Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النازح السوري ضحية العنصرية يبيع الخردة في البندقية

المخرج اللبناني وسام شرف يفتتح مسابقة "أيام السينمائيين" بفيلم إنساني

النازح السوري وحبيبته الإثيوبية في فيلم وسام شرف (ملف الفيلم)

عن المهمشين وشؤونهم ومعاناتهم وما يعانونه من ظلم وإقصاء وتمييز في بلاد الغربة، أنجز المخرج اللبناني وسام شرف فيلماً روائياً طويلاً ذكياً ومتماسكاً في عنوان "حديد نحاس بطاريات" (حمل عنواناً مختلفاً باللغة الإنجليزية ويمكن ترجمته بـ"قذر صعب خطر"). افتتح الفيلم مسابقة "أيام السينمائيين" في مهرجان البندقية (حتى 10 سبتمبر "أيلول"). واختياره للافتتاح بمثابة حدث لفيلم لبناني صغير لم تسبقه طنة ورنة. فهذا القسم الموازي للبرنامج الرسمي أبصر النور في عام 2004 وهو برعاية جمعية السينمائيين الإيطاليين، والهدف منه اختيار أفلام فيها قدر من "الابتكار والتجديد والبحوث والاستقلالية"، كما جاء في بيان على الموقع الإلكتروني الخاص بـ"أيام السينمائيين". وفيلم شرف يتميز بهذه الصفات المذكورة وربما أكثر.

الحكاية بسيطة: أحمد (زياد جلاد) نازح سوري يعتاش من شراء الخردة وبيعها في حين أن مهدية، عاملة إثيوبية في أحد المنازل. أحمد ومهدية يعيشان قصة حب في بيئة معادية لهما ولما يمثلانه في عقلية رافضي الاختلاف. هما تركا بلادهما للبحث عن حياة أفضل، هو هرب من الحرب التي دمرت سوريا وهي هاجرت الفقر المدقع لتأمين مستقبلها، لكن هناك مشكلات أخرى تنتظرهما في بيروت، في مقدمتها العنصرية التي تترجم على أرض الواقع بمعاملة غير إنسانية ورفض. الأرض التي بدت ملجأ لهما سيتبين بأنها فخ! لكن، هل هو فخ للغرباء فقط أم للمقيمين أيضاً… سؤال يستحق أن يطرح؟ 

الكراهية المفروضة

هناك عديد من الأفلام عن عرب في المهجر، لكن تلك التي تتحدث عن الغرباء في العالم العربي نادرة جداً. الفيلم يظهر هذا الوجه القبيح للبنان وللمجتمع اللبناني الغارق في الكراهية والمشاعر السلبية، على الرغم من أن المخرج لا يفعلها كنوع من تصفية حساب وحقد دفين. جمال الفيلم غير كامن في ما يكشف عنه ويريه ويضع الإصبع عليه، فهذا بات معروفاً لا بل مستهلكاً في الإعلام. نقطته المضيئة هو أسلوبه السينمائي الذي يخرج الفيلم من كونه مجرد إدانة واستنكار بائس لممارسات اجتماعية. استعار شرف عناصر الميلودراما الكلاسيكية فوضعها في السياق اللبناني أو في ما يسميه المخرج بـ"البيئة المعادية للأجانب". من خلال النظر إلى قصة كهذه من زاوية مختلفة قلما تناولتها السينما اللبنانية، أنجز شرف عملاً يضع الإنسان ومشاعره فوق كل الاعتبارات، بعيداً من النظرة النمطية. لا يعامل الفيلم أحمد ومهدية كمادة مستخدمة للتدليس أو شحذ التضامن، بل هما شخصيتان كاملتان، لديهما أحلامهما وطموحاتهما ورغبتهما، والأهم أن أحدهما يحب الآخر، وهذا ما يصعب على بعض اللبنانيين تخيله أو القبول به. فكيف لإنسان أقل منه مرتبة، وفق رأيه، أن يحب وأن يكون له شريك يقيم معه علاقة غرامية في بلده وتحت سقفه؟! 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من هذه المفارقات المضحكة والمبكية في آن، ولد هذا الفيلم الرقيق والحساس الذي يذكرنا بكادراته وإضاءته وصمت بعض لحظاته والنحو الذي يتحرك فيه الشخوص، بأسلوب المعلم الفنلندي آكي كوريسكامي. وعندما التقيت المخرج سألته عن تأثير كوريسماكي فيه، وإذا ما كان واعياً، فأكد لي ذلك. حتى إن كوريسماكي كان أنجز قبل سنوات عدة فيلماً عن لاجئ سوري يحاول التسلل إلى عالمه المنظم جداً، تلك "الجنة" الفنلندية العجيبة، وسماه "الجانب الآخر للأمل". عند شرف الأمل غير موجود حتى، فهو غير مشغول به إلا نادراً، بقدر انشغاله بإلقاء نظرته على مكان وناس وأحوال. فالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية جعلت الجميع في "وضعية الإنسان الذي يحاول الصمود" (القول للمخرج)، مما حول الجميع أعداء للجميع، والجميع يتعامل مع الجميع بفوقية ورفض.

