هل وصلت الأوضاع في إيرلندا الشمالية إلى نقطة تمثل لحظة اللاعودة؟ فقد نشرت "وكالة الإحصاء والأبحاث في إيرلندا الشمالية" وبحماسة كبيرة، بعض نتائج ما كشف عنه التعداد السكاني في الإقليم لعام 2021. وللمرة الأولى، أظهر الإحصاء أن نسبة من عرفوا عن أنفسهم بأنهم كاثوليك، أو نشأوا على الدين الكاثوليكي، قد تخطى نسبة أولئك الذين يعلنون أن البروتستانتية تشكل هويتهم الدينية.
بالمقارنة مع نتائج الإحصاء قبل 20 عاماً، فقد ارتفعت نسبة الكاثوليك في الإقليم وفق التعداد الأخير من 43.8 في المئة إلى 45.7 في المئة. في المقابل، تراجع عدد البروتستانت، وهذا يشمل تابعي الكنيسة الأنغليكانية والمشيخية (البريسبيتارية)، بالمقارنة مع التعداد قبل 20 سنة، من نسبة 53.1 في المئة إلى 43.5 في المئة. وكشف التعداد الأخير أيضاً حدوث زيادة طفيفة في عدد غير المسيحيين، وارتفاع نسبة من سجلوا على أنهم لا يدينون بلأي ديانة (وحالياً نسبتهم نحو 10 في المئة)، ما أسهم في رفع نسبة بعض الأرقام وتوازنها في التعداد، إذ يشمل تعريف "الكاثوليك" هذه الأيام، أبناء الجاليات البولندية والليتوانية والسلوفاكية.
في المقابل، ليس كل من يعتبرون أنفسهم كاثوليك بالضرورة قوميين إيرلنديين ملتزمين، وبالطبع ليسوا بالضرورة جمهوريين [دعاة الوحدة مع جمهورية إيرلندا]. وعلى نحو مماثل، ليس كل البروتستانت مؤيدين للوحدويين [استمرار الوحدة مع المملكة المتحدة]، أو موالين للتاج البريطاني. وليس من المستطاع اعتبار تلك القضايا متماثلة. فعموماً، ثمة نسبة أكبر من الناخبين الكاثوليك أو القوميين [الإيرلنديين]، ممن يفضلون عادة البقاء ضمن المملكة المتحدة، بالمقارنة مع نسبة البروتستانت أو الوحدويين ممن يفضلون قيام جزيرة إيرلندية موحدة. فعلى ما يبدو من خلال التعداد، لا تترجم الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية الدينية والهوية الثقافية، بصورة مباشرة على شكل ولاء سياسي، إذ يبدو أن القضية الوحدوية تضعف تدريجاً، على رغم الولاء القوي الذي تثيره في صفوف كثيرين.
مثلاً، في العام الماضي تصدر حزب "شين فين" الإيرلندي الانتخابات النيابية للمرة الأولى (في تاريخ ذلك الإقليم)، على رغم أن النظام السياسي الحزبي في الإقليم مفتت للغاية. وربما دفع "بريكست" وتأثيراته بعدد أكبر من أبناء الطبقة المتوسطة في إيرلندا الشمالية من البروتستانت والكاثوليك من الوحدويين، إلى إعادة النظر بما قد تبدو عليه إيرلندا موحدة وكيف يكون الشعور تجاهها. قد يشعر بعض هؤلاء لأسباب عدة، أن رؤساء الحكومات البريطانية المتتالية (من المحافظين) لم يولوا الوحدة [أي وحدة المملكة المتحدة] وأهل إيرلندا الشمالية أي اهتمام يذكر، مما أدى ربما إلى نفور البعض، وغالباً اتجاه تبني مواقف متشددة للغاية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك أيضاً رؤية مختلفة بدأت في الظهور ولو ببطء عن ماهية إيرلندا الحديثة. فحينما قسمت الجزيرة، وكذلك خلال نصف القرن الذي تلا ذلك التقسيم وبشكل متزايد، كان الجنوب فقيراً أكثر من الشمال، واعتبرت الجمهورية [جمهورية إيرلندا] أنها دولة تحت تأثير، إن لم نقل سيطرة، الكنيسة الكاثوليكية، إذ منحت الكنيسة مرتبة مميزة في دستور إيرلندا، وعملت الإدارات المتتالية التي حكمت تلك البلاد، على تأكيد حق [جمهورية] إيرلندا بالسيادة على الأقاليم الستة في شمال الجزيرة بشكل لطالما أزعج الوحدويين [دعاة الوحدة مع المملكة المتحدة] في إيرلندا الشمالية.
ولقد تغير ذلك الزمن. حالياً جمهورية إيرلندا هي واحدة من أكثر دول الاتحاد الأوروبي ازدهاراً ولم تعد الدولة تعتمد [كما في السابق] على تصدير قوتها العاملة [أي الشعب الإيرلندي]. ولقد انهار موقع الكنيسة الكاثوليكية [المميز] تحت وطأة التغيرات الاجتماعية والفضائح الأخيرة التي ضربت الكنيسة. ومن المدهش إلى حد كبير أيضاً، أن حق الإجهاض قد أصبح متاحاً بشكل أوسع في جمهورية إيرلندا بالمقارنة مع إقليم إيرلندا الشمالية. وكانت عملية السلام أيضاً و"اتفاق الجمعة العظيمة" [وقع في 1998، لإنهاء القتال بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا الشمالية] قد نجحت في إنهاء غالبية العمليات الإرهابية، على رغم أن العصابات [المسلحة] لا تزال موجودة. ولقد كان لزيارة الملكة الراحلة إليزابيث الثانية إلى الجمهورية الإيرلندية عام 2011، أثراً رمزياً في تغيير الأمور، إذ يتصرف السياسيون من حزب "شين فين" الجمهوري في إيرلندا الشمالية بعدوانية أقل مع مواطني الإقليم ممن يعتبرون أنفسهم بريطانيين. وكذلك أظهر قادة "شين فين" كثيراً من اللباقة خلال فترة الحداد على موت إليزابيث الثانية وزيارة الملك تشارلز الثالث إلى الإقليم.
ومهما تكن الأسباب، فإن التحول الديموغرافي والديني قد أثراً في الجانب السياسي في الإقليم. إن عدد من يعتبرون أنهم "بريطانيون فقط" قد تراجع إلى 31.9 في المئة، وهي نسبة أكبر بقليل من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم "إيرلنديون فقط" الذين تبلغ نسبتهم حالياً 29.1 في المئة. وكذلك تبلغ نسبة من يعتبرون أنفسهم "إيرلنديون شماليون فقط" ويحملونها كهوية مغايرة لكل ما سبق، نحو 19.8 في المئة، وهذا يشكل اتجاهاً صعودياً بحد ذاته. وكذلك ثمة أناس باتوا يعتنقون أي هوية من الهويات الثلاث الآنفة الذكر (لكن الجالية البولندية تنظر للأمر بشكل مختلف من جديد)، ما يزيد الأمر تعقيداً. وعلى رغم ذلك، لقد ولى إلى غير رجعة زمن إدارة الإقليم كدولة الحزب الواحد عبر برلمان بروتستانتي يخدم الشعب البروتستانتي. ففي مفارقة تاريخية، شهد النصف الأول من القرن من وجود إقليم إيرلندا الشمالية، سيطرة للوحدويين صعدت إلى الذروة. وانتهت [تلك السيطرة المطلقة] مع أحداث العنف في الإقليم، وحل حكومة إيرلندا الشمالية القديمة عام 1972. منذ ذلك الوقت، وعملية الابتعاد عن الاتحاد [المملكة المتحدة] مستمرة، ضمن نمط بطيء، لكنه بارز للغاية.
وبصورة دائمة، تمثلت أفضل الفرص "لاحتفاظ" بريطانيا بإيرلندا الشمالية في أن يكون ذلك الإقليم ضمن عملية تقاسم للسلطة بناء على "اتفاق الجمعة العظيمة" للسلام في إيرلندا، والذي نجح في تحييد المسألة القومية، بالتالي لا تتناسب عملية بريكست مع ذلك التوجه الذي أرساه السلام. ولذلك فإن مسألة الحدود [بين إقليم إيرلندا الشمالية البريطاني والجمهورية الإيرلندية، وبين الإقليم وأراضي المملكة المتحدة] قد عادت لتتصدر الأحداث بشكل لم يكن أي أحد يرغب فيه على الإطلاق. إنها واحدة من التبعات غير المقصودة التي نتجت عن اتفاق "بريكست".
نشر في "اندبندنت" بتاريخ 23 سبتمبر (أيلول) 2022
© The Independent