Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الياس الزيات جمع بين الحداثة والفن الأيقوني والخط التراثي

أعاد المكانة لمدرسة حلب الفنية ورسم قصصاً من الإنجيل وأشعار المتصوفة

الرسام السوري الرائد الياس الزيات (صفحة الرسام - فيسبوك)

ارتبط اسم الرسام السوري الرائد الياس الزيات الذي رحل عن 87 عاماً (1935-2022) بالحارة الدمشقية، حيث ولد في حي الجوانية، باب توما، وهناك تعرّف إلى ميشيل كرشة الذي كان صديقاً لوالده، وتعلم الرسم على يده وهو لم يتجاوز السبعة عشر عاماً. كان حينها يرسم الطبيعة الصامتة بقلم الرصاص والقليل من الألوان المائية، وبعدها تعلّم الرسم بالألوان الزيتية، إلى أن جاء عام 1955 حين أعلنت وزارة المعارف السورية عن مسابقة لبعثة لدراسة الفن في بلغاريا. وفعلاً فاز الزيات بالمنحة، وسافر إلى صوفيا، ودرس هناك فن التصوير الزيتي بين عامي 1956 و1961، ليكمل بعدها دراسته في كلية الفنون الجميلة في القاهرة بين عامي 1961 و1962. ومن ثم درس ترميم اللوحات في بودابست، هنغاريا بين عامي 1973 و1974.

 

في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت عاد الزيات مع عدد من رفاقه الذين درسوا الفن في أوروبا، وشرعوا في نقل خبراتهم ومعارفهم إلى طلابهم في كلية الفنون الجميلة في دمشق. ولكن الزيات لم يؤخذ بما يسمى الحداثة الأوروبية، بل وجد أن هذه الحداثة كانت موجودة في بلاده منذ قرون، ويجب إنعاشها عبر استلهام الأيقونة والخط العربي والرسوم المنقوشة على جدران القصور والكنائس، إضافة إلى الفن التدمري الذي يعود إلى القرن الثالث للميلاد، إذ وجد الزيات فروقاً بين أعمال الفنانين الرومان في تلك الفترة، وبين ما قدمه الفنان السوري التدمري من خصوصية في أسلوب النحت والتصوير والتشكيل عبر جداريات فسيفسائية وأيقونات أضاف عليها من بيئته وشخصيته المحلية.

التعبيري والتجريدي

ولئن بدأ الفنان السوري واقعياً ثم تعبيرياً ثم تجريدياً لفترة قصيرة، ثم عاد إلى التشخيص بأسلوب تعبيري، إلا أنه كان يرفض الانصياع لأي تصنيفات أكاديمية، إذ كان الفنان الراحل يعتقد أن الفن في سورية غني بحضوره، وهو موجود بشكل عفوي في حياة الناس، لا على شكل لوحة معلّقة على جدار، أو كمنحوتة معروضة في صالة، بل في قيمه التي تتجلى في كل ما يتصل بالحياة اليومية. فهو بهذه الصيغة فن شعبي، كان ينادي الزيات دائماً لأن يستفيد الجيل الفني الجديد منه وتطويره والعمل عليه.

 

بحث الزيات في تاريخ الأيقونة مستفيداً من دراسته لتاريخ الفن المصري والتدمري في القرنين الثالث والرابع الميلادي، وأوضح الفروق بينهما، مبيناً التلاحم والتمازج بين فنون المنطقة، وتوقف عند فن الأيقونة في جدرانيات دورا أوروبوس، الموقع الأثري الواقع في بادية الشام، وقد استهوته هذه الطريقة في التعبير. وكان يعتبر أن الأيقونة والأسطورة وفن جبران خليل جبران، تؤلف الثالوث الذي نبع منه أسلوبه في الرسم. فهو تخيل كما جبران، أورفاليس المدينة في كتابه "النبي" وساق حواراً على ألسنة أبنائها مع شخصية المصطفى، مجسداً ذلك في لوحات معرضه "ما بعد الطوفان"، وكان أبرزها "المدينة المصلوبة"، ولوحته "الفصح على الصليب" والتي ساند من خلالها القضية الفلسطينية.

طوّر هذا الفنان تقنيات قديمة خبرها في دراسته للفن، وقام بتطبيقها عبر استخدام التقنيات والمواد المختلفة مقدماً رؤية جديدة، لم يكن يحب أن تندرج ضمن تسميات مدرسية كالواقعية والتجريدية والتعبيرية. بل كان يعتبر هذه التقنيات من إبداعه الشخصي، ومن هذه التقنيات أنه استخدم الزيتي كتوشيح للمائي والأكريليك، معتمداً على طبقات عديدة لسطح اللوحة، وحدد بؤرا في لوحاته كدليل للمتلقي، فيما أبقى خلفية لوحاته أكثر حريةً، فمزجها مع عناصر واقعية متكئاً على خبرته في التجريد والمعرفة اللونية.

الفن الأيقوني والخط

 

يرى الزيات أن ميزة الفن الأيقوني بأنه فن تلقائي يعتمد الخط لأداء الفكرة، واللون الجريء ليضيء تلك الفكرة، ويقوي التعبير. يعتمد عمل الأيقون -غرافيك على الذات، فيختمر التأمل في الإنسان والأرض الرحبة والبحر والأفق. وهو فن حر من أسر الشكل المرئي، وهذا ما دفع الزيات للقول: "لعل التراث كالجمر تحت الرماد، يخبو في الظاهر، حتى إذا واتته الظروف عاد إلى مضائه". هذا التراث في التصوير السوري كان يراه الزيات مستمراً في جداريات قارة ودير مار موسى الحبشي من القرنين الثاني والثالث عشر، وفي جداريات وادي قاديشا، كما يراه الزيات فيما يسميه "الأيقونات النهضوية" منذ القرن السابع عشر، ويبدو بوضوح في أيقونات النصف الثاني من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

أعاد الزيات المكانة لمدرسة حلب في رسم الأيقونات، معتبراً إياها نقطة تحول مهمة على المستوى التجاري، حيث كانت حلب ثالث أكبر مدينة في المنطقة بعد إسطنبول والقاهرة، وقد أهّلها ذلك لتتحول إلى مركز إشعاع للنهضة المسيحية الشرقية وفنونها. فقد ظهرت في حلب مدارس وعائلات من المسيحيين المختصين بالأيقونات والمنمنمات، من بينهم عائلة "المصوّر" التي تركت بصماتها على فن الأيقونة في أعمال الزيات، إلى جانب مدارس بيروت والقدس ودمشق وحمص.

أفاد الزيات من التمازج بين فن الأيقونات المسيحي في الفترة ما بين القرنين الـ 16 والـ 18، وغرف من المؤثرات البيزنطية والعربية واليونانية والفارسية والعثمانية، وفيها يظهر السيد المسيح وهو يجلس القرفصاء على الطريقة العربية البدوية، مع ملامح أخرى. واستلهم الفنون الإسلامية على طريقة المنمنمات وزخارف السجاد، ويظهر التأثير الإسلامي بقوة على أعمال الزيات كما هو حال رواد هذا الفن المشرقي العريق. تحفل أعماله بالعناصر التزينيية والزخرفية، وبفن استخدام الألوان والزي، ويظهر بعض الأشخاص في الأيقونة وقد وضعوا العمامات، كما حفلت الأيقونات التي عمل عليها الزيات بالكتابات العربية واليونانية والآرامية والسريانية.

دراسات في الفن

كتب دراسات عدة في مجلة "الحياة التشكيلية"، ومنها بحثه بعنوان "الأيقونة- بداية وتاريخ" للتعريف بشخصيات متنوعة كانت محور اهتمام فناني الأيقونة المشرقية، إذ قدمها الزيات كما أسلافه على المستوى التشخيصي، ووفق ملامح بقيت على ارتباط مع أساسيات الظاهرة الأيقونية، والتي كانت تلاقي تحدياً من انفتاح العثمانيين على فناني أوروبا، وبخاصة الولاة الذين أعجبوا بدقة الرسم التشخيصي للوجه الإنساني، في حين كانت العامة منشغلة بالاهتمام بالحكايا والتكايا والتشخيصات الشعبية.

ويذكر الزيات أن كتاب "الناموس الكنسي" الذي نسخه وزخرفه قسطنطين بن الخوري داوود الحمصي عام 1866، هو المثال الأحدث للمخطوطات العربية الذي يحتوي على رسوم تلقائية، وصور أيقونية بألوان جريئة. وهو ما أثبته الزيات في شأن ارتباط النظرة آنذاك بفنون التشخيص الأيقوني القديم، حين كان التعبير عن الموضوع واضحاً من خلال مفردات تكون على صلة بالعمل التشخيصي. ولهذا اعتبر الزيات الأيقونة جزءاً مهماً من التراث الفني السوري بمختلف مدارسه، وهذا برأيه ما جعل الفنون فيها منفتحة على التجارب اللاحقة من دون أي شعور بالفراغ الجمالي أو الحضاري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قدم الزيات أعمالاً في هذا السياق مستلهماً إياها من كتابات جبران خليل جبران ومحي الدين ابن عربي والمتصوف ابن حلبي، ورسم لوحات لمريم المجدلية مستقياً خاماتها من تقنية رسم الأيقونة في وجوه الفيوم المصرية، والأيقونة الحلبية والتدمرية. ورفض الزيات التصنيفات الأكاديمية لأعماله، بل كان يعتبر الواقع هو المعين الذي يستوحي الفنان لوحاته منه، إضافةً الى شغفه في المسرح والموسيقى الصوفية. وكان يعمل على ما أسماه "إخراج اللوحة مسرحياً"، واعتبار اللوحة مادة درامية فيها قصة وممثلون، والفنان هو من يقوم بتوليف هذه العناصر ضمن رؤيا فنية متوازنة بصرياً.

في الفترة الأخيرة انكفأ الزيات عن العمل، وكان يرى أن معظم الفنانين اليوم يشتغلون أعمالهم على ذوق التاجر، أو مقتني اللوحات، لا الفنان الذي ينطلق من بيئته ومجتمعه وتاريخه. وثمة من يعمل على "مسطرة" الغرب ومقياسه.

 كتب الزيات العديد من المقالات والأبحاث عن الترميم، مستفيداً من دراسته ومعرفته بالتقنيات التقليدية لرسم (وتقديم) ما ورد في الإنجيل من قصص. وزيّن الكثير من الكنائس والأديرة في سوريا بلوحات وأيقونات جدارية، وأعماله مقتناة لدى مؤسسات مثل الجامعة الأميركية في بيروت ومعهد العالم العربي في باريس والمتحف البريطاني ووزارة الثقافة السورية ومتحف دمّر ومتحف تدمر وفي مجموعات خاصة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة