Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل حلت أوروبا المعضلة في "ثورة الجماهير" للفيلسوف إي غاسيه؟

حين خلقت المجتمعات الحديثة ذلك الإنسان الذي طالب بحقه في ألا يكون على حق

نشرت أعمال خوسيه أورتيغا إي غاسيه في 10 أجزاء ترجمت للألمانية والفرنسية   (موقع الأدب الإسباني)

قد يختلف الفيلسوفان المتجايلان تقريباً الإسباني أورتيغا إي غاسيه والروسي برديائيف في أمور كثيرة يبدو خلافهما في بعضها جذرياً، لكنهما يتوافقان على الأقل في مسائل قليلة لعل أهمها ما ميزهما بين فلاسفة القرن العشرين، وهو حذرهما المشترك تجاه ما يسميانه بقدر لا بأس به من الاحتقار "الجماهير"، بل لعل بإمكاننا أن نتحدث هنا عما هو أفدح من الاحتقار. ولئن كنا سنعود بعد حين في كتابة خاصة به إلى موقف برديائيف من تلك الجماهير وحراكاتها، وربما "ثورتها" أيضاً، فإننا نتوقف هنا عند موقف أورتيغا إي غاسيه بخاصة كما عبر عنه في واحد من كتبه الرئيسة، بل ربما في كتابه الأوسع شهرة، "ثورة الجماهير"، الذي يتزايد منذ صدوره على شكل مقالات متتابعة في صحيفة "إل صول" الإسبانية عام 1929، ثم في كتاب مستقل العام التالي له.

عدد المقتنعين بصوابية الأفكار التي يحملها حتى وإن كان قد رجم أول الأمر واتهم صاحبه بالرجعية والنخبوية، وكانت هذه الأخيرة تهمة مدمرة لصاحبها في تلك السنوات. والحقيقة أننا إذا شئنا الدقة لا بد لنا من أن نحدد أن موضوع الكتاب لم يكن تماماً ثورة الجماهير، بل ظهور ما يطلق عليه الفيلسوف اسم "الرجل – الجمهور" من دون أن يعني ذلك طبعاً أن كلمة رجل تستعمل بمعنى ذكر، بل بمعنى الإنسان الفرد.

من الكتاب المتفجر

ولعل في مقدورنا هنا أن ننطلق في الكلام عن هذا الكتاب المتفجر من مقطع صغير يورده أورتيغا إي غاسيه في الفصل الثامن من الكتاب، حيث يخبرنا أن "الأنماط الفاشية والنقابية قد تميزت عند مستهل ظهورها بذلك النمط من البشر الذين لا يهتمون بأن يقولوا ما هو معقول وتسنده المحاجات، أو حتى بأن يكونوا على حق، بل يهتمون فقط بأن يفرضوا آراءهم فرضاً. وكان ذلك هو الجديد في أمرهم: حقهم في ألا يكونوا على حق، حقهم في ألا يكون كلامهم منطقياً (منطق اللامنطق)".

 

 

ويقيناً، إن أهمية هذا الكلام الذي يعول عليه الكاتب كثيراً، تتأتى من العنوان الذي جعله للفصل، "لماذا تتدخل الجماهير في كل شيء ولماذا تراها تتدخل على الدوام بشكل عنيف؟". ومن الواضح هنا أن هذه العبارات تكاد تقول كل شيء سواء قرأناها كتساؤل أو كتأكيد من قبل الكاتب. ولنعد هنا بعض الشيء للوراء قبل أن نستأنف التوقف عند هذه الفكرة. ففي كتاب سابق له هو "إسبانيا المهتزة" كان أورتيغا إي غاسيه أوضح أن المشكلة الأساسية في وضعية بلده الإسباني هذا إنما تكمن في افتقاره إلى أرستقراطجية كبيرة تكون على وعي برسالتها التاريخية، وها هو هنا بالتالي يطبق نفس هذه النظرة على أوروبا المعاصرة (أوروبا الربع الثاني من القرن العشرين)، حيث بدأ يظهر في تلك المجتمعات الأكثر تسيساً في العالم، وتبدو مستوعبة إلى أقصى حد لفضائل النزعة الليبرالية وأقصى درجات التسامح، نمط جديد كل الجدة من البشر، "الرجل – الجمهور". وهو رجل يقول عنه الكاتب إنه يتمتع بالأمان المخادع الذي يضمنه له الإرث، ويستغل مزايا ثقافة لم تكن له يد في إبداعها، بل لا يمكنه حتى تفهمها. ولا يريد أن يفهم سوى أن له حقوقاً، دون أن تكون عليه في مقابلها أي واجبات. إن هذا "الرجل – الجمهور" لا يمكنه أن يفهم على الإطلاق أن الحفاظ على ما حبته إياه الأجيال السابقة عليه وأن ضروب الجمال المنتشرة في الكون إنما تتطلب جهوداً جبارة ومتواصلة. كل ما يفهمه هو أن يترك نفسه يحيا على سجيته.

فوق الطبقات وخارجها

بيد أن الأسوأ من ذلك كله، في منظور الفيلسوف الإسباني هو أن هذا "الرجل – الجمهور" لا يمكنه أن يتماهى أي تماه مع أي طبقة اجتماعية ذات خصوصية من الطبقات. وهكذا بينما نعرف أن كل مجتمع إنما يحدد بالفعل المتبادل بين جمهور عريض وأقلية طالعة أصلاً من قلب هذا الجمهور فلا تكون منفصلة عنه انفصالاً حقيقياً وواضحاً، بل تشكل بمعنى من المعاني نواته المحركة والموجهة. وكل مجتمع إنما يتطلب تضحيات تبذل في سبيل مهمة جماعية يكون من وظيفة النخبة تحديداً أن تفرضها على الجمهور العريض.

لا تبدو الأمور اليوم على هذه الشاكلة في المجتمعات الأوروبية، حيث لا بد من التساؤل عما إذا كانت هذه المجتمعات على وجه الخصوص لا تزال قادرة على ابتكار أي مشروع ضخم من شأنه أن يسحب "الرجل – الجمهور" من سعادته الوهمية؟ والجواب الذي يؤكد أورتيغا إي غاسيه أنه لا يملك سواه هو، أبدا! أبداً اللهم إلا إذا توصلت أوروبا إلى وضع تتجمع فيه كل شعوبها في أمة كبيرة تضم بلدان القارة جميعها. أمة يمكنها عندئذ، وعندئذ فقط، أن تعيد إلى مجتمعاتها قوتها وحيويتها بمعزل عن ذلك "الرجل – الجمهور" الذي يكاد يدمرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مشروع بعيد المنال

غير أن بصيص التفاؤل هذا الذي وجد صاحب "ثورة الجماهير" نفسه يختم عليه كتابه، إنما ظهر لديه وعلى شكل مشروع بعيد المنال طبعاً، فلا ننسى هنا أنه كتب هذا الكلام عند نهاية سنوات الـ30 من القرن الـ20 حين كانت النازية تصعد أولى درجات السلم الذي سيوصلها إلى المذابح والحروب والكوارث، فيما كانت محاكم ستالين وضروب قمعه بدأت تلوح في الأفق، بينما كشف الانهيار الاقتصادي الكبير ليس فقط عن هشاشة الحلم الأميركي الذي كان يتنطح مقدماً نفسه بديلاً للفاشيات يمينية كانت أم يسارية، كما أن المنظومة الرأسمالية نفسها باتت على حافة الهاوية. مع هذا، على رغم أن قرابة قرن بات يفصلنا عن ذلك التحليل الذي صاغه أورتيغا أي غاسيه لأحوال العالم في زمنه موجهاً الاتهام في ذلك كله إلى ظهور "الرجل – الجمهور" واجداً حلاً ما في وحدة أوروبية كان يتمناها، هل يمكننا اليوم أن نتكهن بما كان سيكون من شأن هذا الكاتب أن يقوله، لو رجع إلى عالمنا ووجد أن فكرة "الرجل – الجمهور" باتت السائدة على رغم اختفاء الفاشية والستالينية، وعلى رغم أن الرأسمالية قد تعلمت كيف تضبط نفسها بشكل أو بآخر. وبخاصة ذلك "الرجل – الجمهور"، وقد أضحى معيارياً، وهذه المرة بفضل المطرقة التلفزيونية ومطارق وسائط الإعلام والإنترنت التي تخبط نافوخ إنسان هذا العصر في كل ساعة ويوم مؤكدة له أنه هو الوحيد الذي على حق والوحيد الذي يحق لا ألا يكون على حق. والأدهى من ذلك أن هذا الكون الذي لن يروق لأورتيغا إي غاسيه بأي حال من الأحوال يبدو اليوم خالياً تماماً من تلك القيم الكبرى التي بدأت تغيب وبشكل محزن منذ بداية الألفية الجديدة، وتحديداً مع غياب رجال من أمثال هذا الفيلسوف الإسباني الكبير ليحل محلهم ثرثارو الفكر في برامج الحكي ومفكرو ربع الساعة اليومية الذين تحدث عنهم يوماً آندي وارهول.

حياة تنقلات طويلة

عاش خوسيه أورتيغا إي غاسيه المولود في مدريد عام 1883 حتى عام 1955، وكرس للفكر والكتابة طوال سنوات شبابه وحتى نهايته، وهو المتحدر من عائلة كتاب وسياسيين. وهو بعد أن درس الفلسفة في برلين ولايبزيغ بألمانيا عاد ليدرس الفلسفة والميتافيزيقا في جامعة مدريد طوال ربع قرن بين 1910 و1926. وحين اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية آثر أن ينتقل إلى الخارج، حيث عاش متنقلاً بين فرنسا وهولندا والأرجنتين والبرتغال. أما خلال السنوات الـ10 التي تلت ذلك فقد أمضاها بين مدريد ولشبونة مع إطلالات على فرنسا وألمانيا وزيارة إلى الولايات المتحدة. وعلى رغم تنقلاته المتواصلة فإنه لم يخلد طبعاً لا إلى التدريس وحده ولا إلى الكسل خلال كل تلك المراحل، حيث لم يتوقف عن كتابة الدراسات وحتى المقالات الصحافية التي راح ينشرها في مجلات كان يؤسسها أحياناً، أو يدعمها في أحيان أخرى ثم يجمعها في كتب كان أولها كتاب لا يزال مرجعياً حتى اليوم بعنوان "تأملات دون كيشوت" (1914) ليكون آخرها "ملاحظات حول ملكة التفكير" و"أفكار ومعتقدات". ولقد نشرت أعماله الكاملة في 10 أجزاء ترجمت جميعها إلى الألمانية ومعظمها إلى الفرنسية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة