Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

  نشيد "البلاد" لعقل العويط في مرآة اللغة الفرنسية

 17مرثية لبيروت وخرابها تجسد الأثر الروحي العميق

نشيد "البلاد" باللغتين العربية والفرنسية (دارنوفل)

في ثلاثيته عن فاجعة انفجارمرفأ بيروت، ينفرد الشاعر اللبناني عقل العويط في التركيز على حقبة، بل على حدث هز مدينة بيروت، وأرخى بظلال مآسيه على كل سكان العاصمة، في انفجار هائل يكاد يوازي بمفاعيله ما أحدثه انفجار القنبلة الذرية وسط مدينة هيروشيما اليابانية، نهاية الحرب العالمية الثانية، وما خلفه من إزهاق للأرواح تقدر بـ230 قتيلا، والآلاف من الجرحى، ناهيك عن أضرار طاولت عشرات الآلاف من المساكن في دائرة قطرها أربعة كيلومترات هي مساحة بيروت الكاملة.

لا يسع هذه الواقعة المأسوية أن تحجب عن الشاعر الطبيعة الفنية للعمل الشعري الذي قدمه للقراء في سبع عشرة رؤيا، هي كناية عن قصائد متفاوتة في أحجامها، وتحاكي مناخاتها الدمار الحاصل في بيروت حجراً وبشراً وقيماً و مسالك وأنماط تفكير ومآثم وشروراً عصية على الوصف، يستدعي لها من التوراة والإنجيل قصصاً وأخباراً توازيها وتسجل مقادير استفظاعه ما أصاب مدينته وأهلها.

مراث ورؤى

ولو نظرتُ بمنظار نورثروب فراي، صاحب كتاب "الشيفرة الكبرى، التوراة والأدب"، لقلتُ إن عمل الشاعر العويط الأخير، في سبع عشرة رؤيا ومرثاة ومزمور، وإن تواشج (تناص) شعره فيها مع التوراة والإنجيل وخطاب الفلاسفة (ابن رشد، على سبيل المثال)، فإنه سبق لنفر غير قليل من الشعراء الأجانب الحداثيين من القرن التاسع عشر وما قبله، وأغلب شعراء الحداثة العرب (بدءاً بجبران خليل جبران، وإلياس أبي شبكة، وبدر شاكر السياب، ويوسف الخال، وخليل حاوي، ومحمود درويش، وأنسي الحاج، وغيرهم)، أن استلهموا من الخطابات الدينية المقدسة في صوغهم عديداً من قصائدهم، أو لتضمينها بعداً من الأبعاد يرون أنه أنسب تعبيراً عما يفوق الحس العادي واللحظة المحدودة والآلام الفردية، وما يكاد يستغلق عليهم في المعضلات الكبرى كالموت والحياة والخطيئة والنعمة والخير والشر والخلود والفناء واحتضان الطبيعة للكائن الحساس، وغيرها.

 

ومع ذلك، ليست الوجهة الآنفة ما أطلب في مقالتي عن قصائد "البلاد" للشاعر عقل العويط، وإنما ترجمة هذه القصائد إلى الفرنسية الموضوعة لها في القسم المقابل لها من الكتاب، وما أعد للترجمة لتكون معادلةً للأصل المنقولة عنه، وأول ما تجدر الإشارة إليه في شأن ترجمة هذه القصائد-الرؤى السبع عشرة هو كونها قصائد نثر، أي لا تنتظم في قوالب نظمية وإيقاعية، بالتالي يسهل للمترجم (وهنا إلى اللغة الفرنسية) أن يقارب القصائد، وينقل مضامينها محاكياً بنياتها التركيبية العامة (مقاطعها، وفقراتها وتوزع الجمل فيها وأدوات الربط، وغيرها). وقد لا تعيق المترجم إلى الفرنسية كثافة المعاني، بل احتشادها في كل قصيدة-رؤيا، ولا يثبط من عزيمته تداخل الصور البيانية والنماذج القديمة، نظير ما يلقاه في القصيدة-الرؤيا 1، حيث يتكون التصور الأولي للوطن المتحول جحيماً وموئلاً للموت والبشاعة والتقزز والتغول والفساد والعهر وكل أشكال السقوط والتسفل والتعطل واليباب.

ولكن التحدي الأكبر الذي قد يكون يلقاه المترجم من بين التحديات الكثيرة، هو تلقط معجم الجحيم هذا على غزارته ودقة تعيينه (بساط الريح، ديدان، جماجم، بصاق، تخرصات، حشود، ذباب، بعوض، مسالخ، عمائم، قلنسوات، مفدى، مواخير، الحضيض، أضغاث، قوادين، الخ) على ما تنقله الفقرة الآتية، "على بساط الريح ديدان وعيدانُ ثقاب وهشيم، ومراعٍ خصيبةُ الجماجم، وحجار تعوي آلاماً وحيطان تكاد تنتحر وسعال أحمق ولعاب خانق، وبصاق أصفر الاصفرار، ولمبة دامية في سحاقِ الضوء، وتخرصات وأحقاد وجبال تتدحرج، وكنوز العمى بلهاء، وحشود هي رايات تخفق للذباب للبعوض للأفاعي للعقارب.." (ص:6).  

محاكاة النص

ويكون عليه من ثم، أن يتدبر أمر الصفات ويختار من بينها ذات الجرس الموحية بالإيقاع (وهذا أمر عسير) بالفرنسية، ويحاكي التراكيب نفسها أو المعادلة لها التي صيغت بها في العربية، وبأكبر قدر ممكن من التجريب والتقريب، ولكن ما الحيلة إذا كان كاتب العربية الشاعر عقل العويط يزاوج بين معجمين؟ أحدهما حديث ومعاصر (لمبة، فنادق، وطن، أعطال، الخ) وثانيهما معجم قديم للغاية وذو دلالات متخصصة بزمن استخدامه (من مثل، عسس، أي شرطة الليل في المدينة قديماً)، والكلمة الأجنبية التي اقترحتها المترجمة توافق جزئياً المعنى، ولا يسعها أن تغطي دلالتها القديمة، ما دام أن لا معادل لها بالفرنسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وثمة عبارات تنسبإالى نصوص دينية قديمة بعينها (مراعٍ خصيبة) أعني المزمورالـ 23، وقد أبطلها الشاعر بإضافتها إلى "الجماجم"، ليحملها بعداً جحيمياً مناسباً لرؤيته ورؤياه، نقيضاً لمحمول العبارة الأولى الدال على توكيل المؤمن نفسه لربه، كما يحسن الراعي رعاية خرافه.  

ولكن النظرة الإجمالية إلى ترجمة الشعر للفرنسية، لا سيما إذا كانت قصائد نثر، ذات عوالم متداخلة وأنواع فرعية وحساسيات فريدة، شأن قصائد الشاعر عقل العويط، تفيد بأن المترجمة رينيه أسمر هربوز بذلت جهوداً مشكورة في صوغ المناخات الشعرية اللازمة من أجل أن تخرج على يديها قصائد بالفرنسية، تامة ذات روح وسبك وبنى وصور شعرية ملائمة للسياق الدلالي العام، وهذا دأبها لدى ترجمتها القصائد-الرؤى ذات البعد التوراتي (رقم :6-7-8) حيث يستعير الشاعر نبرة اللعنة الغضبية الصاعدة من فم نبوي شعري (إرميا، أيوب، يوحنا) على كل مظهر من الجحيم المصطنع للبلاد وعلى كل مسهم فيه. ثم نراها، أعني الترجمة، تتقصى مناخات اليباب المعاصر على طريقة "ت أس إيليوت" عبر القصائد-الرؤى (رقم:1-4-5)، على سبيل المثال، التي لا يأنف فيها الشاعر من تسليط أضوائه على كائنات الجحيم الأرضي التي افترشت أركان بلاده، وأبطلت فيها وفي إنسانها الباقي كل خير وجمال وحق وحياة.

نبرة غنائية

وليس هذا فحسب، بل ألقى المترجمة أيضاً حريصة على نقل مناخات مختلفة، في قصائد-رؤى ذات بنى خيطية، ونبرة غنائية وجدانية شفيفة، قاصدة بها رسم معالم البلاد المثالية، النقيضة من الجحيم حيث هوت أو أُسقطت عنوةً، وفي القصائد -الرؤى (رقم:10-11).

 ولا يسع القارىْ، ولا المترجمة، أن يغفلا عن القصائد -الرؤى التي حملت في طياتها خطاباً سياسياً بيناً يستعيد فيه الشاعر العويط إيمانه بلبنان فوق النزاعات والمحاور، سيداً على مصيره، مترفعاً عن كل مكسب ومبادلات ومغانم، معتصماً بحبل الحرية، مسلماً زمامه إلى مولاه العقل، وإلى قيمته الأثيرة الحرية، في القصيدة-الرؤيا، "هكذا قال مولاي العقل لبنان عرشي بيروت مسكني/ لن يجدوا عندي موطناً لغيرك يا لبنان. ما من عجب إذا قال العقل إنك عيناي إنك بيتي.../ بالمزامير بمزامير داود بأفواه الأطفال أتكلم بأفواه الأجنة بأفواه الرضعِ.../ للموت الجائر أحكام مبرمة. للحرية منطق آخر". وعلى قولة إشعيا "سيشمت السرو سينكسر قضيب المتسلطين ستنكسر عصا المنافقين وأرز لبنان بالجحيم سيشمت" (ص:35).

لا شك عندي، وعند القراء، بأن ترجمة كتاب "البلاد" الشعري للشاعر اللبناني عقل العويط سوف تنضم إلى سجل الترجمات الشعرية المزدوجة اللغات، العربية - الفرنسية، وسوف تكون لها المكانة المستحقة في الجهد الثقافي النير لنقل الإبداع الشعري العربي، إلى اللغات الأجنبية العالمية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة