Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد برادة يخوض جبهات النقد الادبي الطليعي منذ 60 عاما

الناقد الذي رسخ المرجعيات وأصول الخطاب وجذّر الحداثة في أعماله النقدية

الناقد المغربي محمد برادة (اندبندنت عربية)

يقوم الباحث والناقد المغربي إدريس الخضراوي، في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "الكتابة النقدية عند محمد برادة، المرجعية والخطاب" (أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2020)، باستكشاف عمل الناقد المغربي الأبرز والأشهر في المشهد النقدي العربي، والبحث في جذور تطوره، وأرضيته السياسية – الاجتماعية، والشواغل الفكرية والنظرية التي هيمنت على خطابه النقدي طوال ستين عاماً ماضية. ويستعرض الباحث كتابات برادة النقدية، وترجماته، ونشاطه السجالي، وعمله كمنشط أدبي ونقدي وثقافي في ندوات أساسية أثارت كثيراً من الأسئلة النقدية والنظرية في حينها، وأثرت في توجيه الوعي النقدي في المغرب والعالم العربي، وعلى رأس تلك الندوات ندوة "الرواية العربية واقع وآفاق" التي عقدت في الرباط وصدرت أعمالها في بيروت (1979). فبرادة، مثله مثل رولان بارت، بحسب الخضراوي، "ليس مجرد ناقد، وإنما شخصية أدبية. فقد قدمت آراؤه حول القضايا الثقافية لمعاصريه اتجاهاً ثقافياً وجمالياً. فهو رجل المواهب المتعددة، الكاتب والمثقف والناقد ورجل المناظرات. فهو يعد من الوجوه الأساسية التي طبعت الحقل الثقافي المغربي والعربي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، وما زال يؤثر بقوة في المشهد الأدبي في اللحظة المعاصرة."

جيل الستينيات

ربما يكون برادة (مواليد 1938) واحداً من قلة من النقاد العرب، ممن ينتمون أدبياً ونقدياً إلى جيل الستينيات من القرن الماضي، الذين كانت هواجس التحرر الوطني من الاستعمار والتبعية شاغلهم الأساسي المهيمن، الذي أملى عليهم خياراتهم النقدية والثقافية، ووجه تحولاتهم النقدية، وانعطافاتهم المنهجية والنظرية. فهو من جيل التحرر الوطني في المغرب والعالم العربي، الذي شهد خروج الاستعمار، ودخول العرب في موجة من الصراع مع مآزق التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للغرب. وقد كان الجيل الذي ينتمي إليه برادة معنياً بالنضال من أجل التحرر الوطني من آثار الاستعمار وجروحه الغائرة والتبعية، التي ما أن رحل آخر جندي من جنود الاستعمار، حتى أطلت برأسها. وكأن الاستعمار ما رحل، إذ ترك وراءه ممثليه من رجال السياسة والتعليم في العالم العربي. وهكذا كان على برادة وأمثاله من النخب الثقافية العربية، أن يحاربوا على جبهات متعددة، السياسة والمجتمع والتعليم والثقافة، ويواجهوا ميراث التقليد والماضوية الأدبية الثقافية والفكرية، والرجعية السياسية، وكذلك ممثلي التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، الذين يرون في الغرب الذي كان لسنوات قليلة مضت المستعمر الذي تحالفت قوى مختلفة رجعية وتقدمية للتخلص من جيوشه، التي تحتل مساحات شاسعة من العالم العربي، الجهةَ - المثالَ التي علينا أن نتحالفَ معها ونقلدها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد كانت المعركة التي فرضت نفسها على هذا الجيل هي أن يحارب على جبهات متعددة، ويسعى إلى التغيير على الصعيدين السياسي والثقافي، من دون أن يعتنق أفكاراً ماضوية تدعو إلى إحياء الموروث الأدبي والديني، أو يرتمي في أحضان الغرب الذي غادرت جيوشه البلدان المستعمرة ولكنه ترك أتباعه من أبناء تلك البلدان لينفذوا سياساته.

لكن هذه الأرضية السياسية والثقافية التي تكوّن استناداً إليها عمل محمد برادة النقدي، والشواغل الوطنية، المغربية بخاصة والعربية عامةً، التي لازمت هذا العمل، لم تمنع الناقد المغربي من التواصل مع الثقافة الفرنسية والغربية، والبحث عن آفاق منهجية ونظرية تؤسس لرؤيته الثقافية والنقدية. بل هي حمت عمله من الوقوع في أسر نظرية الانعكاس الماركسية، وأفكار النقد الواقعي العربي الذي كان أسيرَ هذه النظرية، ناطقاً باسمها في قطاعات واسعة من هذا النقد الذي كان يُكتب في خمسينيات القرن الماضي وستينياته إبان صعود الناصرية والأيديولوجيات الماركسية والقومية المتأثرة، في شقها الأدبي والثقافي والنقدي على الأقل، بتلك النظرية ونسلها من الأفكار والتصورات التي تختزل دور الأدب في تصوير الصراعات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية في أزمنة ما بعد الاستعمار.  لقد تنبه برادة منذ بداياته النقدية، إلى خطر هذه الأفكار التبسيطية والاختزالية المفقرة، في فهم العملية الأدبية، وتمثل فعل الكتابة والخلق والإبداع في تأويل العالم.

