Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أوكرانيا ومقاومتها رفدت تاريخ الشعوب بفصول جديدة

"آزوفستال" مصنع حديد شهد صمود كتيبة في وجه الغزاة الروس

من مشاهد القتال أثناء اجتياح القوات الروسية مصنع آزوفستال للحديد (أسوشيتدبرس)

الأرجح أنه فصل آخر في تاريخ مقاومة الشعوب للمحتلين، ذلك الذي سطرته أيدي المقاومة الأوكرانية في غرة الربيع الماضي بصمودها طيلة أسابيع في "مصنع آزوفستال للحديد والصلب" بميناء "ماريوبول" المطل على البحر الأسود.

لم يطل الوقت بين بداية حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، وبين بداية تلك المعركة الأسطورية التي انتهت باتفاق على خروج مقاتلي كتيبة "آزوف" الذين اعتصموا في مصنع "آزوفستال"، حتى الطلقة الأخيرة. وبالاستعادة، يذكر أن عام 2014 شهد تشكل تلك الكتيبة الوثيقة الصلة باليمين القومي المتطرف، مما أثار دوماً جدالاً حولها، بالترافق مع تفجر القتال على نطاق واسع مع قوات موالية لموسكو في إقليم "دونباس" المتاخم لروسيا.

في منتصف مارس (آذار) 2022، نجحت القوات الروسية في اختراق خطوط القوات الأوكرانية في ميناء "ماريوبول"، بعد حصار استمر منذ الأسبوع الأول للحرب في أوكرانيا.

ووفق تقرير للصحافية الأوكرانية المستقلة ليز كوكمان نشرته مجلة "إيكونومست" يحكي بعض الناجين من أفراد كتيبة "آزوف" قصص صمود مختلفة، من بينها قصة المقاتل مولفار (27 سنة) الذي أصيب بشظية خلال غارة للطائرات الروسية على مسبح "نبتون" في ميناء "ماريوبول"، وقد حصدت أرواحاً كثيرة. وتتابعت الغارات. ولم ينج مولفار إلا بفضل وجوده بالصدفة في ممر مستشفى عسكري نقل إليه عقب إصابته مباشرة، إذ هدمت القاذفات الروسية جزءاً كبيراً من ذلك المستشفى.

وأدت تلك الغارات التي ترافقت مع حصار الميناء وقصفه بعنف إلى تكون قناعة لدى قادة كتيبة آزوف أنه لا نجاة لهم إلا أن اعتصموا في المجمع الضخم الذي يكونه "مصنع آزوفستال للحديد والصلب" مع منشأته المتنوعة، والملاجئ الضخمة التي يضمها (36 ملجأ)، والأنفاق التي تربط أجزاءه ببعضها بعضاً. وتصل المساحة المجمعة لتلك المنشآت إلى قرابة 11 كيلومتراً مربعاً، ما يساوي 20 في المئة من مساحة حي مانهاتين النيويوركي الشهير. كذلك بلغ عدد العاملين في مصنع "آزوفستال"، حينما كان يعمل بكامل طاقته، إلى ما يزيد على 10 آلاف شخص. ومع ملاحظة أن عدد سكان ميناء "ماريوبول" يقارب النصف مليون نسمة، في أوقات السلم، يكون معظم عائلات المدينة لها من يمثلها في ذلك المجمع الصناعي الضخم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

أصداء اسم ستالين المرعب

في منتصف مارس 2022، انتقل مقاتلو تلك الكتيبة إلى المصنع الذي شيد قبل تسعة عقود حينما وقعت روسيا وأوكرانيا والدول المنضوية ضمن ما كان يسمى "الاتحاد السوفياتي" تحت السلطة الديكتاتورية الضارية لجوزيف ستالين. وقد استمد اسم المصنع من اسم ذلك الديكتاتور الشيوعي الرهيب، إذ إن مصطلح "ستال"، هو إشارة إلى ستالين نفسه، فيكون اسم المصنع عملياً هو أنه مصنع ستالين للحديد والصلب.

واستطراداً، يملك مصنع "آوزفستال" تاريخاً من مقاومة الغزاة، إذ احتله النازيون في الحرب العالمية الثانية ثم طردوا منه. وسيطرت عليه قوات موالية لموسكو في 2014، لكن أخرجوا منه بمساعدة عمال المصنع نفسه.

وكذلك سيطر النازيون على منطقة المجمع حين احتلوا المدينة في الحرب العالمية الثانية. وفي عام 2014، حينما استولى انفصاليون مدعومون من روسيا لفترة وجيزة على ميناء "ماريوبول"، ساعد عمال مصنع "آزوفستال" ومصنع محلي آخر في استعادة المدينة.

 

ووفق تقرير "إيكونومست"، فعلى رغم نجاة مولفار من القصف، فإن لجوءه إلى المصنع لم يضمن له نجاة فورية. وبعد أيام، خارت قواه. وبقي جسده ممداً على الأرض أياماً ثقيلة، محدقاً في السماء على أمل أن تأتي مروحية لإخلائه. شحت إمدادات المياه، ثم تناقصت الكهرباء. وعمد المقاومون إلى تشغيل مولدات تعود إلى زمن ستالين، بل أنها ظلت ساكنة طيلة عقود طويلة، كي يحصلوا على فترات وجيزة من الكهرباء تكفي لشحن أجهزة الرادار وأجهزة بنوك الطاقة التي تمد هواتفهم وأجهزتهم اللوحية بالطاقة. وكذلك تناقصت كميات الأدوية. ولم يعد ممكناً إعطاء مولفار المضادات الحيوية سوى مرة يومياً، مع مسكنات كي تساعده على النوم. ومع نفاد المخزونات، لم يعد المخدر موجوداً لإجراء العمليات الجراحية التي صارت تجرى من دونه!

في ظل يأس ثقيل، برز ظل من الأمل حينما جاء دينيس بروكوبينكو، قائد كتيبة "آزوف" إلى مولفار مقترحاً عليه المخاطرة بركوب إحدى الطائرات العمودية الأوكرانية التي تعمل في إخلاء الجرحى، من دون ضمان بعدم تعرضها لنيران القوات الروسية أثناء عبورها فوق الأراضي التي تحتلها تلك القوات. قبل مولفار الاقتراح. ووصف مولفار تلك الرحلة الخطرة بأن "كل ثانية منها كانت تساوي دهراً بأكمله"، إذ لم يكن من ضمان بعدم ضرب المروحية من قبل قوات موسكو. هل افترضت تلك القوات أن مروحيتي إخلاء الجرحى كانتا روسيتان، ولم يدر في خلدها أن الأوكرانيين قد يقدموا على مغامرة كتلك؟ لقد دار هذا السؤال بخلد مولفار طيلة الوقت الثقيل الذي سبق وصوله إلى بر الأمان.

مع استمرار القتال والحصار، تقدمت القوات الروسية ببطء قاتل. تحصن المقاومون في مجمع "آزوفستال" الضخم. دخلت المعركة طور الحسم بشكل دراماتيكي قبيل منتصف نيسان (أبريل) 2022، بعد أن نشر مقاومو كتيبة "آزوف" بياناً على "فيسبوك" يعلنون فيه نفاد ذخيرتهم، واستعدادهم للحظة مواجهة الموت أو الأسر. أحكمت القوات الروسية حصار آخر مواقع المقاومة الأوكرانية في "آزوفستال"، محتجزة قرابة ألفي مقاتل في ذلك المصنع طيلة أسابيع أخرى. لم تكن الملاجئ ملاذاً آمناً، إذ بنيت بشكل متناثر عبر مساحة المجمع الضخم، ولم تعلوها سوى طبقة من الأرض لا تزيد سماكتها على المترين. وكذلك صمم كل ملجأ كي يستوعب نحو 80 شخصاً مع إمدادهم بالماء والطعام لمدة لا تزيد على الأسبوعين. وأثناء الحصار، أضيفت أسرة إضافية كي تزيد الطاقة الاستيعابية للملاجئ التي لجأ إليها مئات المدنيين أيضاً. وفي أحيان كثيرة، اضطر المتحصنون في الملاجئ إلى النوم بالتناوب، إضافة إلى معاناتهم برداً قارساً انبعث من الأرض الشديدة البرودة تحتهم، والنهر المتجمد المياه الذي يعبر مجمع "آزوفستال" الضخم.

