Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصّة القرية التي سُلِّم أمرها إلى البحر

يُمكن لارتفاع منسوب البحر أن يتسبّب في تهجيرٍ قسري للعائلات القاطنة في فايربورن، محوّلاً أفرادها إلى أوّل النازحين جراء التغيّرات المناخيّة في بريطانيا

فايربورن. احفظ اسم هذه القرية جيداً، فأهلوها مرشحون ليصبحوا أول نازحي المناخ في بريطانيا (الإندبندنت)

هي قريةٌ من القرى الساحليّة؛ مَن يقصدها للمرة الأولى، يرى فيها التّعريف الأمثل للهدوء والطمأنينة. إنّها فايربورن التي تحتضن بين جنباتها عدداً قليلاً من المتاجر والحانات وفي ثنايا قلبها أجواءً من الإلفة والرضا، ومرد ذلك ربما إلى موقعها المحصور بين البحر الشاسع والجبال الغنّاء. لكن اليوم، ثمّة شعور بالغضب يسود سكان فايربورن غربي ويلز الذين يتوزّعون على 400 منزل فقط.

"إذا أرادوا إخراجنا من ديارنا، فليتوقعوا منّا التصدّي لهم وكسر إرادتهم. ما الذي سيفعلونه عندئذٍ؟ هل سيستعينون بالجيش لمُحاربتنا؟ هناك طريقان فقط للوصول إلى هنا، وكلاهما مسدود،" يقول آلن جونز، مالك ’فايربورن شيبي‘ (Fairbourne Chippy).

هذا هو نوع الكلام الذي يتناقله فيما بينهم سكان القرية المرشّحون قريباً لنيل لقبٍ غير مرغوب فيه، ألا وهو لقب: أوّل النازحين جراء التغييرات المناخية في المملكة المتحدة.

فوقوع قرية فايربورن في حوضٍ بين سنودونيا والبحر الإيرلندي ومصب نهر ماوداش هو الذي يُعرّض وجودها وحياة مَن عليها لخطرٍ حقيقي جراء الاحتباس الحراري. ولو استمرّ الارتفاع الحالي لمستوى سطح البحر، يرى الخبراء أنه لن يعود بالإمكان حماية القرية من الفيضانات والسيول الجارفة أولاً، والإنغمار التام ثانياً وأخيراً.

ولهذا السبب، ارتأت السلطات المحلية أن تتّخذ القرار اللافت بالتخلّي عن المكان. وبموجب "خطة الإزالة" التي يُرتقب الكشف عن أجزاء منها في إطار اجتماعٍ عام في السّادس والعشرين من يونيو (حزيران)، سيُطلب من كافة السكان المغادرة وستصدر أوامر بتفكيك البنى التحتية. نعم هذا صحيح. سيُصار إلى اقتلاع المنازل والمتاجر والطرقات وأنظمة الصرف الصحي من أساساتها ولن يبقَ أيّ أثرٍ لها أو لنادي الغولف المحلي والسكة الحديدية البخارية الضيقة التي ستُزال بالكامل قبل أن يعلو منسوب البحر أكثر ويغمرها. ويأمل المسؤولون في مجلس غوينيس أن يُستكمل تنفيذ الخطة إياها بحلول عام 2045.

هذه ستكون المرة الأولى التي ينسحب فيها مجتمعٌ كامل من مجتمعات العالم المتقدّم ويتقهقر نحو اليابسة جراء الاحتباس الحراري. ومعها، ستُصبح فايربورن، من حيث كافة النوايا والمقاصد، أوّل بُقعة تُمحى من على وجه الخريطة الغربيّة بسبب التغيرات المناخية.

ولو وقفتم على جدار فايربورن البحري، سيكون من السهل جداً عليكم أن تروا مدى ضعف القرية وهشاشتها. فمجتمعها المكوّن من 800 فرد، يُقيم كلّه تحت خط الدّفاع السّاحلي للمنطقة ومجرّد خرقٍ بسيطٍ للضفة الخشبيّة المكسوّة بطبقة خرسانية قادر على تفجير شلالٍ من المياه يصبّ باتجاه بيوت الطّابق الواحد المرصوفة على طول الجبهة البحريّة.

ولو حدث مثل هذا الخرق فعلاً، يطرح القائمون بالتخطيط للطوارئ سيناريوهات محتملة عديدة، لعلّ أسوأها إمكانية هبوب عاصفة لم يُشهد لها مثيل من 200 عام؛ عاصفة هوجاء قد تتمخّض عنها نتائج كارثية تصل إلى حدّ إزالة مبانٍ عديدة عن بكرة أبيها. وبحسب ما قاله لي أحد المسؤولين، "لو هبّت العاصفة بسرعة، فستكون تبعاتها غير محمودة وستتسبب في وفاة الآلاف".

إنه الأمر الذي "يُبقيني مستيقظة طوال الليل"، تشتكي نائبة المنطقة ليز سافي روبرتس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المشكلة أنّه كلّما ارتفع منسوب البحر، زاد احتمال حدوث مثل هذا الخرق جراء عواصف صغيرة. وممّا له أهمية بالغة أنّ موقع القرية ما دون "منتزه سنودونيا الوطني" (Snowdonia National Park) يعيق قدرتها على تصريف كميات المياه الكبيرة التي يمكن أن تنساب نحوها في حال ارتفاع مستوى البحر فوق الجدران المحيطة بها: النتيجة ستكون كارثة حتمية على المدى القريب وانغمار تام على المدى البعيد.

وبحلول العام 2054، يدّعي المجلس أنّ المخاطر ستشتدّ للغاية بحيث سيكون من الصعب عليه إدارتها. وكل مَن سيظلّ في فايربورن حتى ذلك الوقت، سيُعرّض حياته وحياة عمال الإنقاذ للخطر.

"هذه ليست أزمة بيئيّة وحسب، إنّها أزمة اجتماعيّة وإنسانيّة أيضاً. إنّها كابوس حقيقي،" تقول لي بأسف امرأة في التاسعة والستين من العمر.

ومن وجهة نظر الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ التابع للأمم المتحدة، فإنّ التغيّرات المناخية سترفع مستوى سطح البحر بواقع 90 سنتم بحلول العام 2100؛ ومن شأن هذا الارتفاع أن يؤدي إلى نتائج كارثية على المجتمعات في المناطق الساحلية المنخفضة، لاسيما الجزر في المحيطين الهادئ والهندي.

بالفعل، قد تشهد دولة جزر مارشال المكوّنة من ألف جزيرة في ميكرونيزيا، إجلاء سكانها البالغ عددهم 70 ألفاً، في حين يُتوقع لكيريباتي والمالديف وتوفالو أن تُواجه المصير نفسه. وإلى جانب خطر تعرّض اليابسة للإنغمار بمياه المحيطات، يُمكن لاشتداد حدّة الفيضانات الساحلية أن يتسبب بتبوير الأراضي وتلوّث المياه العذبة بمياه البحر المالحة.

وقد تكون هذه المواقع هي الأكثر تضرراً وفق التقديرات، لكن ثمّة 200 مجتمع ساحليّ في أنحاء بريطانيا معرّضة بدورها لخطر الاندثار. لعلّ أبرزها المناطق السّاحلية المنخفضة في شرق أنجليا ولنكولنشر والمساحات الشاسعة في هامبرسايد الموازية لمصبّ نهر هامبر في الجزء الجنوبي الغربي الواسع من غرب ويلز، تحديداً سوميرست ليفيلز.

وعلى العموم، سيكون 1.5 مليون منزل بريطاني مهدّدة بالتأثّر بالفيضانات والسّيول الجارفة بحلول العام 2080، وفق التقرير الصادر عن "لجنة التغير المناخي" الحكومية في نوفمبر (تشرين الثاني).

والخطر الوجودي لا يقتصر على المنازل وحدها. فبحلول العام نفسه، سيمس التّهديد المنتظم 1600 كلم من الطّرقات الرّئيسة و650 كلم من الخطوط الحديديّة و92 محطة قطار. وفي وقتٍ قريب سينسحب الأمر نفسه على محطات توليد الطّاقة ومحطات الغاز والمطامر والمواقع السّياحية المشيّدة على الأراضي السّاحلية.

وفي هذا الصدد، تقول الدكتورة ناتاشا بارلو، البروفسورة المساعدة في "مركز بريسلي الدولي للمناخ" Priestley International Centre for Climate)) التابع لـ"جامعة ليدز": "نحن كبلد، بدأنا للتو بتقبّل الأضرار والأعطال غير المسبوقة التي تتربّصنا. يظنّ الناس أنّ ارتفاع منسوب مياه البحر لا يؤثّر سوى في الجزر المدارية البعيدة. ولكننا نعيش على جزيرة. وإن لم نستعدّ جيداً للمشكلة، فستكون آثارها بعيدة المدى ومدمّرةً".

وسوف لن تقتصر على المجتمعات في المناطق الساحلية. فهدم البنى التحتية والنزوح الداخلي وتغيّر الأنماط المناخية هي خير الأدلة على أنّ ارتفاع مستوى سطح البحر سيمس حتى القرى والبلدات والمدن الداخلية. وبرأي الدكتورة بارلو، "لا بدّ للتعامل مع هذه المسألة ومحاولة حلّ المشاكل المترتّبة عنها أن يُصبحا القاعدة الجديدة."

بالمختصر المفيد، ما يحدث في فايربورن اليوم سيحدث قريباً في قرى ومناطق أخرى في المملكة المتحدة.

ومع ذلك، لا يزال آلن جونز، في محلّه الخاص لبيع السمك والبطاطس المقلية، شبه مشكّكٍ وشبه متحدٍّ. "لا يُمكنهم التنبؤ بحالة الطقس قبل يومين. فكيف يؤكّدون لي أنهم يعلمون تماماً ما الذي سيحدث في غضون الأعوام الثلاثين القادمة؟" يتساءل جونز.

وكان الرّجل، صاحب الإثنين وستين عاماً، قد انتقل مع عائلته من وولفرهامبتون إلى فايربورن عام 2013 بعد أن وقعوا جميعاً في غرام القرية التي أمضوا فيها عطلاتهم الصيفية. "إنّها المكان الذي يُمكن أن تترك فيه باب منزلك مفتوحاً. أجواء الألفة فيها بلا حدود. وقد يستغرقك اجتياز الشارع حوالى 20 دقيقة لأنك في نهاية المطاف ستتوقف للدردشة مع كلّ من تلتقي به في طريقك."

يأبى جونز التصديق بأنّ الخطر بالحدّة التي يتكلّم عنها مجلس غوينيس. "بفعلتهم هذه، يُحطّمون حياتنا من دون سببٍ وجيه." أما ابنته، لورا (26 عاماً) التي تعمل بدورها في محل السمك والبطاطس المقلية، فهي أكثر واقعية. "لستُ أكيدة ممّا سأفعله (لو فُرض عليّ أن أغادر) ،" تقول لي باستهجانٍ واضح "لا يمكن للإنسان أن يُحارب الطبيعية على ما أظن."

يبدو أنّ أكثرية سكان القرية يتّخذون موقفاً وسطياً ما بين هذين النقيضين: التشكيك والسخط من جهة، والدّعابة والقبول من جهة أخرى.

"أنا لا أُنكر ارتفاع منسوب البحر. لكنني أفضّل ألا أغادر بيتي طالما أنني لم أحتج بعد إلى زورقٍ مطاطي ليُخرجني منه،" يُوضّح آلن وايت البالغ من العمر 72 عاماً.

لا أدري هل هو غاضب؟ "ينتابنا شعور بخيبة الأمل،" يقول لي "وبسبب حالة الريبة السائدة، لم يعد يهدأ لنا بال."

منذ طرح خطة الإزالة لأول مرة عام 2014، لاحظ العديد من السكان انخفاضاً واضحاً في أسعار المنازل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أحد منازل الطابق الواحد التي كانت معروضة للبيع بقيمة 175 ألف جنيه إسترليني منذ ثلاثة أشهر، لا تزال متاحة إلى اليوم لكن بقيمة 135 ألف جنيه إسترليني فقط.

ولاحظ السكان كذلك أنّ المصارف قد توقّفت عن تقديم قروض الرهن العقاري. وباتت القرية ملاذاً آمناً للمشترين نقداً، علماً بأنّ كل من يرغب في الاستثمار في المنطقة ويصبو إلى توسيع ملكيته الجديدة هناك، قد يصطدم بخيبة أمل كبيرة. ففي الوقت الراهن، ترفض هيئة التخطيط في المجلس، كما يُقال، إصدار أي رخصة لبناء إضافات تشمل غرف نوم إضافية.

ومن وجهة نظر ستيوارت إيفز، "هم لا يريدون للناس أن تستقرّ هنا. ما يُحاولون فعله حقيقةً هو تقليص حجم القرية وزعزعة الاستقرار فيها كي يُجبروا الناس على الخروج من أماكن سكنهم، حتى ولو أدّى ذلك إلى خسارة هؤلاء لمدخرات العمر أو تراجع قيمة أصولهم المرهونة إلى ما دون المبالغ المقترضة لها. لا أحد يعلم ما الذي سيحدث تماماً بسبب البحر، لكنّ المجلس مصمّم في كل الأحوال على تقويض المنطقة."

وستيوارت رجل قاسٍ من الخارج ورقيق من الخارج؛ يُدير موقعاً من 40 قطعة أرض للمخيّمات والقوافل، ويتولّى رئاسة مجلس آرتوغ المجتمعي الذي يشنّ حملات مناهضة لقرار الإزالة. ستيوارت أيضاً جد لستة أحفاد؛ في تسعينيات القرن الماضي، اِنتقل من باكينجهامشير إلى هنا، على أمل البقاء في "الأرض التي توقّف فيها الزمان" حتى آخر يومٍ في حياته.

وفيما يُرافقني في جولةٍ على المواقع (القطار والشاطئ والحانات) بعد ظهر أحد الأيام، يُخبرني ستيوارت عن الأصول الفيكتورية للقرية التي شيّدها بائع دقيق إنجليزي لتكون منتجعاً سياحياً، لافتاً إلى عدم قدرته على التصديق بأنّ البحر سيبتلع القرية. وعلى غرار العديد من سكان فايربورن، يعتقد ستيوارت أنّ المسؤولين يُبالغون في ردود أفعالهم.

"ثمة علماء كثر لا يُوافقون على المعطيات التي يُعوّل عليها مجلس غوينيس،" يروي ستيوارت "ومن هذا المنطلق، نرى ضرورة التريّث ومراقبة ما سيحدث في السنوات القليلة القادمة قبل اتخاذ أي قرار حاسم. فلننتظر ونرى."

وأثناء مروري بقاعة القرية ذات الجدران البيضاء، ألتقي ليزا غودير، كبيرة مديري مشاريع إدارة مخاطر التآكل الساحلي والفيضانات في مجلس غوينيس. ويبدو لي أنها مبتهجة ومضطربة في آن. فبعد تكليفها بمسؤولية وضع استراتيجية الإزالة، وجدت نفسها بين الشيطان والبحر الأزرق العميق حرفيّاً.

حسب قولها: "ينتقدنا المجتمع بشكلٍ كبير: ’لم لا تتركوننا في حالنا حتى تتأكدوا؟‘ حسناً، لا يمكننا أن نكتفي بالتخطيط، إذ لو حدث ما نخشاه فسوف تلوموننا لعدم تحذيركم."

وليزا التي تعيش بدورها بالقرب من البحر في منطقة بينمانماور في الجهة المقابلة للمنتزه الوطني، تتواصل مع السلطات ومن الواضح أنها متحمّسة جداً لحلّ ما تُسمّيه بـ"الحالة الطارئة البطيئة الظهور". ولكنها من وقت لآخر، تتعثّر وتنهار. "لا أحد منّا سيخرج من هذه الأزمة دون أضرار. نحن نحاول فقط التوصل إلى حلٍّ يناسب الجميع،" على حد تعبيرها.

وكانت خطة الإزالة قد طُرحت كاحتمال للمرة الأولى في السنوات التي تلت صدور "خطة إدارة خطوط السواحل" للعام 2013.

ففي ذلك التقرير المبني على توقعات "الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ" (IPCC)، بانت إمكانية تعرّض 35 منطقة في هذا الجزء من ويلز للفيضانات في المستقبل. لكنّ طبيعة فايربورن الجغرافية المميّزة أثارت قلقاً خاصاً، مع احتمال تسبّب ارتفاع منسوب البحر فيها بمشاكل متتالية. بما معناه أنّ فايربورن ستشهد فيضانات وسيول جارفة من كلّ جانب مع ارتفاع منسوب البحر جراء هطول الأمطار الغزيرة على سنودونيا وانسكاب المياه الفائضة باتجاه القرية، محوّلاً إياها إلى سهل مغمور.

وإنطلاقاً من هذه النتائج المخيفة، بادر المسؤولون إلى البحث عن حلول محتملة. وفي العام 2014 وبعد تعرّض القرية إلى فيضانٍ بسيط، كُشف النقاب عن أنّ الخيار الأمثل هو خيار الإزالة. ومذاك والاستشارات شبه الرسمية تجري على قدمٍ وساق.

وتتابع ليزا حديثها قائلة: "يُشاع أنّه يتم التضحية بقرية فايربورن من أجل إنفاق المال لإنقاذ أماكن أخرى. يمكنك أن تملك مال العالم ولكنّك ستظلّ غير قادر على جعل فايربورن منطقةً آمنة. لا يسعنا أن نرسم طريقنا للخروج من هذه الأزمة."

لضمان السّلامة العامة من الفيضان وتداعياته، يرى المجلس حاجةً ملحّة لتشييد سدٍّ بعلو أربعة أمتار على الأقل فوق الدفاعات البحرية القائمة حالياً (التي استُحدثت عام 2013 وكلّفت حينها 6.8 ملايين جنيهاً إسترلينياً. "بصرف النّظر عن كلفة مثل هذا المشروع. لا يمكن أن يستمرّ وجود القرية عند أقدام جدارٍ ترتطم به مياه البحار من الجانب الآخر،" تذكر ليزا.

وكان المجلس قد نظر في حلول أخرى سوى الإزالة، لكنّه سرعان ما دحضها على أساس أنها غير عمليّة وغير قابلة للتطبيق. الأكيد أنّ في هذا الجزء من ويلز لن تُرفع المنازل على عوارض ولن يُسمح للناس بالبقاء حتى ولو كانوا يملكون مراكب ورخص طيران، كما حدث في مناطق معرّضة لمخاطر فيضانية في هولندا.

وكلّ ذلك يعني، برأيي، أنّ الاستشارات لا تتطرق كثيراً إلى خطة الإزالة التي اتُّخذ بشأنها قراراً فعلياً. "نحن نقول إنّ الأمر محتمل. لكن للأسف ما من خيارات أخرى مطروحة في الوقت الحالي"، تؤردف ليزا.

وفي مقابل كلّ هذا، لعلّ السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا: كيف سيُصار إلى تغيير أماكن إقامة مجتمع بحاله، خصوصاً أنّ هذا المجتمع لا يرغب أساساً في التغيير؟

فالأحاديث عن الأماكن التي قد يُسرّ سكان فايربورن بالإنتقال إليها وعمّا إذا كانوا يرغبون في النزوح إلى هذه الأماكن جماعياً، تجري بالفعل. لكن هل سيتولّى المجلس شراء المنازل التي يُجبرون السّكان على الخروج منها؟ هل سيحمون هؤلاء من خسارة مدخراتهم المقرونة في الوقت الحاضر بممتلكات فقدت قيمتها بشكلٍ مفاجئ؟

"لو حصل الناس على تعويض مادي عمّا سيخسرونه، فستكون هذه نقطة إيجابية لصالحنا. لكن للأسف، ليس هناك حالياً أي اقتراح بالتعويض ولا أعلم ما إذا كان سيُطرح في وقتٍ لاحق،" تقول ليزا مومئةً برأسها.

المشكلة تكمن في المبلغ المطلوب لإجلاء سكان القرية البالغ عددهم 800 شخص وإعادة توزيعهم على منازل جديدة قبل الشروع في إزالة كلّ البنى التحتية، والذي قد يصل إلى مئات ملايين الجنيهات.

يبدو أنّ مجلس غوينيس المنتخب بعد عقدٍ من التقشّف، غير أكيد من قدرته على تحمّل أعباء مثل هذه العملية. والأمر سيان بالنسبة إلى حكومتي ويلز وبريطانيا اللتين لم تبديا حتى الآن أي رغبة في دفع التكاليف.

وفيما تعتبر ويستمنستر أنّ هذه المسألة تخصّ كارديف وحدها، تُوضّح هذه الأخيرة أنّ التغيّر المناخي مشكلة تخصّ المملكة المتحدة ككلّ ولا بدّ من تخصيص ميزانية لها. فهيئة "إدارة الموارد الطبيعية في ويلز" المعنيّة بحماية سواحل المنطقة، لا تنوي تهجير السكان من بيوتهم ووزارة الفيضانات لا ترى نفسها ملزمة بدعم النازحين من فايربورن عدا أنها لا تملك الميزانية الكافية لذلك، وفق ما جاء على لسان الوزيرة ليزلي غريفيث.