كل هذه المواضيع والإشكالات كان يمكن أن تقع في التنظير الأخلاقي، لكن شرف تعامل معها بخفة وعبثية وأدخل إلى الحكاية عناصر فانتازية كتحول البطل التدرجي رجلاً من حديد، وذلك أنقذه من مخالب الفيلم الذي هو أقرب إلى بيان جمعيات غير حكومية. "لم أرد فيلماً اجتماعياً عن عذابات الناس" يقول شرف في مقابلة، مدركاً أن الصيغة التي لجأ إليها، حيث القليل من العبثية والخفة واللجوء إلى عناصر "الجانر" السينمائي، لا تقلل من التأثير الذي يمارسه في المشاهد، بل على العكس يصبح أشد وطأة.

الكولونيل المتقاعد

عمل شرف مراسلاً وصحافياً ومصوراً لمحطة "آرتي" الألمانية الفرنسية، مما جعله يوثق كثيراً من الأحداث المتعلقة باللاجئين. وفيلمه هذا يؤكد إلمامه بالموضوع الذي يتحدث عنه. قصة حب أحمد ومهدية شبه مستحيلة في مكان لا يعاملان فيه إلا كمجرد ظلال، وهذا المكان هو بيروت التي تعيش تخبطاً كبيراً، والفيلم يظهره على وجوه الناس وفي الشخصيات. ولعل أكثر شخصية "مرعبة" هي شخصية الكولونيل المتقاعد (رفعت طربيه)، أي رب المنزل الذي تعمل لديه مهدية. إنه رجل مصاب بالخرف والجنون - والهذيان ربما، مما يجعله يتخيل نفسه مصاصاً للدماء، هذا الرجل الذي تثير حالته الشفقة يذكرنا بأنفسنا، بحالتنا، في الزمن اللبناني الراهن.

الفيلم وما يرويه عابران للزمن، لكن يصعب عدم ربطه بحاضرنا، ذلك أنه يضع الجميع في سجن قلة ستنجو منه: سجن الماضي وسجن المرض وسجن الأفكار المسبقة وسجن التهميش الاجتماعي وسجن السياسة. والسياسة حاضرة بكل التفاصيل، على الرغم من أنه لا يتحدث عنها. تفادى المخرج تناول السياسة إلا أنه تناول الأحداث بمنطق سياسي. كل هذه الأسوار المرفوعة تخنق ليس فقط الغرباء الذين يمرون في هذا البلد بحثاً عن شيء ما، بل تخنق أيضاً أصحاب البلد الذين يقيمون فيه غصباً عنهم. هي نظرة سوداوية وقد تكون ظالمة أو متحاملة قليلاً أو أحياناً في حق اللبنانيين الذين استقبلوا أكبر عدد من اللاجئين في بلاد صغيرة تعاني ما لم تعان منه الأمم، ولكنها نظرة تستحق أن تقال لأهميتها ودورها في فتح نقاش.  

اقرأ المزيد

المزيد من سينما