وكذلك أورد تقرير "إيكونومست" نفسه، قصة فاليريا كاربلينكو، وهي مقاتلة من كتيبة "آزوف"، وتتضمن مثلاً آخر على صمود المقاومة الأوكرانية. أصيبت كاربلينكو أثناء القتال الأول حول مجمع "آزوفستال"، ثم نقلت إلى مستشفى ميداني داخله، ووضعت في ملجأ تحت الأرض. لم يحل ذلك دون أصابتها بارتجاج في الدماغ إثر إغارة طائرات روسية على ذلك الملجأ. ووصفت الوضع في ذلك الملجأ الاستشفائي بأنه "جحيم". وحتى بعد نجاتها، لا تزال رائحة الدم والغرغرينا النتنة عالقة في أنفها، فيما لا تبارح أذنها صرخات اليائسين.

زواج وخواتم قصدير ومأساة دامية

في الخامس من مايو (أيار) 2022 تزوجت كاربلينكو من أحد مقاتلي كتيبة "آزوف"، أثناء انخراطهما في مقاومة القوات الروسية، إذ تقدم أندري لخطبتها أثناء حصارهما في مجمع "آزوفستال"، واستخدما خاتمين صنعا من قطع القصدير في إتمام خطبتهما. وقد اختارا ذلك اليوم لأنه يتزامن مع الذكرى الثامنة لتشكيل كتيبة "آزوف". والتقطا صوراً لهما أثناء عقد قرانهما في أحد أنفاق مجمع "آزوفستال". وأرسلا الصور عبر الإنترنت إلى أسرتيهما. بعد أيام قليلة من عقد القران، لقي أندري حتفه أثناء غارة روسية على "آزوفستال".

على الإنترنت أيضاً، نشرت كتيبة "آزوف" صوراً للمعاناة المريعة والمرعبة التي يعيشها المدنيون المحاصرون في ذلك المجمع. جرت مفاوضات مكثفة تحت رعاية الأمم المتحدة، بين أوكرانيا وروسيا في شأن إخراج المحاصرين في "آزوفستال"، وذلك بعد أن عززت أوكرانيا موقفها باستعادتها السيطرة على خاركيف، وفق "إيكونومست".

بعد ما يزيد على ثمانين يوماً، في التاسع من مايو، جرى التوصل إلى اتفاق في شأن إنهاء حصار مجمع "آزوفستال". في إحدى مراحل التفاوض، التقى دينيس بروكوبينكو، قائد كتيبة "آزوف"، مع قادة من القوات الروسية المحاصرة لذلك المجمع، على رغم الخطورة التي تضمنتها تلك الخطوة عليه كشخص سعى الروس علانية إلى التخلص منه.

مع دخول الاتفاق مرحلة التنفيذ، دخلت قوات روسية إلى مجمع "آزوفستال"، فيما أخلي 250 مقاتلاً من كتيبة "آزوف" إلى مستشفيات العدو أو معسكرات الاعتقال. وبعد ثلاثة أيام، خرج ما يزيد على 1700 مقاتل من كتيبة "آزوف" من المصنع، ونقلوا أيضاً إلى سجون ومعسكرات اعتقال في روسيا.

في يونيو (حزيران) 2022، جرى تبادل للأسرى بين أوكرانيا وروسيا، تضمن إطلاق 144 مقاتلاً من كتيبة "آزوف". أفاد بعض أولئك العائدين إلى الحرية بأن سجانيهم الروس استنطقوهم مراراً في شأن علاقتهم مع القائد دينيس بروكوبينكو، ومدى قناعتهم بالقتال ضد القوات الروسية في "ماريوبول". وأشار البعض إلى أنهم حرموا من الطعام في السجن، بل أجبر بعضهم على تقديم خواتم زواجهم كرشى لسجانيهم.

كذلك أصدرت السلطات القضائية في روسيا حكماً بالإعدام على دينيس بروكوبينكو. لم ينفذ ذلك الحكم. وأطلق سرح بروكوبينكو ضمن صفقة أخرى لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، شملت 215 مقاتلاً من كتيبة "آزوف"، بينهم ذلك القائد، مقابل إخراج فيكتور ميدفيدشوك، رجل الأعمال الأوكراني الوثيق الصلة ببوتين، من السجن. وبموجب ذلك الاتفاق عينه، نقل بروكوبينكو إلى تركيا شرط أن يقيم فيها حتى نهاية الحرب.

في المقابل، تعمل روسيا بدأب على تصوير كتيبة "آزوف" بوصفها كتيبة يمينية متطرفة، وترسم مقاتليها كمجرمي حرب. وعلى الضفة الأخرى من تلك القضية، يرتسم أولئك المقاتلون بوصفهم أبطالاً للمقاومة الأوكرانية الأسطورية في مجمع "آزوفستال".

المزيد من تقارير