فرانز فانون

ورغم الحماسة التي تسم بطابعها المقالات الأولى التي كتبها، وهو في العشرينيات من العمر، والطبيعة السجالية لتجاربه الأولى، فإن عثوره على عمل الطبيب النفسي والمنظر السياسي والثقافي المارتينيكي – الجزائري فرانز فانون (1925- 1961، وهو مؤلف كتابي "المعذبون في الأرض" و"بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" ، في وقت مبكر من سنوات تكوينه الأدبي والثقافي، قد أمده بالعدة الثقافية والنظرية للنظر بعيون مختلفة إلى تجربة الاستعمار والصراع معه. وهذا ما جعله ينشر عام 1963، بالاشتراك مع الكاتب الجزائري مولود معمري والمؤرخ المغربي محمد زنيبر، كتاباً في عنوان "فرانز فانون ومعركة الشعوب المتخلفة"، حيث يعثر برادة على البذور الأولى لتحولاته النقدية، واحتكاكه بالتصورات النظرية الأولى لنقد ما بعد الكولونيالية، والنقد الثقافي اللذين يسعيان إلى تفكيك تمدد الأخطبوط الرأسمالي وإرساء أساسات التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للغرب في المجتمعات الخارجة للتو من عباءة الاستعمار. وتهيئ هذه الانطلاقة الأولى الناقدَ المغربي البارز والمثابر، والمثقف العمومي المقاتل على جبهتي السياسة والثقافة (فقد صرف سنوات طويلة من عمره ناشطاً في صفوف اتحاد كتّاب المغرب، الذي تولى رئاسته لفترة طويلة) ، لكي يَعبُر في اتجاه التصورات النظرية التي تطور مفاهيم اليسار الاجتماعي وما بعد الماركسية، استناداً إلى أفكار ماركس نفسه أو تأويلات أتباعه الذين قرأوا أعماله التي سبقت "رأس المال"، خصوصاً عمله Grundrisse (الذي كتبه ماركس بين عامي 1857- 1858، ولم يكمله، كما أنه لم ينشر حتى عام 1939)، وأعادوا النظر في مفاهيمه النظرية والفلسفية وتطبيقاتها في الحقلين الثقافي والأدبي.

نظريات ومنهجيات

وقد نشط محمد برادة، من أجل النهل من هذه النظريات والمنهجيات الجديدة، في ترجمة نصوص أساسية لعدد من أهم المنظرين في حقل الأدب واللغة والثقافة، ومن ضمنهم الناقد الفرنسي رولان بارت (1915-1980)، والفيلسوف والمنظر اللغوي والأدبي الروسي ميخائيل باختين (1895-1975). ويمكن أن نلاحظ، على مدار تجربة برادة النقدية، تأثيرات قوس واسع من المنظرين والفلاسفة والنقاد وعلماء اجتماع الأدب، الذين تسيدوا المشهد النظري الأدبي في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى رأسهم رائد البنيوية التكوينية لوسيان غولدمان (1913-1970)، وميخائيل باختين، ورولان بارت، وعالم الاجتماع وصاحب نظرية الحقل الفرنسي بيير بورديو (1930-2002)، والفيلسوف الفرنسي، الذي زاوج بين الظاهراتية والتأويلية، بول ريكور (1913-2005). وقد مزج برادة في عمله النظري والتطبيقي، الذي ركز بصورة أساسية على النوع الروائي (بوصفه نقطة الالتقاء الشديدة الحساسية بين التحولات الاجتماعية والأدبية)، بين الترجمة والشرح والتفسير، وتقريب أعمال هؤلاء المنظرين إلى القارئ العربي، وابتداع نسيج نقدي يستفيد من أعمالهم.

لكنه سعى في الوقت نفسه إلى الانطلاق من الأرضية الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تتصل بالواقع المغربي، والواقع العربي المعاصر. وهكذا، فإن النظرية لا تبدو مُسقطةً من الخارج على النصوص، والبيئات التي أنتجت ضمنها تلك النصوص، بل إنها تصير طالعةً منها، وخادمةً لها، ومفسرةً لتلك النصوص وشروط إنتاجها المخصوصة، فلا تعبدَ للنظرية ولا صلاةَ في محرابها، بل إعادة توظيف لها في سياقات ثقافية مختلفة عن السياقات التي أُنتجت ضمنها تلك النظرية. وكما يقول إدريس الخضراوي، في خاتمة كتابه، "فقد ظل برادة يشدد على ضرورة مراجعة المفاهيم ومساءلتها وتنسيبها كي تكون الممارسة أصيلة، قادرة على استكشاف الخصائص الفنية والجمالية التي تنطوي عليها الأعمال الأدبية العربية بعيداً عن القراءات المفردة والتأويلات النهائية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة