Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حنايا تونس" من كنز أثري إلى مكب للنفايات

شبكة من السواقي أنشئت في أواسط القرن الثاني بعد الميلاد خلال حكم الإمبراطور الروماني أدريان لمواجهة الجفاف

تواجه الحنايا التي تعد معلماً أثرياً فريداً من نوعه في تونس الإهمال والتجاهل (اندبندنت عربية)

تواجه الحنايا التي تعد معلماً أثرياً فريداً من نوعه في تونس الإهمال والتجاهل ما قاد إلى موجة غضب واستنكار لدى قطاعات واسعة من التونسيين.

والحنايا هي عبارة عن شبكة من السواقي لنقل المياه تمتد على 132 كم على الأقل، وشيدت في العهد الروماني ما يجعل منها معلماً ضارباً في القدم ببلد تعاقبت عليه حضارات عدة.

وأحيت احتجاجات لعدد من التونسيين في مدينة باردو (4 كم عن العاصمة التونسية) ضد تحويل الحنايا التي تمر عبر المدينة إلى ما وصفوه بمكب للنفايات، المخاوف في شأن هذا الكنز الأثري الذي يعود تأسيسه لـ19 قرناً خصوصاً بعد تسجيل اعتداءات ضد الحنايا طيلة السنوات الماضية.

مكب للفضلات

قال الناشط المدني محمد دويك لـ"اندبندنت عربية" إنه "منذ الثورة التي تمت في عام 2011 أصبحت لدينا فرصة للتعبير عن آرائنا تجاه قضايا عدة، واليوم نتحرك مجدداً ضد الكوارث البيئية في باردو وضد ما آلت إليه الأوضاع في الحنايا، إذ تحولت من تاريخ إلى مكب للفضلات ونقطة سوداء".

واستدرك دويك بالقول إن "السلطات تتجاهل مشاكلنا وتكتفي بالاستماع وذر الرماد في العيون بالوعود الزائفة في الوقت الذي ترمز فيه الحنايا إلى تاريخ البلد والمدينة بأكملها".

من جهتها، قالت المواطنة بية بن سعيد إن "الحنايا تحولت إلى مصب للفضلات وتواجه اليوم الإهمال المتعمد حيث لا يتم بذل أي جهود من قبل البلدية أو السلطات من أجل صيانتها".

وشددت بن سعيد على أن "الوضع كارثي قرب الحنايا وأيضاً معالم أخرى في المدينة، والروائح الكريهة تتصاعد بشكل مقلق جداً، إضافة إلى الذباب وغيره".

وجاء تحرك عدد من التونسيين، السبت، في وقت أطلقت فيه السلطات المحلية وعوداً بأن الكارثة البيئية في باردو في طريقها إلى الحل، لكنها تملصت في المقابل مما يحدث للحنايا هناك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال رئيس البلدية منير التليلي في تصريحات بثتها إذاعة "شمس أف أم" المحلية، إن "الإشكال البيئي في طريقه إلى الحل، أما في ما يخص الحنايا فهي ليست من مهام البلدية بمفردها، فالمعهد الوطني للتراث مطالب بصيانتها ولم يتدخل في هذا الصدد منذ سنوات".

واعتبر عضو جمعية البيئة والتهذيب سفيان بوسعادة أن "الحنايا أصبحت منكوبة اليوم نظراً إلى عدم توفير حاويات لوضع الفضلات، وكامل منطقة الحنايا بها حاويتان وهو ما يجعلنا لا نلوم المواطنين بقدر لوم البلدية والسلطات".

ودعا بوسعادة في تصريح خاص لـ"اندبندنت عربية" السلطات إلى جعل الحنايا مسلكاً صحياً وتحييدها وحمايتها، لافتاً إلى أن "الحنايا تعد تاريخ البلد وحضارته، ويجب تحويلها إلى مسلك صحي وسياحي وصيانتها بالشكل اللازم مثل ما يحدث في بقية البلدان التي تعتني بتراثها".

تاريخ البلد

إلى أمد غير بعيد كانت الحنايا تمثل وجهة عدد من التونسيين والسياح الأجانب الذين يسعون إلى استكشاف هذه المعالم ومن خلالها تاريخ البلد الذي يبدو أن الأزمات السياسية والاقتصادية التي يشهدها همشت بشكل كبير تراثه.

يقول الباحث بالمعهد التونسي للتراث نزار بن سليمان لـ"اندبندنت عربية" إن "الحنايا أنشئت في أواسط القرن الثاني بعد الميلاد خلال حكم الإمبراطور الروماني أدريان الذي زار أفريقية سنة 128 بعد الميلاد ونزل في قرطاج وقتها ولاحظ معاناتها من الجفاف".

واجتاح الجفاف في تلك الفترة قرطاج خمس سنوات بحسب عديد من المصادر التاريخية، وهو ما كان حافزاً للإمبراطور أدريان لتشييد الحنايا.

وواصل بن سليمان قائلاً "فقرر القيام ببحث وقتها في شأن العيون الموجودة في محيط قرطاج لاستغلالها في إيصال المياه إلى العاصمة ثم وقع الاختيار على عين زغوان وهي العين الرئيسة في الحنايا، والعمل الهندسي آنذاك لتشييد الحنايا كان شبه تعجيزي".

