هي واحدة من أجمل لوحات بروغل وأقواها، إن كان في وسعنا أن نتحدث عن الجمال بصدد لوحة "شريرة" يقوم موضوعها على وقوع عدد من العميان وهم سائرون في منطقة برية لمجرد أن السائر أولاً بينهم قد وقع في حفرة، فكان أن وقع الباقون تباعاً وراءه أو هم في سبيلهم للوقوع واحداً بعد الآخر لأن كل واحد منهم يعتمد في سيره على سابقه. وحتى لو كان البعض يرى شيئاً من الموقف الفكاهي في هذه اللوحة، فإن آخرين إنما يرون فيها نوعاً من التصوير الفني لأمثولة دينية ترد في إنجيل القديس متى كما لدى القديس لوقا، وتتساءل عما إذا كان في مقدور أعمى أن يقود أعمى آخر، من دون أن يقع الاثنان في حفرة؟ ويبدو على أية حال أن بروغل كان من الاهتمام بتلك الأمثولة إلى درجة أنه رسمها عدة مرات في نسخ متنوعة أهمها تلك التي نقدمها هنا، والتي يتساقط فيها ستة عميان.
السقوط بالتتابع
رسم بيتر بروغل الأكبر هذه اللوحة التي يصل عرضها إلى أكثر من متر ونصف المتر، وارتفاعها إلى نحو 86 سم، والمعلقة في "غاليريا ناسيانالي دي كابوديمونتي" في نابولي الإيطالية، عام 1568، في فترة كان يشتغل فيها على نوع شديد الخصوصة والقوة من لوحات جماعية تصور حيناً في اللوحة الواحدة عشرات الأمثال الشعبية المحلية في البلاد الواطئة، وأحياناً ألعاب الأطفال في شتى تنويعاتها وذلك في نفس المناطق الريفية التي اعتاد أن يرسم فيها مشاهد صاخبة بالغة الإتقان من حياة الفلاحين هو الذي دائماً ما أولع بتلك الحياة وخصها بأجمل لوحاته في نهج سيتبعه فيه عدد من أبنائه، وربما أحفاده من الذين سيمتهنون الرسم بدورهم، وسينهلون من سمعة بيتر الكبير وفنه، لكن أياً منهم لن يبلغ مستواه، لا في ابتكاره للمواضيع ودلالاتها، ولا في البعد الحمالي التلويني. ومهما يكن من أمر هنا ستبقى "أمثولة العميان" واحدة من أجمل لوحات بروغل الكبير، وربما أكثرها إثارة للحيرة في بعدها "الديني" - علماً بأن الرسام لم يكن كبير الاهتمام بالرسم الديني - ولكن كذلك في بيئتها الريفية التي يخيل إلى كثير من الباحثين أنها بيئة تمثل الريف الإيطالي المحيط بمدينة البندقية بأكثر مما تمثل ريف البلد الواطئة، ولا سيما منطقة الفلاندر التي ينتمي بروغل إليها، وكان يعيش فيها خلال الفترة التي رسم فيها هذه اللوحة.
مباشرة من الكتاب المقدس
بالنسبة إلى البعد الديني الذي نشير إليه يتمثل هنا طبعاً بالموضوع نفسه، والذي يبدو وكأنه يعبر مباشرة عن التساؤلات المطروحة في الإنجيلين المذكورين، لكنه بصورة لا تقل مباشرة تتجلى من خلال المكانة المركزية التي يعطيها الرسام في اللوحة لمبنى الكنيسة التي يجعل العميان يتساقطون في حماها. وهنا في هذا السياق قد يكون من المنطقي أن نلاحظ كيف أن بروغل كان في العام الذي رسم فيه هذه اللوحة في الثالثة والأربعين من عمره ولن يعيش سوى عام واحد بعد ذلك إذ نعرف أنه وهو المولود عام 1525 سيرحل عن عالمنا في عام 1569. ومن اللافت أنه في ذلك العام نفسه، ما قبل الأخير في حياته، رسم عدداً لا بأس به من لوحات تكاد جميعها تصور أمثولات إنجيلية يبدو معها فن بروغل وكأنه يتجه اتجاهاً خاصاً من الصعب تحديد ما إذا كان ساخراً من البشر وتصرفاتهم أم أنه كان يعبر بشكل ما عن شفقة إزاءهم. ومن تلك اللوحات "الشحاذون"، و"نازع أعشاش العصافير"، و"النفور"، و... طبعاً "أمثولة العميان". وهذه اللوحات جميعاً أتت معاً ورسمت بسرعة بعد أن كان بروغل قد انتهى من رسم واحدة من أضخم وأجمل لوحاته الدينية على قلة هذه وغرابتها، ونعني بهذا لوحته "اعتناق القديس بولس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يقود العميان؟
بالنسبة إلى لوحة "أمثولة العميان" لا بد من ملاحظة أنها تتميز بتشكيلية مدهشة، حيث إن الرسام جعل موكب العميان المتمسكين ببعضهم البعض يقعون أو يوشكون على الوقوع بشكل تدريجي إثر وقوع الأول الذي يقود مسيرتهم، وذلك في خط زاوية يبدأ من أقصى يسار اللوحة إلى أقصى يمينها نزولاً في مسار مُتتالٍ لا يترك من المجال سوى ما يمكن المشاهد من مشاهدة الكنيسة المسيطرة على خلفية اللوحة. والحقيقة أن هذا الحضور المهيمن للكنيسة، ولو من بعيد تقريباً، هو الذي حير الدارسين، إذ أمعنوا في ربط حضورها بالبعد الإنجيلي للمعنى الذي تحمله الأمثولة. وبالنظر إلى الأوضاع السياسية – الدينية التي كانت سائدة زمن إنجاز اللوحة ومعرفة الدارسين، ولا سيما الباحثون منهم، في العلاقة بين حياة بروغل وفنه، أنه في خضم تلك الصراعات التي تدور من حول الإصلاح الكنسي، وأدت إلى الانشقاق البروتستانتي عن البابوية، كان بروغل إصلاحياً أقرب إلى اللوثرية. ولعل هذا الواقع التاريخي كان هو الذي دفع عدداً من الدارسين إلى استنتاج معانٍ سياسية ودينية من هذه اللوحة التي لم يعرف أصلاً لماذا ولمن رسمها بروغل. وهذا ما يجعل التفسير المنطقي يسير في اتجاه كون اللوحة، ونحو نصف دزينة أخرى من لوحات ذات أساليب وألوان ومواضيع شبيهة بما لهذه اللوحة – وذكرنا بعضها أعلاه - نوعاً من مساهمة الفنان في الصراع الفكري المحتدم من حول تلك الصراعات التي نشير إليها، حيث يحاول الفنان أن يعبر، مرة عن لا مبالاة الكنيسة الرسمية بمصير الناس (كما في لوحة "الشحاذين"، حيث نرى القسيس يترك هؤلاء في جوعهم وعوزهم مبتعداً عنهم بطبق الطعام)، ومرة عن "مقاومة البسطاء أنسهم للقساوسة بطرق مبتكرة" (كما مثلاً في لوحة "النفور").
معركة الأفكار
من خلال هذه الفرضيات رأى عدد لا بأس به من الباحثين، وفيما يتعلق هنا بلوحة "أمثولة العميان"، أن بروغل إنما أراد أن يعبر فيها، بطريقته المواربة، عن نظرة إلى الكنيسة الرسمية في زمنه تفترض أن هذه الأخيرة هي التي تقود العميان إلى ذلك المصير البائس. ولعل الأكثر راديكالية بين الباحثين الذين أضاؤوا على هذا المعنى كان الباحث الهولندي سيباستين فرانك الذي أصدر في زمن الصراعات الدينية الكبرى دراسة اشتهرت في حينه، وسيقال إن بروغل قرأها بشكل عميق، فجعل من عدد من لوحاته الأخيرة نوعاً من التعبير عنها. وفي هذه الدراسة رأى فرانك أن البشر رعايا طيبون، لكنهم عميان لا يفقهون شيئاً من شؤون الخلق والخالق، ومع هذا فإن كنيسة الحجر تقودهم إلى السقوط، بدلاً من أن تقودهم إلى النور، وذلك "على العكس مما نادى به السيد المسيح في تعاليمه". والحقيقة أنه إذا كانت هذه الفرضية الأخيرة صحيحة سيكون من المنطقي الإمعان في ربط الرسام بروغل بقضايا زمنه والاستنتاج بأن جزءاً لا بأس به من عمله الفني إنما كان سلاحه في خوض معركة الأفكار في زمنه، وربما كوصية للأزمان المقبلة.
إنتاج كبير لحياة قصيرة
كما أشرنا، لم يعش بيتر بروغل الكبير سوى أربعة وأربعين عاماً كانت كافية له من ناحية كي يرسم تلك اللوحات الرائعة الملتحمة بالطبيعة وبالإنسان الطيب الملتصق بتلك الطبيعة، ومن ناحية ثانية لإنجاب وتدريب نحو نصف دزينة من أبناء وأحفاد ساروا على دربه، ولكن ضمن إطار البعد الفني هم الذين من الصعوبة بمكان النظر إليهم على أنهم أصحاب رسالة سياسية، أو حتى دينية يفترض أنها ماثلة في ثنايا لوحات الأب أو الجد الكبير الذي كانه بيتر بروغل. بقي أن نذكر أن بروغل هذا ولد في بريدا على الأرجح، ودرس الرسم بين 1545 و1550 لدى الرسام بيوتر كوك في آنفير، حيث ما لبث في عام 1551 أن أصبح عضواً في نقابة رسامي المدينة، ما قاده في العام التالي إلى رحلة كان لا بد منها لكل فنان إلى إيطاليا، لدراسة فنونها النهضوية. وهو منذ عودته، وخلال السنوات القليلة التي عاشها بعد ذلك انغمس في الرسم منتجاً بعض أروع اللوحات التي بقيت شاهدة على مكانته في الصف الأول بين رسامي كل الأزمنة.