لم يرسم الفنان الإسباني الكريتي الأصل دومينيكوس ثيوتوكوبولوس مدينة توليدو (طليطلة الأندلسية)، في لوحات كثيرة، لكنها كانت المدينة الوحيدة تقريباً التي كرس لها بعض فنه، في زمن لم تكن المشاهد الحقيقية المنتزعة من الطبيعة قد أضحت جزءاً من نشاط الفنانين. تلك المشاهد كانت تكمن في خلفية اللوحات في أفضل الأحوال، "تزين" أو تموضع أحداثاً وبورتريهات غالباً ما تكون دينية. ومن هنا حتى نقول إن ذلك الفنان الذي ولد وعاش أوروبياً بامتياز على الرغم من نسبته اليونانية التي تبدو شديدة الخصوصية، وارتباطه الإسباني الذي رافقه طوال حياته فإنه عرف ولا يزال باللقب الذي ارتبط به منذ غادر مسقط رأسه جزيرة كريت اليونانية: إلغريكو، أي الإغريقي، أنه كان مبتكر هذا النوع الفني، خطوات قد يمكن أن نقطعها ولو من خلال تأملنا رسمه تلك المدينة الإسبانية التي عاش وارتبط بها بقية حياته.
انزياحات عن الواقع
رسم إلغريكو إذاً مدينة توليدو في خلفية لوحات عديدة له يمثل معظمها مشاهد دينية أو تاريخية وبعضها مجرد بورتريهات، ومع ذلك تبقى تحفته المعنونة "منظر توليدو" ليست فقط واحدة من أعظم ما رُسمت به هذه المدينة، بل واحدة من أجمل وأقوى لوحات إلغريكو نفسه. ومع ذلك لا بد من القول إن اللوحة، على الرغم من كل واقعيتها، فإنها لا تصور المدينة كما يمكن أن يصورها أي فنان آخر، أو حتى كما صُورت أية مدينة أخرى. ليس فقط من ناحية المنظور المبتعد عن المدينة في مشهد ليلي أخاذ، وليس من ناحية الحرية التي أعطاها الفنان لنفسه في مجال إزاحة بعض الأماكن والعلامات من مكانها الحقيقي بعض الشيء وأحياناً إزاحة كبيرة، ولكن بخاصة في مجال التصرف في الألوان، وهو الذي كان سيداً من سادة التلوين في زمنه. في اختصار كان من الواضح هنا في هذه اللوحة التي يعود إنجازها إلى العامين 1597 – 1599، ويبلغ عرضها أكثر من 121 سم، مقابل ارتفاع يزيد قليلا على 108 سم وتوجد اليوم معلقة في متحف المتروبوليتان النيويوركي، من الواضح أن إلغريكو لم يرسم مدينة، بل رسم مدينته. رسم ذاته من خلال المدينة مطوعاً طوبوغرافية هذه الأخيرة وألوانها وخطوطها للتعبير عن حالة روحية من البديهي القول إنه كان يمرّ بها. هذا التعبير الجواني كان بدوره جديداً على الفن التشكيلي في ذلك الزمن النهضوي المتأخر بعض الشيء. والحقيقة أن كل ما في هذه اللوحة لا يبدو جديداً جريئاً وحسب، بل يبدو شديد الحداثة أيضاً حتى بالنسبة إلى القرن العشرين الذي نعرف على أية حال أن بداياته استكملت العمل الذي قام به القرن السابق عليه من حيث إيقاظ إلغريكو من النسيان الذي كان غرق فيه طوال قرون تلت موته.
إدانات من محاكم التفتيش
ولكن ذلك النسيان لم يكن صدفة، بل كان المكان الذي رمته فيه محاكم التفتيش الإسبانية ممثلة بواحد من قضاتها أراد لنفسه أن يكون ناقداً فنياً ومؤرخاً فزار محترف إلغريكو وهو على وشك إنجاز تاريخ للفنانين الإسبان وحكم عليه بأنه مهرطق وصاحب بدع وليس فناناً حقيقياً، ما أثر في مكانة الفنان وسمعته على الرغم من أنه كان قد أنفق كل طاقته وسنوات كثيرة من حياته على رسم مشاهد دينية رائعة. لكن ذلك الناقد، وكما حال معظم الرقباء في كل زمان ومكان، إذ لم يفهم لا فن إلغريكو ولا تجديداته، حكم على ذلك الفن وأدان تلك التجديدات بالسياق نفسه الذي أدان به النظارات التي رسمها إلغريكو على عيني الكاردينال دي غويفارا أحد أقطاب محاكم التفتيش، وتلك الغرابة التي تهيمن على واحدة أخرى من روائع أعمال إلغريكو، "دفن كونت أورغاز" (1586 – 1588) التي حاكاها بيكاسو في لوحة كبرى له في بدايات القرن العشرين. مهما يكن فإن تلك الأعمال الكبيرة التي يطل منها الدين بل حتى الإيمان بقوة، لم تشفع للفنان الذي لا بد من الإشارة هنا إلى أن أصوله الأورثوذكسية لم تشفع له كذلك في عالم كاثوليكي كان يخوض صراعاته الكبرى ضد الإصلاحيين بل ضد كل "الآخرين". ونعرف أن إلغريكو بقي "آخر" على الرغم من كل انخراطاته في العوالم الكاثوليكية. وهذا الواقع الأخير سوف يذكّر به المعرض الاستعادي الأخير الذي أقيم في باريس قبل عام من الآن، بعد غياب الفنان عن المعارض الكبرى الباريسية أكثر من قرن بطوله، بل سوف يذكره بكل صراحة مسؤول ذلك المعرض غيّوم كينتز في معرض شرحه مبررات إقامة المعرض، واضعاً في مقدمتها انتماء إلغريكو قبل مئات السنين إلى حركة الهجرة التي تبدو اليوم مشتعلة كما السجالات من حولها في أوروبا ولا سيما في فرنسا!
هوس بيكاسو
وربما هنا تكمن واحدة من "نقائص" إلغريكو الأساسية و"نقاط ضعفه"، بيد أن هذه حكاية يمكن تجنبها هنا لاستعادة الحديث عن ذلك البعد الذاتي الإبداعي الذي لا يمكن إلا أن يطل إلغريكو به علينا، ولا سيما من خلال هذه اللوحة التي نحن في صددها هنا: "منظر توليدو" التي قد تكون واحدة من أكثر اللوحات المعبرة عن ذات الفنان، جوّانياً بالتحديد، بالانطلاق من الدمج الجريء بين الذات والشكل والمضمون في بوتقة واحدة. وربما يكون الفنان بيكاسو واحداً من أوائل الذين أدركوا هذا الواقع في الأزمنة الحديثة، وهو الذي كتب واحد من رفاق سنواته الأولى كيف أنه والفنان كانا خلال كل زيارة يقومان بها إلى مدريد يوم كانت اللوحة معروضة هناك، يتعمدان زيارة مكان عرضها والجلوس ساعات وساعات صامتين يتأملانها من دون كلمة أو تعليق، بحيث يقول رفيق بيكاسو هذا إنه واثق من أن تلك اللوحة كانت، إلى جانب "دفن الكونت أورغاز" التي كان يتأملها بالطريقة نفسها، كانت المدرسة الحقيقية التي تعلم بيكاسو فنه كله من خلال دراستها بشكل يبدو أقرب إلى الجنون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الذاتية إلى أبعد حد
والحقيقة أن أية دراسة تفصيلية لهذه اللوحة، لا ريب أنها ستفسر هوس بيكاسو بها، بدءاً من البيئة المناخية التي ترتبط بجوانية الروح التي كانت تهيمن على الفنان وهو يبتعد عن المدينة كل تلك المسافة "كي يقترب منها أكثر"، بل "كي يتوغل فيها أكثر"، وصولاً إلى جرأة تلوينية لم يكن ثمة إمكانية من دونها لشعور الرسام بأنه عرف أخيراً كيف يقطع بنفسه "حبل السرة الذي كان يربطه بأستاذه الكبير تيسيانو"، وهو الذي كان يحتاج إلى ذلك القطع كي يحوز على مكانته الفنية الخاصة بعدما كان يبدو طوال مساره الفني ظلاً لذلك الأستاذ الكبير. ويمكننا بدءاً من المسافة التي تفصل الفنان عن المدينة لتعيده إليها وصولاً إلى البعد التلويني، أن نتوقف هنا، كما يفعل معظم دارسي هذه اللوحة ولا سيما المختصون منهم بفن إلغريكو، عند العناصر "الأسلوبية" الثلاثة التي ترسم "ذاتية" هذه اللوحة، وحداثتها المبكرة إلى حد مدهش، وهي على التوالي، تلك السماء العاصفة عصفاً من الصعب الاكتفاء بالقول إنه يرتبط بتقلبات الطبيعة، بقدر ما يرتبط بما يعتمل في جوّانية إلغريكو؛ ثم الطوبوغرافية التي عبر عنها الفنان منطلقاً من تلك المسافة التي رأى منها مدينته محيطاً بها من جانب منها يجعله قادراً على مشاهدتها في "لقطة عامة" تظهر القصر الكبير والكاتدرائية ببرج جرسها المنزاح عنها بعض الشيء ناحية اليمين؛ وأخيراً ذلك المنظور الذي تمكن عبره الفنان من أن يجعل الجسر القائم على النهر، الذي لا شك أنه أزاحه بعض الشيء عن مكانه، كما فعل بالجسر نفسه، بداية الخيط الذي يقود نظرة المتفرج على اللوحة، صعوداً وإلى اليمين نحو إجمالية المشهد. صحيح أنها عناصر تشارك فيها إلغريكو مع عدد من فنانين كبار ينتمون مثله إلى زمن النهضة، غير أن أياً من رفاقه هؤلاء لم يجعل للبعد الذاتي الجوّاني تلك المكانة المهيمنة في عمل ذلك الكريتي.... الغريب.