والخطة الوحيدة التي اقترحتها ليزا ونالت تأييداً واسعاً من سكان القرية، هي الخطة التي تُلزم المجلس بشراء المنازل في فايربورن ثم تأجيرها للسكان حتى يحين موعد رحيلهم عنها. ولكنّ هذه الخطة ما لبثت أن تعثّرت جراء النقص في التمويل.

وفي معرض حديثها في جلسة شاي خارج البلدة، تقول لي النائبة ليز سافي روبرتس: "لا أحد يلتفت إلينا. لا بدّ لهذه الأزمة أن تكون نداء صحوة للأمة برمتها. فاستراتيجيات الحكومة الحالية لا تأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات المطلوبة في حالات الطوارئ الناتجة عن التغيرات المناخية."

وتتابع ليز: "هذه الحالة قابلة للتكرار في قرى ومناطق أخرى ولا بد من وضع استراتيجية متكاملة ومتناسقة للتعامل معها. لنكن إيجابيين: فايربورن هي فأر التجارب الذي سيُبيّن مدى قدرتنا كبلد على التعامل مع هذا النوع من المسائل بشكلٍ سليم وإنساني. لكن في الوقت الحالي، هذا الأمر بعيد الحدوث."

إنها صرخة استغاثة يُرددها الخبراء.                                                                                                   

فإبان شهر مايو الماضي، حذّرت هيئة البيئة في إنكلترا بشكلٍ رسمي من ضرورة إرساء طرق جديدة للتأقلم مع التغيرات البيئية المرتقبة.

وفي إطار استراتيجيتها الجديدة لإدارة مخاطر التآكل الساحلي والفيضانات، نبهتت الهيئة إلى عدم قدرة المجتمعات على شقّ طريقها للخروج من المشاكل الناتجة عن ارتفاع منسوب البحر. ودعت إلى خوض نقاشٍ وطني بشأن الطريقة المثلى لتحقيق القدرة على تجاوز الأزمات، مقترحةً الحد من عمليات بناء مبانٍ جديدة على الساحل من جهة وتحويل بعض المجتمعات بشكلٍ يتيح لها امتصاص الفيضانات المتكررة من جهة أخرى. إلى ذلك، اعترفت الهيئة بشكلٍ واضح وصريح بأ من غير الممكن تأمين الحماية الكاملة لكل المواقع في ظلّ التغيرات الحاصلة للخطوط الساحلية، ولكنها لم تسمِّ أماكن محددة.

"علينا أن نتحرّك فوراً ودون تأخير. علينا أن نُطبق فلسفة مختلفة، "وفق قول الهيئة الحكومية التي لم تقدّم أي مقترحات بشأن زيادة التمويل ولم تأتِ على ذكر كيفية مساعدة الناس الذين سيخسرون منازلهم، شأنها شأن حكومة ويلز التي طرحنا عليها السؤال نفسه لغاية هذا المقال.

"نحن نعمل يداً بيد مع السلطات المحلية من أجل تقديم الدعم للخطط المجتمعية التي من شأنها التخفيف من المخاطر. لكننا لا نوفّر المنح الفردية لمالكي المنازل،" أعلن متحدث رسمي باسم الهيئة.

المسألة على ما يبدو، على شفير الإنهيار.

بالعودة إلى فايربورن، إلى موقع القوافل تحديداً حيث بدأ ستوارت إيفز عمله من الصفر منذ 43 عاماً، يُعرب هذا الأخير عن أسفه الشديد لما يحصل ويختتم حديثه قائلاً: "كلّ ما يريده سكان البلدة الآن هو الشعور بالأمان من جديد. لقد طال تأثير هذه الأزمة علينا. هم يبذلون ما في وسعهم لاتخاذ القرارات المناسبة لكنهم في أغلب الظنّ ينسون أنّ حياة أشخاص حقيقيين على المحك. قد يكون الخوف من التغيرات المناخية هو السبب في كل ما يحدث، لكنّ سوء التعامل مع هذا الخوف هو الذي يزيد الطين بلّة."

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من بيئة