Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عاشور الطويبي: الأدب الليبي الجديد فرض نفسه عربيا

يكتب عن ليبيا المهمشة والمنسية ويعتبر أن نظرة المشارقة المعتالبة إلى الثقافة المغربية سقطت نهائيا

الشاعر والروائي الليبي عاشور الطويبي (صفحة الكاتب - فيسبوك)

من حين إلى آخر، يخرج الشاعر والمترجم الليبي عاشور الطويبي (مواليد 1952) من المستشفى الجامعي ليدخل إلى ورشة الكتابة، هو الذي زاوج بين الطبّ والأدب. فقد عمل لسنوات طويلة في المراكز الطبية التعليمية في ليبيا وفي معهد الأورام الذي كان أحد مؤسسيه. وألّف 15 مجموعة شعرية ورواية واحدة، وترجم سبعة كتب أدبية، أبرزها لجلال الدين الرومي والشاعر الهندي كبير، فضلاً عن مختارات من الشعر العالمي ومنتخبات لشعراء الهايكو. وقد تُرجمت خمسة أعمال له إلى الفرنسية والإنجليزية والبولندية.

يمثل عاشور الطويبي صوت الحداثة في ليبيا، ويجسد بشكل واضح التوجه الداعي إلى الانفتاح على ثقافات العالم، خروجاً من كل ضيق محلي. تتسم نصوصه بالطابع التأملي، ويمكن استقراء عناوين مجموعاته الشعرية للوقوف عند هذا الميسم: "نهر الموسيقى"، "معرفة الكائنات والأشياء"، "رأيت النهر وأشجار الصنوبر"، "عن العزلة وأشياء أخرى"، "قصائد الشرفة"، وغيرها من الأعمال التي تجعلنا نقف وجهاً لوجه، أمام شاعر يعتمد على حواسه الفردية في قراءة العالم واستشراف مستقبله، متخففاً من كل المؤثرات التي تمدّد المسافة بين أعماق الفرد، وأعماق العالم المحيط به. وقد لا تكون هذه الخصيصة الروحية والفلسفية غريبة على شاعر قضى عمره مختصاً في الطب الباطني.

إعتداء فاغتراب فعودة

 

قبل ثمانية أعوام هجم مسلحون على بيت عاشور الطويبي، وخربوا ما فيه من أثاث ومقتنيات، وأتلفوا ما فيه من وثائق ونصوص. حينها أدرك الشاعر أنه مهدد بالقتل، وأنه لم يعد، هو وكلماته، في مأمن. لذلك ترك ليبيا وهاجر إلى النرويج، ولم يعد إلا قبل عامين، بعد أن هدأت الاضطرابات التي عرفتها البلاد.

نفتح في هذا الحوار الباب على مصراعيه، لنلج إلى عوالم عاشور الطويبي الشاعر والمترجم والتشكيلي أيضاً، ففي نهاية الشهر الجاري سيقام له معرض شخصي في بيت إسكندر للفنون في المدينة القديمة في طرابلس. وإذ نقترب من تجربة الطويبي في الحياة والكتابة، نقترب أيضاً من راهن الثقافة الليبية، ولنعرف منه أيضاً إن كان هذا البلد لا يزال مظلوماً ثقافياً، ومهمشاً من أقطار أخرى ترى في نفسها مراكز للثقافة العربية.

أردنا أن نعرف من الطويبي في البداية إن كان الأدب الليبي يحظى بالمكانة التي تليق به عربياً، أم أن ثمة حيفاً يطاوله، وإذا كان هناك حيف فإلى ما مردّه؟ يباغتنا هو بالسؤال التالي: "ما المكانة التي تليق بأي أدب؟ منذ سنوات طويلة وأدباء أو مثقفو المشرق ينظرون إلى أنفسهم على أنهم المركز، وبلدان المغرب العربي على أنهم الأطراف الهشة الهزيلة! نظرة ضحلة تدل على تضخم الذات المريضة التي لا تقرأ حتى نفسها!".

 

قد يكون تقييم الطويبي قاسياً، لذلك سألناه إن كانت هذه النظرة لا تزال مستمرة، فبدا حاسماً في هذا الموقف: "في الجوهر، لا تزال النظرة هي، هي! ولكن تجدر الإشارة إلى الدور الكبير التي قامت به وسائط التواصل الاجتماعي، في إمكانية النشر والاطلاع والتواصل لإنتاج الشباب والشيوخ، من أدباء المغرب العربي وجعله متوافراً في المشهد العربي كله، مما أدّى إلى تقليص هذا الأخدود بين المشرق والمغرب".

يستطرد الشاعر الليبي: "الدارسون والمتابعون الجيدون من المشرق يقدرون كثيراً المنجز الأدبي والفكري لأدباء الشمال الأفريقي ومفكريه! هذه النظرة المتعالية ربما توارثها مثقفو الشرق الخاضعون للثقافة الأنغلوساكسونية، والتي طوال تاريخها تتعامل باستعلاء، وإن كان موارباً للثقافة الناطقة بالفرنسية. في كلّ حال، صارت غير مهمة الآن، والحديث عنها نوع من اجترار القديم المتهالك الذي لا فائدة منه!".

أصوات ليبية مفاجئة

 

قد تبدو الحركة الثقافية في ليبيا ضعيفة في العقد الأخير. ونقصد التظاهرات الثقافية والفنية والنقاش الفكري، ومعارض التشكيل والسينما والموسيقى. سألنا الطويبي إن كانت لذلك علاقة بأحداث الحراك العربي، وسقوط النظام السابق. فعارض ما ذهبنا إليه: "على العكس تماماً، النشاطات الثقافية والفنية صارت أكثر في الكم وأهم في الكيف. كما ظهرت أصوات كثيرة جديدة في السينما، والموسيقى، والتشكيل، والسرد والشعر. بعضها فاجأ المشهد الثقافي بجودته العالية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طلبنا منه في هذا السياق أن يضعنا في الصورة، ويقربنا أكثر من المشهد الثقافي الليبي الراهن، فبدا له أن "ليس بالأمر الهيّن قراءة مشهد ثقافي لا يزال يتقلّب بين الماضي والمستقبل، بين إنتاج أدب يعود به إلى قرون مضت، خاصة في الشعر، بحيث نجد الآن فرسان المشهد الشعري، متربعين على منصات المهرجانات والشهادات والتقدير، يكتبون القصيدة بشكلها وصورها الشعرية التقليدية. لكننا في الوقت نفسه نشهد ظهور أسماء لأدباء شباب من الجنسين يرفعون علم التجريب والمغامرة، وخاصة في جانب الكتابات السردية، الرواية والقصة القصيرة. أما الطفرة الإيجابية الكبيرة، فنجدها في المجالات الأخرى: السينما، التشكيل، الموسيقى والغناء. أصوات في تقديري ستغير المشهد الثقافي الليبي إلى الأفضل! أليس المستقبل دائماً، هو الأفضل؟".

 

أردنا أن نعرف من عاشور الطويبي إن كان يجد نفسه منسجماً مع الحياة الثقافية في ليبيا، أم يحس بالغربة ويشعر كما لو أنه فعلاً ذلك الطائر الذي يحلق خارج السرب. غير أنه أبدى تحفظه بخصوص هذا السؤال: "إنه سؤال أحسّ نحوه ببعض القلق والدهشة! أنا كاتب ليبي أولاً وآخراً، فما الذي يجعلني غريباً في بلدي؟ مهما كان الوضع الثقافي والفني في ليبيا غريباً أو فوضوياً، أنا جزء من هذا المشهد، وعليّ المشاركة فيه والعمل على الرفع من حاله، بقدر الإمكان".

 تحت المراقبة المتواصلة

عدنا مع عاشور الطويبي إلى حادثة تعرض بيته للقصف والنهب والاحتلال على يد مسلحين. فضاعت مخطوطاته وكتبه ومقتنياته الفنية التي جمعها من جولاته في عدد من بلدان العالم. وسألناه عن أثر هذه الحادثة الأليمة في حياة شاعر مسالم وبعيد من الخلافات القبلية والسياسية. فأكد لنا أنها كانت تجربة حياتية مرّة ومؤلمة له ولعائلته، ويقول في هذا الصدد: "ما زلنا نعاني منها حتى الآن. لكن هذا لم يجعلني أكره بلدي، أو أحقد عليه. أتفهم الظروف الموضوعية لما حدث، وأحاول بكل الأشكال، تجاوزها والمضي إلى الأمام، في الكتابة والرسم، والترجمة، والعناية بالأصوات الجديدة".

في أحد نصوصه يتساءل الشاعر الليبي: "ألا ترون/ أننا معلقون بخيط عنكبوت/ على غار خوفنا؟". سألناه إن كنا نعيش زمن الخوف، وممّ يخاف الشاعر؟ فكان رده على النحو الآتي: "في بلدان التحولات الكبرى، مثل بلداننا، يحيط بنا الخوف وأسباب الخوف. منظومات متعددة، دينية وثقافية تحاصر المبدع وتحاول تدجينه إلى معتقداتها ونظرتها للوجود. لذا يشعر المبدع، كأنه تحت المراقبة المتواصلة، أحياناً فقط لكسره وتهشيمه، أو بدرجة أقل، لإسكاته".

انتهت وظيفة الشاعر الذي يقود الآخرين إلى وجهة ما. لم يعد الشعر بطولة وزعامة على ما يبدو. لهذا سألت الطويبي عما تبقى للشاعر من مهام، لكنه هو نفسه لم يكن يعتبر طوال حياته بأن للشاعر مهمة رسولية: "بالكاد الشاعر يفهم نفسه، فكيف يمكنه فهم ظاهر الحياة من حوله بكل تعقيداتها الاقتصادية والسياسية والدينية؟ هو سهم يشير دائماً إليه، إلى جوانيته المضطربة! المفارقة هنا تأتي من أن الشاعر لكي يفعل ذلك عليه أن يجوب في الآفاق محاولاً فهم العالم وكائناته، فهم شره وخيره، رؤية قبحه وجماله. لذا نرى بعضهم ينتهون بالجنون، وبعضهم يأخذ حياته إلى الضفة الأخرى حيث يجثم السكون والطمأنينة العظيمة".

هناك خطاب فجائعي يطغى على معظم الشعر الذي نقرأه اليوم. كتابات مثخنة بالتذمر والتشكي كما لو أن الشاعر يقيم في "حجرة للبكاء"، على حد تعبير الطويبي في أحد نصوصه. هل قدر الشاعر العربي اليوم أن يكون ناعياً لا مبشراً؟ يرى الشاعر الليبي أن الحياة صارت نوعاً من الجحيم: "يخطر على بالي الآن، سلوك الطفل عندما يواجه الخطر، يغمض عينيه، فيشعر بالاطمئنان، فما يخيفه لم يعد موجوداً! ما يفعله الشاعر البكّاء، هو سلوك طفولي ونوع من إغماض العينين. في تقديري لا يكون الشاعر ناعياً ويجب عليه ألا يكون مبشراً".

في أحد نصوصه يعود إلى قريته في الطويبية التي دخلتها الميليشيات، ثم يضعنا أمام هذا المشهد القاسي: "الآن في بلاد يغطيها الموت ينزل المطر أخرس". توخينا معرفة تأثير التحولات التي عرفتها البلاد على الشاعر وعلى شعره، وركزنا على تلك الفترة التي رأى الطويبي أنها كانت مرحلة بالغة القسوة والقبح على المستوى الشخصي، من فقدان البيت ومحتوياته، وعلى المستوى العام أيضاً من فقدان الوطن ومدلولاته: "هذه القرية الصغيرة التي لا قيمة لها على المستوى القبلي، ولا توجد على الخريطة الرسمية، صارت تظهر في الأخبار عند ذكر المعارك بين المدن وبين الميليشيات. هذه القرية التي كانت تتكئ على كتف سور طيني، صارت تحمل نعوش أبنائها وتُحرق بيوتها، وتكون الوحيدة في مرمى نيران الأعداء والأصدقاء. حاولت في كتابيّ" إبيجرامات ليبية وقصائد ريفية"، أن أنحت كياناً لهذه القرية الوادعة سابقاً ولكثير من البلدات والقرى الليبية المنسية. هذا كتاب عن ليبيا المنسية المهشمة طوال تاريخها، من خلال طفولتي التي صرت أراها مهشمة".

الهجرة وسيلة للنجاة

هذه الأحداث الأليمة قادتنا إلى سؤاله عن الهجرة، هل كانت بحثاً عن حياة لم تعد؟ وهل يمكن الحديث عن مفصل حقيقي بين ما كتبه الشاعر في بلاده وما كتبه خارجها؟ يجيبنا الشاعر الليبي: "لم تكن هجرتي اختياراً، بل وسيلة للنجاة من خطر يتربص بحقد، ونفسي كانت في حاجة إلى طمأنينة صغيرة. لذا كل ما كتبته كان عن ليبيا وعن قريتي. لعلك لاحظتَ أنني لا أضع تواريخ لقصائدي، لقناعتي بأن ما يكتبه الشاعر طوال حياته ليس أكثر من قصيدة واحدة طويلة. هي القصيدة ذاتها للشاعر ذاته في تقلباتها وتحولاتها، أكانت هذه التحولات صغيرة أم كبيرة".

دخلنا مع الطويبي مضمار الترجمة، وسألناه عن خياراته، وعما يراهن وهو يختار أسماء بعينها، لنقل تجاربها للقارئ العربي. فذكّرنا أنه بدأ بشكل منتظم في ترجمة الشعر إلى العربية منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، وكانت الذائقة الشخصية هي البوصلة في الاختيار: "دعني أخبرك بأني لا أعتقد بما يسمى بالملكة أو الموهبة في الإبداع، بل إن كلّ هذا يعتمد على التأسيس والتكوين الأدبي والذي عادة ما يبدأ في الظهور في مرحلة المراهقة، ثم يأخذ في التطور والنضج بحسب العمل عليه. بمعنى آخر، المثابرة والعمل الجاد، هما العاملان الأساسيان في الوصول إلى رؤية المرء إلى نفسه كشاعر ومبدع".

يستطرد المترجم الليبي: "بالعودة إلى مسألة الترجمة، فهي بالنسبة إلي درس وبحث في معرفة شعرية الآخر، والسعي إلى فهمه وإعادة صياغته باللغة العربية. وأقصد هنا صياغته شعرياً. كنتُ على قناعة كبيرة، بأن دائماً هناك في مكان ما، في وقت ما، رجلاً أو امرأة نجحا في كتابة القصيدة العظيمة. لا يهم إن حدث ذلك في عصور ما قبل التاريخ أو أمس. الإبداع الأصيل لا يتأثر بوقت، بل بالإنسان الذي يخلقه. كنتُ حين أطلع على شعريات الآخر ومساهماته أياً كانت جغرافيته أو زمنه، أشعر بعظمة هؤلاء الخلّاقين المبدعين، وأنّ مهما علا شأنك ومقامك الشعري، يوجد شاعر أو شاعرة قد أبدعا نصاً لا يمكنك عند التعرف إليه إلا أن تأخذك الدهشة، وتعرف فضيلة التواضع، كما تعرف أنك قد تكون قادراً لو أخلصت لشعريتك وإنسانيتك، أن تخلق نصاً يثير دهشة قارئ ما في وقت ومكان ما. كذلك أشعر أن البحث عن الأصوات الشعرية المخفية ونقلها إلى العربية بحرفية ومحبة، يبين للقراء المهتمين بحقيقة وجود شعراء مغمورين، لكنهم مهمون وبارعون في لغات مختلفة عديدة. الترجمة درس في التواضع والمحبة. الترجمة كسر ناعم للمرايا، يجعلك لا ترى حقيقة نفسك إلا في الآخرين".

يحس قارئ نصوص عاشور الطويبي أنه أمام حالات نفسية مترتبة عن لحظات مكاشفة واعتراف، لذلك سألنا صاحب "ابن رشد بملابس البحر" إن كانت الكتابة الشعرية لديه نقلاً لتجاربه في الحياة إلى القارئ، وأردنا أن نعرف منه هل الشاعر بالضرورة سارد سيرة. فأكد لنا ما ذهبنا إليه: "الشاعر بشكل ما وبطريقة ما سارد سيرة، لكن كيف يمكن سرد سيرة؟ أيّ جانب منها والسيرة هواء فوق هواء؟ إذا كتبتَ خمسين قصيدة، أو قصيدة واحدة، عن ريشة تقذف بها الريح، تلك ريشة روحك وريشة الكون. الشعر ليس نقلاً لتجارب في الحياة، بل هو زعنفة سمكة تتقلّب بين ضفتي الوجود، وتظن أن النهر سيتوقف في آخر الرحلة. أنا أكتب الشعر لي. حال الشاعر في تقديري كحال من يخرج يوم القيامة فرداً".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة