى وتتعالى الأصوات المرددة مع ارتفاع صوتها لتذيب التوتر كلما حمي الوطيس في الملعب، وبلغت المنافسة حداً يصعب الرجوع عنه. وهنا تعمل الموسيقى كحالة إشعاع نفسي وعاطفي، ونتاج إبداعي إنساني، وأحد ألوان الثقافة الإنسانية، كما تعمل بوصفها موصلاً ووسيطاً للمشاعر الإيجابية في البيئة الرياضية التنافسية.

أحاسيس متفاعلة

ودرجت مباريات كرة القدم، وعلى رأسها المونديال، أن تحتل الموسيقى مساحة مرموقة من الفعاليات المصاحبة قبل وبعد وأثناء المباريات. وبقدر التنوع البشري الهائل لعشاق كرة القدم من مختلف الشعوب، والثقافات والأهواء والأمزجة، تتنوع أيضاً الموسيقى حتى تبدو مدرجات الملعب وكأنها عرس كوني ضخم. ومع كل الصخب المتنوع، إلا أن اللوحة التي تتماهى فيها الأحاسيس المتفاعلة مع الموسيقى تبدو موحدة.

ومما تختزنه الذاكرة الشعبية متجاوزة حدود الجغرافيا، تخرج موسيقى الجاز الأميركية التي ازدادت شعبيتها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي من "عصر الجاز" إلى أزمان أخرى متقدمة. ومن الصخب والحيوية تنبعث موسيقى "ريذم أند بلوز" التي يركز أداؤها على جذب الجمهور مثلما كانت تعمل منذ نشوئها، إذ إنها تستند أساساً إلى قرع الطبول والجهير المزدوج والغيتار الكهربائي. ومن سحر الريف الأميركي في الخمسينيات حين كانت موسيقى "الروك أند رول"، هي السائدة بأسلوبها الشعبي، ويعود الجمهور فيها إلى أداء ألفيس بريسلي وتشاك بيري، كما يتعالى الإيقاع الجامايكي الشائع على وقع موسيقى "الريغي" التي ارتبطت كلمات أغانيها بالنقد الاجتماعي، ورائدها المطرب الجامايكي بوب مارلي. وتتشابك الأسماع أيضاً مع الموسيقى الإسبانية التقليدية "الفلامنكو" التي ارتبطت بثقافة الغجر، وعكست جذورها التمازج الثقافي الذي حدث في الأندلس بين السكان الأصليين والمسلمين والغجر والقشتاليين. وهناك الإيقاع الموسيقي الراقص "السالسا" في أميركا اللاتينية، وقد نشأت من امتزاج موسيقى "سون" الإسبانية، مع موسيقى "الجاز" الأفريقية الكوبية وألوان من الموسيقى الكاريبية و"البلوز"، وحظيت بانتشار واسع في ستينيات القرن الـ20 على أيدي موسيقيين أميركيين لاتينيين هاجروا إلى نيويورك. وغيرها كثير من ألوان الموسيقى الأخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وما سيميز هذا المونديال الذي يقام للمرة الأولى في دولة عربية، هو حصوله على فرصة لإبراز الموسيقى العربية وتنوعها اللافت من الخليج إلى المحيط. ففي تقرير أخير ذكر "اتحاد إذاعات الدول العربية"، أن هنالك ما يزيد على 124 قناة عربية خاصة بالأغاني، هذا غير العدد الكبير من المطربين العرب البارزين والمؤدين الاستعراضيين.

منجز إنساني

ثمة اتصال سري بين الموسيقى وكرة القدم منذ بداية النشاطين وتصنيفهما في إطار الترفيه. فالمنجز الإنساني الذي يشكله الأداء في كل منهما والجهود المرتبطة بالأداء الموسيقى، يخيل للمرء أنها تحاول إبعاد "اللعبة" من أجواء التوتر، وتجاهد كي لا ينزلق الملعب (جمهوراً ولاعبين) إلى أي حادثة عنف.

وبسبب الحماسة الطاغية التي تشعلها الموسيقى أصبحت ركناً مهماً يمتزج مع تفاعل الجمهور لشد أزر اللاعبين، وصرف حالات التعصب التي يمكن أن تتأجج بمشاعر مكبوتة وغضب ناشئ على ما يدور في الملعب. ولهذا كله وظفت الموسيقى بقدرتها على الترفيه والتعبير وتشكيل الهوية الفردية والجماعية اقتصادياً، ومنها ظهرت قوة الموسيقى في العلامات التجارية، وأصبحت ترعاها شركات رياضية عالمية معروفة، تعتمد عليها أكبر نوادي كرة القدم العالمية في زيها وأحذيتها الرياضية، بخلق علاقة تعاون وثيقة مع الفنانين والموسيقيين لتعزيز علامتها التجارية، وتوثيق الارتباط بين الموسيقى والرياضة، فنشطت الصفقات التجارية بين النوادي الرياضية وخدمات بث الموسيقى. وإضافة إلى فائدتها الاقتصادية، تعزز الموسيقى علاقة الأندية بالجماهير لرعاية اختياراتهم وأذواقهم بعناية، وتحصل الفرق الرياضية في المقابل على ترسيخ سمة مركزية لبطولاتها باختيار أغان تدعم الحدث وتشعل حماس الجمهور.

إن العلاقات المتبادلة بين الموسيقى وكرة القدم من جهة، والاستثمار الاقتصادي من جهة أخرى تكمن في الجذور الترفيهية للموسيقى وكرة القدم التي تتغذى على التقاطعات الاجتماعية والثقافية، ولو أن كثيرين يرفضون تضمين التغييرات السياسية ضمن هذه التقاطعات، ولكنها تظهر في اختيارات بعض المشجعين لأغنيات من التاريخ السياسي كتبت في فترات الحروب، ووجهونها للفريق الخصم. فمثلاً في مباريات كرة القدم الاسكتلندية و"كأس اسكتلندا"، يتم عزف أغنية "زهرة اسكتلندا" التي كتبها الملحن والمغني روي ويليامسون عام 1967، وهي أغنية رثاء تخلد انتصار ملك اسكتلندا روبرت ذا بروس على جيش الملك الإنجليزي إدوارد الثاني عام 1314 في معركة بانوكبرن، وتنادي بالانسحاب من المملكة المتحدة.

تأثيرات إيجابية

وأثبتت دراسات عدة في هذا المجال أن للموسيقى تأثيرات إيجابية على الرياضيين، وخصوصاً رياضيي كرة القدم في تدريباتهم وأثناء المباريات، وهي تأثيرات نفسية فيزيائية تشير إلى كيفية تفاعل الرياضي عاطفياً مع الموسيقى، أو كيف يمكن أن تغير الموسيقى مزاجه. وتأثيرات فيسيولوجية تشير إلى ردود الفعل الجسدية لدى الرياضي، مثل سرعة الجري أو التحمل بشكل أفضل. وتأثيرات نفسية فيسيولوجية لها علاقة بالتأثيرات الجسدية مثل زيادة ضربات القلب، والتأثيرات المولدة للطاقة، ومنها الآثار الإيجابية، سواء الجسدية أم النفسية. وفسر العلماء ما تحدثه الموسيقى من تحسين للأداء الرياضي يعود إلى مقدرتها على صرف الانتباه عن الألم والإرهاق، مما يمكن الناس من ممارسة التمارين لفترة أطول.

وخصص المتخصص في علم النفس الرياضي البريطاني كوستاس كاراجورجيس وفريقه في جامعة برونيل بلندن سنوات لمراقبة استجابة الدماغ للموسيقى أثناء ممارسة الناس للتمارين الرياضية. وجاءت نتيجة الدراسة بأن "الاستماع للموسيقى أدى إلى زيادة بنسبة 28 في المئة من الاستمتاع بالنشاط الرياضي، كما كان الاستمتاع أعلى بنسبة 13 في المئة بالنسبة إلى المشاركين الذين استمعوا إلى الموسيقى، مقارنة بأولئك الذين استمعوا إلى "بودكاست"، كما أفادت نتيجة دراسة أخرى بأن المشاركين الذين استمعوا إلى الموسيقى أثناء الرياضة ارتفعت لديهم مستويات هرمون السعادة (السيروتونين)، وهو الهرمون الذي يعزز المشاعر الإيجابية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات