في ظل ما تعيشه اليوم العديد من الدول من تقنين التيار الكهربائي وأنباء تشير إلى احتمال تزايد عدد ساعات القطع، إضافة إلى التحذيرات التي يتلقاها سكان دول أخرى حول احتمال وصول هذه المشكلة إليهم، إضافة إلى نقص عام في الموارد التي تعتبر عناصر أساسية لاستمرار عجلة العمل والإنجاز في العصر الحديث، تطرح تساؤلات عدة حول الطريقة المثلى للتعامل مع هذا الوضع وكيفية تحويل هذه المشكلة إلى تحد يمكن أن ننجح فيه عند استثمار قدرات عقولنا اللامحدودة.
سهولة انجذابنا إلى المشتتات
يعتمد النجاح في إنجاز المهمات بشكل أساس على تنظيم واستثمار الوقت وتوزيع المهمات ضمن حدوده، ومن ثم التركيز على كل مهمة على حدة لإتمامها في وقتها المحدد.
لكن في عالم يعج بالمشتتات على اختلاف أنواعها تصبح الإنتاجية غاية صعبة تتطلب جهداً إضافياً وقدرة عالية على الالتزام والتركيز بعيداً من الملهيات على اختلاف أنواعها، بخاصة وأنها تتزايد بشكل مطرد مع التطور التكنولوجي وسهولة الوصول إلى الأشياء والاتصال بها.
وإذا كانت المشتتات في السابق تتركز على تلقي اتصالات عبر الهاتف الثابت أو زيارة مفاجئة، تبدع مشتتات اليوم في طرق أبواب فضولك، كما يستثمر منشئو المحتوى ومطورو التطبيقات بعض ميولنا الطبيعية والبشرية ويستغلوا فهمهم لسيكولوجيا النفس البشرية، لا سيما في ما يخص طريقة جذب الانتباه، فدائماً هناك مقطع فيديو أو تغريدة أو مقالة أو رسالة جديدة لإلقاء نظرة عليها، ومن دون وعي منا، نغوص ساعات على إحدى هذه المنصات منتقلين من نشاط إلى آخر، غير مدركين بجريان الوقت، حتى يرجح أن يكون أحدكم قد ترك الآن أحد برامج الدردشة ليقرأ هذه المقالة، وربما لن يكمله بسبب تلقيه إشعاراً بوصول رسالة والغوص في حديث ما، سينسيه ماذا كان يفعل أصلاً.
العمل في مربع الطوارئ
ويتطور العمل اليوم بشكل يضع في طريقنا تحديات لا تعد ولا تحصى للوصول إلى الإنتاجية، فحتى الأدوات الحديثة التي نستخدمها في أثناء سعينا إلى الوصول إلى أعلى درجة من الإنجاز، قد غيرت طريقة تفكيرنا وعملنا، وجعلتنا أكثر قابلية للوقوع فريسة الملهيات التي حولت حياتنا إلى حال طوارئ دائمة، سببها ضعف القدرة على تنفيذ المخططات وإنجاز جداول العمل، فعند الوقوع في فخ الملهيات تغيب مهارة التمييز بين المهم وغير المهم وبين العاجل وغير العاجل، إذ يذوب الوقت وتتداخل المهمات بشكل يصعب فيه إدراك عملية سير الوقت.
وغالباً ما يستعان بمصفوفة وضعها الرئيس الأميركي الـ 34 دوايت دافيد أيزنهاور لإدارة الوقت، والتي تساعد في تحديد أولويات المهمات بحسب أهميتها وإلحاحها، من خلال تقسيمها إلى مهم وعاجل، مهم وغير عاجل، غير مهم وعاجل، غير مهم وغير عاجل، ومن ثم الانتقال إلى التركيز على الأمور الأكثر أولوية.
ويجادل قادة التغيير والتطوير الشخصي بألا نجعل حياتنا في وضع الطوارئ عبر المكوث طويلاً في مربع "المهم والعاجل"، إذ يضغط الوقت بقوة للإنجاز السريع، بل ينصح بقضاء معظم الوقت في مربع النجاح "المهم وغير العاجل" الذي ينتج منه عمل ذو جودة وفعالية عالية، فهاهنا التخطيط بهدوء في محيط مريح غير ضاغط مع كثير من التحفيز والدعم، لكن يصعب على الغالبية تحقيق الشروط التي يتطلبها المكوث في هذا المربع في ظل الأوضاع الخارجية والمفاجآت المستمرة.
وإذا ما أخذنا نظرة على قوانين ونظريات إدارة الوقت سنجدها منطقية لكنها صعبة التطبيق، فمعظم الناس لا يجيدون التعامل مع أوقات الفراغ، وغالباً ما تمتد هذه الأوقات إلى ساعات بخاصة في وجود كثير من الملهيات التي تسحبك من أي وضع أنت فيه، وتجرك إلى سلسلة متجددة من ضياع الوقت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنظيم تلقائي
وبدأت قدرة الإنسان على التخطيط تتراجع إلى أن ظهرت مشكلة الكهرباء في بعض الدول التي ترزح تحت أعباء الحروب، لتضع تحدياً جديداً أمام الساعين في محاولات دؤوبة إلى استثمار الوقت الذي ينفلت، إذ من المتعارف عليه أن وضع جدول عمل يقوم على ثوابت تتعلق ببيئة العمل وتوافر الموارد والأدوات وغيرها أمر مهم، ولكن هل يمكن أن تساعد ساعات التغذية المحددة بالكهرباء الناس في إنجاز المهمات الأبرز بسبب ضغط وقت العمل في ساعات محددة، مما يدفعهم إلى استثمار هذه الساعات بالتركيز وإتمام المهمة، إذ بنظرة معمقة يمكن أن نجد أن هذه المشكلة جاءت على شكل تنظيم تلقائي للوضع من خلال دفع الناس إلى تنسيق الأعمال وتقسيمها وتركيز المهمات على فترات، فالوقت لم يعد مفتوحاً كما في السابق لدعم نزعة المماطلة عند الفرد، وبوجود موارد مفتوحة الوقت والكمية ربما يسهل عليك توزيع المهمات خلال اليوم، ولكن تفتح هذه التسهيلات معها باباً واسعاً للتسويف، وعند توافر الموارد بضع ساعات في اليوم فأنت بحاجة إلى ابتكار طرق جديدة في العمل والإنجاز، وهنا تبرز أهمية مبدأ "باريتو" الذي ينص على أن 20 في المئة من الوقت لإنجاز 80 في المئة من المطلوب، أي استثمار ساعات الكهرباء على رغم قلتها في أكثر الأعمال أهمية وأكبرها عائداً، بتركيز ومن دون تسويف، والتدرب مع الوقت على جعلها ذروة النشاط في اليوم، لا سيما وأن أدمغتنا قادرة على التكيف بشكل مذهل مع التغيرات من حولنا عبر ما يسمى اللدونة العصبية أو مطاوعة الدماغ، وهي واحدة من أعظم القدرات التي يتسم بها الدماغ، فإذا اختفت أية وسيلة من الوسائل المساعدة في العمل فسنظل نجد طرقاً جديدة لإنجاز العمل كما يجب، بحيث تتأهب أدمغتنا ثانية لفهم الواقع والتكيف مع المعطيات الجديدة.
كما يدعم "قانون باركنسون" Parkinson's law هذا التوجه بطرحه نظرية تتلخص بأن العمل دائماً ما يتمدد تدريجاً حتى يملأ الوقت المحدد لإنجازه، وهنا فائدة عظيمة تتعلق بتقدير الوقت المطلوب لكل مهمة والالتزام التام بإنجازها بشكل حاسم، أي إذا كُلف ثلاثة أشخاص بإنجاز مهمة ما خلال ساعتين، وكلف ثلاثة آخرون بإنجاز المهمة نفسها خلال ساعة فقط، فإن كلا المجموعتين ستنهيان العمل في إطار الوقت المحدد لهما مسبقاً، بالتالي عندما لا نملك الخيارات المفتوحة لاختيار وقت العمل ومدته فسنكون أكثر حرصاً على دقائق الوقت التي تدعمها الموارد.
وأخيراً، كلما زادت الملهيات قلت القدرة على التركيز والتخطيط والإنجاز كنتيجة نهائية، واللافت أنه كلما تطورت أساليب الإلهاء وأدواتها تطورت معها أدوات الإنجاز، لتصعب المهمة على معظم الناس، وينجح في اختبار الالتزام وتحديد الأولويات والتركيز على المهم قلة قليلة من البشر، فالأمر يتطلب بالدرجة الأولى قدراً من الإيجابية والذكاء في تطويع كل حدث لمصلحتنا مهما بدا سيئاً أو غير مساعد، وهذا ما يميز الإنسان الناجح عن دائم الشكوى والتذمر.