وشدد بن سليمان على أن "المشروع بدأ في عهد أدريان لكنه انتهى في عهد خلفه، وتم في عهد الحفصيين (القرن 13) إنشاء الحنايا في منطقة باردو وفيها مكونان أساسيان، الأول معروف وسط باردو الآن والثاني قناة تقوم بإيصال المياه إلى تونس، وتحديداً المنطقة التي يقع فيها جامع الزيتونة (وسط العاصمة حالياً) ولم تعد هذه القناة موجودة الآن".

والاعتداءات على الحنايا ليست وليدة اللحظة حيث تعرضت إلى التخريب خلال الغزوات على قرطاج في القرون الماضية، وهو ما يثير تساؤلات في شأن الأسباب الكامنة وراء صمود هذه المعالم التي تبدو شامخة.

وحول ذلك قال بن سليمان إن "الأسباب تكمن في تقنيات بناء الحنايا، فالتقنية الأولى تتمثل في البناء بخليط من الحجارة الصغيرة مع الملاط من الداخل، ومن الخارج بالحجارة الكبيرة، وتم استعمال هذه التقنية في عهد الرومان".

وأوضح أنه "في عهد الحفصيين تم استعمال تقنية التابية، أي رص التراب مع مواد أخرى بين لوحتين خشبيتين ينقلان أفقياً وعمودياً إلى حين إتمام السور، وهناك نقائش ورسوم لمواقع رومانية وغيرها".

وأكد أن "الحنايا تعرضت للهدم بشكل متعمد في القرن 19 وكانت وقتها الأطول على مستوى أفريقيا حيث يبلغ ارتفاعها 33 متراً، وهو اعتداء كبير لكن وقتها لم تتشكل بعد مفاهيم التراث الوطني والآثار قبل أن يتم سن قوانين من قبل الفرنسيين".

وأردف بن سليمان أنه "تم في عام 1884 تدشين مصلحة خاصة بالآثار من قبل الفرنسيين، ثم أول قانون في هذا الصدد في نهاية القرن 19 حيث تم إصدار قانون لترتيب المعالم الأثرية ما وفر حماية قانونية للمعابد التي بات من المحظور المساس بها".

فجوة بين القانون والتطبيق

الجدل في شأن الحنايا في تونس ليس بالجديد، حيث شهدت البلاد في عام 2018 سجالات عنيفة بسبب هدم جزء من الحنايا في مدينة المحمدية التابعة لمحافظة بن عروس المتاخمة للعاصمة إثر فيضانات شهدتها المدينة.

وتمت عملية الهدم من قبل مواطنين بنوا منازلهم بالقرب من الحنايا في خطوة سارعت وقتذاك السلطات إلى إدانتها، فيما شجعت قوى سياسية بارزة هؤلاء على ذلك خصوصاً حركة النهضة التي أصدرت بياناً طالبت فيه بالهدم من أجل حل المشكلات العمرانية هناك.

ويعزو متخصصون الإهمال والاعتداءات التي تتعرض إليها الحنايا إلى الفجوة العميقة في تونس بين القوانين والتشريعات والتطبيق في الواقع.

وقال بن سليمان، إن "هناك فرقاً بين القانون الذي هو مثالي عادة، حيث ينص على عدم المساس بالحنايا وضرورة الحصول على ترخيص من السلطات في حال القيام بأي إشغال في محيطها، والواقع. هناك فجوة كبيرة بين القانون والتطبيق".

من جهته، قال المؤرخ التونسي محمد ذويب إن "الحنايا أو أهرامات تونس معلم تاريخي شيد منذ العهد الروماني، لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي لم يشمله الإصلاح وهو ما جعله يفقد رونقه ويتحول إلى منظر منفر عوضاً أن يكون معلماً جمالياً".

 

وأشار ذويب في تصريح لـ"اندبندنت عربية" إلى أن "هذه المعالم التي تنضوي تحت المعهد الوطني للتراث الذي يتبع وزارة الثقافة تتعرض منذ سنوات إلى الإهمال والإتلاف والهدم وتحول محيطها إلى مصب للنفايات ووكر للجلسات المشبوهة المخلة بالآداب، كما استحوذ السكان على البعض من حجارته وتكاثف البناء الفوضوي في محيطه من دون تدخل رسمي".

ورأى أن "طريقة التعاطي مع هذا المعلم الأثري تعكس حالة تراخي الدولة وغيابها التام وعجزها عن استغلال مواردها، فهذه الآثار المهمة والمعالم التاريخية من المفترض أن تتحول إلى مزار للتلاميذ والطلبة والباحثين والنخب".

وشدد المؤرخ التونسي على أنه "لا بد من ترميم الحنايا وتضمينها في البرامج التعليمية الرسمية لمزيد من التعريف بها والدعاية لها في الداخل والخارج لتتحول إلى وجهات يزورها السياح التونسيون والأجانب وتستفيد منها الدولة. لكن لا حياة لمن تنادي وتفقد تونس بالتالي مورد رزق ودخلاً مهماً نتيجة عجز الدولة وتكلس العقل السياسي التونسي".

وعلى رغم أنها مصنفة ضمن لائحة التراث العالمي من قبل اليونسكو، فإن الاعتداءات على "الحنايا" في تونس مستمرة وهو ما يطرح تحدياً أمام السلطات التي أظهرت حزماً تجاه الاعتداءات من خلال إدانتها، بانتظار ما إذا كانت ستتحرك فعلياً لوضع حد لتلك الاعتداءات والتجاهل.

المزيد من منوعات