Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب أهلية بين الفرنسيين والعرب يتخيلها فيلم "أتينا"

رومان غافراس يدخل عالم الضواحي الباريسية و"نتفليكس"  انتجت بميزانية 35 مليون

مشهد من فيلم "أتينا" الذي يعرضه نتفليكس بعد مهرجان البندقية (ملف الفيلم) 

ما يعرف بـ"سينما الضواحي" في فرنسا يسجل عودة صاخبة مع "أتينا" للمخرج الفرنسي رومان غافراس (41 سنة) في ثالث مرور له خلف الكاميرا لصناعة فيلم روائي طويل "أتينا"، هذا العمل الذي أنتجته "نتفليكس" بميزانية 35 مليون يورو، كان قد شارك في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي ونال إعجاب عدد غير قليل من النقاد، لكن المعطيات اختلفت جذرياً منذ الجمعة الماضي، تاريخ نزوله إلى منصة العرض التدفقي ومعاينة الفرنسيين له.

فآراء كثيرة جاءت سلبية لا تصب في مصلحة الفيلم ليظهر الفرق بين استقباله في "الموسترا" وفي وطنه الأم، الجهة المعنية به وبالأحداث التي يصورها. أحدث الفيلم الذي يقول كلاماً خطراً عن حرب أهلية محتملة بين العرب والفرنسيين ضجة وجدلاً في فرنسا وأعاد فتح باب النقاش حول الجالية العربية فيها، مما دفع بالناقد في مجلة "بروميير" أن يكتب في مقاله "هذا فيلم فوضوي وملتبس على صورة البلد الذي يقف على حافة الهاوية". أما صحيفة "لومانيتيه" اليسارية فقالت إن "غافراس يمنح الحالمين بالحرب الأهلية الصور التي يحلمون بها". آخرون اعتبروا أن غافراس يصور بيئة لا يعرف شيئاً عنها هو الذي يعيش حياة بورجوازية. 

الاستفزاز ليس هواية جديدة عند رومان غافراس ابن السينمائي الشهير كوستا غافراس. نظرة خاطفة على سجله الفني تكفي، فهو مخرج عديد من الكليبات التي تكشف حساً بصرياً فريداً ومنها كليب فرقة جوستيس، حيث صور مجموعة من شباب الضواحي من أبناء المهاجرين ينزلون إلى باريس ويثيرون فيها الرعب والفوضى ويتحشرون بالناس، ونلتقط في عيونهم الكره والفراغ. جاء الفيديو تحت عنوان "ستريس"، وما "أتينا" سوى امتداد سينمائي له. أما في باكورته الروائية الطويلة "سيأتي يومنا" (2010)، فصور شخصين هما ضحية التمييز الاجتماعي ليتحول الفيلم إلى نقد اجتماعي وتعليق سياسي لاذع يقفز خلالهما المخرج من التمييز الذي يتعرض له الصهب (أصحاب الشعر الأحمر) إلى كل أشكال التمييز، من دون أن يوفر أي ممن يلتقيهم على طريقه: من المهاجر العربي مصدر الازدراء إلى اليهودي المحاط بخطوط حمر إلى المثلي غير المرغوب به، وصولاً إلى فرنسا بأكملها التي يجعل منها غافراس سجناً كبيراً.

سيرة الضواحي

في "أتينا" يتعاون غافراس مع لادج لي في كتابة السيناريو. لي الذي ذاع صيته أخيراً بعد أن قدم "البؤساء" في مهرجان كان، وهو الفيلم الذي جذب الانتباه بكونه يتحدث عن الضواحي الفرنسية التي لطالما كانت مادة للتجاذب السياسي. إنها الضواحي التي يلفها العنف والإهمال والتشدد الديني، حيث المهاجرون الأفارقة والعرب يعيشون في نوع من غيتوات، ولا يترددون أحياناً في فرض قوانينهم الخاصة في خروج صريح عن مظلة الدولة. والدولة بجميع أجهزتها تغض النظر جزئياً أو بشكل كامل عما يحدث في هذه البيئات التي تصبح أرضاً خصبة للعنف والجهل والتخلف. هذه الضواحي الأشبه بالقنابل الموقوتة، حظيت بمعالجات سينمائية عدة وشقت طريقها إلى الشاشة في فيلم "الكراهية" (1995) لماتيو كاسوفيتس الذي أصبح المرجع الأهم في هذا المجال، ويمكن القول إن "أفلام الضواحي" تحولت إلى نوع سينمائي قائم في ذاته، وهو دائماً يثير الجدل بين الفرنسيين، سواء بين النقاد أو التيارات السياسية من يمين ويسار. 

في "أتينا" كل شيء يبدأ مع مقطع مصور ينتشر على وسائط التواصل يظهر قتل شاب من أصل جزائري يدعى إيدير خلال مداهمة للشرطة الفرنسية. بناءً على هذه الحادثة الأليمة يتم استدعاء شقيقه الأكبر عبدالله (دالي بن صالح) العسكري من الجبهة في مالي لتهدئة الأجواء. فمدينة أتينا الشعبية (مدينة متخيلة، لكن الأحداث التي تجري فيها تستلهم الواقع) التي تعج بالمهاجرين من أصول عربية تغلي غلياناً وعلى وشك أن تشهد انتفاضة. وفعلاً، تتصاعد وتيرة العنف بسرعة وتفلت الأمور من يد الجميع، خصوصاً بعد أن يقدم كريم (سامي سليمان)، الأخ الأصغر للشاب المغدور، مع شلة من شباب الحي، على اقتحام مركز للشرطة وسرقة الأسلحة، وتشكيل مجموعة تطالب باحضار المجرمين والاقتصاص منهم. المدينة بأكملها، والتي يحولها الفيلم مسرحاً لتراجيديا إغريقية تأخد من الأخوة عنواناً لها، تغرق في العنف والفوضى والخراب، على رغم تدخل عبدالله، الضائع بين واجبه كابن دولة وبين مطالب عائلته التي لا تزال تحت هول الصدمة. ترى من يختار؟ وهل الخيار ممكن بين العائلة والدولة؟ معضلة يحاول خلالها الشاب الهادئ والحكيم، أن يمسك العصا من منتصفها، لكن كما يمكن لنا أن نتكهن، فلا نهايات سعيدة في التراجيديات.

المشروع والفراغ

بالتأكيد، هناك ما يزعج في الفيلم، وليس دائماً بالمعنى السينمائي الإيجابي للإزعاج. يتبين بسرعة أن مشروع غافراس السينمائي يدور على فراغ ولا يقدم سوى الإزعاج مادة له. هناك إزعاج يفتعله بعض المخرجين الكبار كي يضعوا المشاهد في حالة من الإرباك، بهدف التأثير فيه ووضعه في "حذاء" الشخصيات، لكن غافراس ليس من هؤلاء. هو يتعامل مع مسألة متشعبة وخطرة بسطحية شديدة، بلا نقاش أو معالجة، بل يحول مسألة العنف هذه في الضواحي إلى استعراض جميل سينمائياً بلقطات طويلة باهرة وإيقاع مشدود، مما يفضي إلى فيلم حركة مصنوع بحرفية عالية، ولكن لن نعرف شيئاً مهماً عن الموضوع المطروح ولا عن خلفياته الاجتماعية وأبعاده السياسية وامتداداته الثقافية. لن نعرف ما الذي يحرك الشخصيات (هذا إذا كان جائزاً تسميتها "شخصيات") التي تتصرف وفق منطق غرائزي خاص بها، ولن ندخل في عقلها الباطني لنفهم ما الذي يبرر سلوكياتها. كل شيء يقدم لنا على نحو يمنح الإحساس بأننا نعرف هؤلاء الناس جيداً ولا حاجة إلى معرفتهم أكثر من ذلك، وهذا عيب في السيناريو لا يمكن صرف النظر عنه. أحد شروط السينما الجيدة هو عمق الشخصيات، لكن غافراس يهمل هذا الجانب ويبقى على سطح الأشياء، مكتفياً بما يقدمه تقنياً كدليل أوحد على صوابية رأيه، وهو رأي ملتبس في النهاية، لا يقدم ولا يؤخر. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المستويات العالية من العنف التي يصل إليها الفيلم في مشاهد المواجهات (وهي جميلة بلا شك) بين الشرطة وأهالي أتينا، ليست سوى عرض عضلات إخراجية، يؤكد المخرج من خلاله، مدى تفوقه في صناعة إبهار، من دون أن يرتقي به إلى مكان آخر، ثم هناك الالتباس على مستوى الخطاب السياسي، إذا كان غافراس يدعو إلى التعاطف مع أبناء المهاجرين، فطريقته هذه غير مجدية، لأنها تحصد عكس ما تزرع. مجانية أفعال من ينتصر لهم وسوء معاملتهم بعضهم لبعض، وعدم قدرتهم على قول جملة مفيدة خالية من الشتائم والكلام النابي، هذا كله يجعلنا نمتنع عن دعم هؤلاء، لا بل نتمنى في بعض الأحيان لو كنا في صفوف رجال الأمن الذين يقفون في مواجهتهم (وهم في الفيلم مساكين لا حول لهم ولا قوة)، موقظاً المستبد الصغير الذي ينام في داخل كل منا، وهذا لا يصب في مصلحة الفيلم، بل يغدو هدية مجانية لأقصى اليمين وحججه.

لو كان الفيلم سيئاً وفاشلاً على مستوى الشكل الفني، لما التفت أحد إلى خطورته السياسية والأيديولوجية، لكنه خطر بسبب أنه جميل (مع التشديد على كلمة "بسبب"). وللجمال سطوة على المشاهد. الجمال يمرر للمشاهد ما لا قدرة للعادية على تمريره. فكرة بيئة تتحول إلى حصن منيع وقلعة يحارب منهما العرب أعداءهم الفرنسيين الذين يعيشون بينهم، وبمساعدة إسلامي متطرف (شخصية سيباستيان)، هي وحدها فكرة تثير شعوراً يتراوح بين السخرية والريبة. بصرف النظر عن براعة غافراس في صناعة سينما تشد الانتباه بأسلوبيتها وإيقاعها، ففيلمه هذا انتفاضة فارغة تكاد تسبب الإحراج له قبل الإساءة لشخصياته وموضوعه. بعمل واحد كهذا، كاد غافراس يخرب ما حاول أن ينجزه فيليب فوكون فيلماً بعد فيلم، طوال مسيرته السينمائية الغنية. فوكون مخرج العرب في فرنسا الذي أبدى في أعماله رغبة في فهمهم وبناء شيء إيجابي وإياهم بعيداً من توظيفهم لدواعي الإثارة والفضيحة. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما