بقدر كبير من التصوير والرسم واللغة الشاعرية، ولكن بقدر عال من المأسوية والمعاناة أيضاً، يقدم الروائي خليل النعيمي حكاية "الصبي"، وهو يركب خلف والده على فرس دهماء، يواصلان طريقاً في الصحراء، وقت الفجر، في رحلة نحو المجهول الغامض من محيطات الرمل الغارقة في العتمة، وفجأة يعترض طريقهما "كائن" لا يعرفان كيف "نبغ" لهما (نبغ، المفردة نادرة الاستعمال بمعنى ظهر أو برز)، فلا يدركان ماهيته، إن كان من الإنس أم الجن. هذا في رواية يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل والحلمي. مثلما يتداخل كل شيء في كل شيء.
قبل بدء حوادث روايته الجديدة "زهر القطن" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2022)، يفتتح النعيمي هذه الرواية بمدخل مقتطف من أقوال عالم الطبيعة الشهير تشارلز داروين، من كتابه الشهير "أصل الأنواع"، "بينما ظل هذا الكوكب يدور طبقاً لقوانين الجاذبية، كانت وما زالت تتطور، من مثل تلك البداية البسيطة، صور لا نهائية من الحياة، في غاية الجمال والعجب"، ثم يقترح علينا مدخلين آخرين من تأملاته الخاصة، يكتب في الأول "تاريخ الكائن المتعدد الأبعاد، ما يحكيه لنفسه، وما يحكيه للآخرين، وما يفعله". وفي الثاني "لا علاقة بين اللغة والحقيقة، ولا بين الحقيقة والأشياء، الحقيقة صيغة ذهنية محض". وعند الانتهاء من قراءة الرواية، يكتشف القارئ عمق الترابط والعلاقة بينها من جهة، وبين المقولات الثلاث التي شكلت مداخل للرواية. ويبدو عمق الترابط في انتشار الأفكار التي تحتويها وتغلغلها، إن لم يكن في جسد الرواية، فعلى الأقل في روحها وبعض أسئلتها الكثيرة التي تطرحها.
أساليب وجماليات
السارد الأول والرواة في "زهر القطن"، ومن ورائهم المؤلف بالطبع، يحفزون القارئ، وبأساليب تشويقية متعددة، لمتابعة القراءة، والتعرف على هذا "العالم" الذي يتناوله النعيمي بمبضع جراح روائي بارع، يعرف فن التشريح وتشخيص العلة، فتشخيص موضع الداء عنصر أول وأساسي من العلاج. فهو هنا، كما في أعمال سابقة، روائي أداته اللغة، المفردات والتصوير والشعر، وما تنتجه من "كتابة" موجهة لمعالجة إصابات المجتمع (السوري هنا)، والعالم، بأعلى درجات الدقة والجرأة أيضاً.
نقف على الرواية، لنقرأ أبرز ملامحها، الشخوص والأمكنة والحوادث وأسلوب السرد والتقطيع وسواها. وثمة عامل أساسي سيجذب القارئ منذ البداية، هو استعمالات اللغة، اشتقاقاً وتصريفاً، بدقة وإحكام وشاعرية، كقول "الأب" مثلاً "الحياة البرية تجعل الإنسان حذوراً" (وهو اشتقاق من الحذر)، وكذلك استخدام مفردات بدوية تنتمي إلى بيئة الروائي وشخوصه (البادية)، فهي تمنح الرواية عمقاً وصدقية فنيين وموضوعيين. فمنذ الجملة الأولى، في المشهد الأول من الفصل الأول، نجد "الخيال" على فرسه مردفاً وراءه ابنه الطفل، فيعترض طريقهما رجل "لا يعرف من أين نبغ"، ويجري حوار سريع على هذا النحو: "وين رايحين" يسأل الرجل، فيرد الخيال من على ظهر الدهماء "على الهفا"، جواب ينم على ضيقه من الحال التي هو فيها. فيتقدم الرجل ويمسك رسن الدهماء، يمسح جبهتها براحته.
إنها رواية ابن البادية إذ يعود إلى "مكانه الأول/ مسقط رأسه"، في رحلة تحولاته، ضمن عالم الصحراء. ففي 72 فصلاً، مختلفة الحجم، يقدم الروائي شخصية طفل وسيرته، وسرعان ما تتداخلان وتتقاطعان مع شخصية الأب (الخيال) وسيرته، من خلال لعبة التخييل وعالم الأحلام التي يوظفها الروائي للوصول إلى شخصيات موزعة بين واقعها وخيالاتها وأحلامها وأوهامها، ويتمكن من إقامة حوارات متعددة المستويات، بين الشخصية وذاتها (المونولوغ)، وبين شخصية وشخصية أخرى.
واللافت في هذه الرواية أن ليس بين الشخوص من يحمل اسماً، فالكل بلا أسماء، فهنا ثمة (الصبي/ العجي) وأحياناً "الطفل المفترس" الذي أمضى سنوات طويلة يرضع ثدي أمه، ثم صار، حين يجوع، يلتهم أي شيء في الطبيعة (يطارد الجرابيع والجرذان ويصطادها ويأكلها). وطوال الرواية عرفنا الأب باسم "أبو الصبي"، وزوجته "أم الصبي"، ويصفها زوجها بـ"المرأة التي كانت ببياض زهر القطن". ومن هنا جاء عنوان الرواية، ومن موقع آخر في حقول القطن أيضاً. وثمة "البنت الشعثاء"، وهكذا.
سيرة ومسيرة
يتابع الروائي حياة الشخصية في محطات عدة، منذ البيت الأول الذي هو مجرد خيمة من شعر الماعز، في حال شديدة البؤس (افتقاد خبز القمح والتعويض عنه بالذرة وافتقاد الملح والملابس الرثة)، ثم علاقته بالبنت الشعثاء، علاقة قائمة على معارك "طفولية"، يكبران معاً، لكنه سينفصل عنها، ويستذكرها بشدة، عندما يلحقه والده بما يشبه "الكتاب"، واعداً الشيخ بـ"ماعز حلابة ولادة" حين يختم ابنه ربع القرآن. وفي محطة المدرسة الابتدائية تتعزز صورة الولد المبدع، وفي محطة تالية تضطر العائلة للرحيل إلى الحسكة فتشتعل مشاعر الفراق. فارتباطه بالبادية لا يمكن افتكاكه، فيطلق والده حكمة من حكمه، "المكان هو الذي يستعبدنا وليس الآخرون فقط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعد محطة الرحيل إلى الحسكة والجزيرة السورية في حياة الطفل/ الفتى، أساسية في تكوينه، كما في بنية الرواية. فهنا يتعرف على الحياة السياسية والاقتصادية، ويتعرف على مرحلة من الحريات عاشتها سورية، لكنها مرحلة قصيرة، نرى فيها كيف يتواجه "المتظاهرون تحت السراي: في اليمين البعثيون وشاعرهم حسن (ربما يوسف) الخطيب، وفي اليسار الشيوعيون"، وسليمان العيسى يغني لأمة العرب. هذه المرحلة انقطعت بوصول "البعث" إلى الحكم، وإحكام قبضته على الدولة، خصوصاً أمنياً واقتصادياً، وتهميش الفئات المسحوقة من الشعب. وسنرى في الحسكة الإقطاعيين بسياراتهم الفاخرة كالنجوم. وفي منطقة تدعى "الدرباسية" (وهي في تاريخ ما بين النهرين، درب آسيا) كانت محطة على طريق الحرير. يقدم الفتى امتحان الشهادة الابتدائية، ولأنه غريب يتعرض في قاعة الامتحان لسؤال "من أنت؟ أين هويتك؟"، فيستهجن السؤال، وتنقذه "ورقة من المختار". ونرى بعد ذلك كيف نضبت المياه وجفت الحقول.
إشارة دوستويفسكي
في المرحلة الجامعية الدمشقية بدأ بطل الرواية يتغير، وبدأت "أغلفته البدوية تتشقق"، وعلى رغم أنها دمشق النساء والكتب والقراءة كبديل عن الفعل، و"ليس على المحروم حرج"، فهو ظل يعاني الكبت الجنسي وصعوبة إقامة علاقة مع أنثى، لكن رواية "الإخوة كارمازوف" أحدثت له نقلة معرفية وتحولاً في الموقف الأخلاقي من العالم. وبعد تخرجه في الجامعة، يلتحق بالخدمة الإجبارية في "حوران"، وفي أثناء الخدمة كتب ديوان شعر تعرض فيه لما سماه "ترهات" الحزب وعقائده. فتم استدعاؤه من الاستخبارات العسكرية، في مرحلة كانت دمشق في أثنائها "تغرق في دوامة مخيفة من التسلط الممنهج والقمع البذيء". وبدأت مشكلة مطاردته، فقرر الهرب إلى بيروت (أوائل السبعينيات)، وكانت مرحلة استمتاع من جانب، وقلق وانتظار وشعور بأنه مراقب، من جانب آخر. فيقرر ترك العالم العربي كله. وفي الصفحات الأخيرة من الرواية نراه مرتبكاً وهو يستعد للسفر على ظهر باخرة، ومن مقعده في الباخرة يتساءل "لماذا الإصرار على متابعة الرحيل؟"، لكن السفينة أقلعت و"تعالى صفيرها القاسي يعلن المسير".
أخيراً، وفي سياق حضور الفانتازيا، نقف على واحد من الأحلام - الكوابيس الصحراوية، فالفصل الـ 29 يأتي بلا فواصل ولا نقاط "منذ الفجر المنذر بالعدم"، نعيش مع "الأب" وهو يعيش كابوس ابتلاع الرمال لزوجته، ونشعر بالمأساة التي يعيشها موزعاً بين رغبته في إنقاذها، وسعيه إلى ذلك، وبين هاجس كونه هو من دفعها إلى هذا المصير. فالمشهد فانتازي مرسوم بتصوير بطيء ودقيق، حتى إن القارئ يعيشه برعب. ولأن المشهد جاء، في الرواية، بعد مشهد خيانة الرجل لزوجته، وبعد حوار تبريري من جهة الرجل، وتشكيكي من قبل المرأة، بعبارات التلميح، ولكنها لا تفصح، فربما كان نتيجة طبيعية ومنطقية لهذا الحوار، كما سبقه مشهد لقاء جنسي من مشاهد عدة يعيشها الزوجان، مشاهد حميمة لا تخدش مناخات الرواية، بل تخدم ثنائية ذكر/ أنثى على نحو ما.
وتجدر الإشارة، في الختام أيضاً، إلى براعة هائلة في الوصف الخارجي للشخصية، الوجه والجسد، وكذلك إلى البراعة في التشريح النفسي والعاطفي والوجداني. ووصف التوترات والاضطرابات ومشاعر القلق، فضلاً عن براعة في وصف المكان والطبيعة والمناخات السائدة في المحيط.