Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غورباتشوف شرير في روسيا... بطل في الغرب

غير العالم وقاد ثورة من الأعلى لكن سياساته جلبت كثيراً من المشاكل

يلتسن يتوجه نحو غورباتشوف خلال جلسة للبرلمان الروسي في 23 أغسطس 1991 (أ ف ب)


على الرغم من أن الأغلبية في روسيا تنظر إلى ميخائيل غورباتشوف على أنه دمر الاتحاد السوفياتي وفكك قوة عظمى، فقد ظل الغرب ينظر إليه باعتباره ديمقراطياً ومحرراً لشعبه، أنهى الحرب الباردة وجعل العالم أكثر أماناً، لكن في الحالتين، غير غورباتشوف مسار القرن العشرين، بل إن موجات التحول العالمي التي ساعد في هندستها، لا تزال آثارها قائمة بعد 30 عاماً كما ظهرت في الهجوم الروسي على أوكرانيا في محاولة لعكس اتجاه فقدان المكانة الذي شعرت به روسيا بسبب تفكك الاتحاد السوفياتي الذي اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين".

إعلان ذو مغزى

بمجرد أن نشرت وسائل الإعلام الروسية خبر وفاة ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للاتحاد السوفياتي عن عمر ناهز 91 عاماً، سارعت شركة "بيتزا هت" إلى بث إعلان تجاري على موقع "تويتر" بطله الحقيقي غورباتشوف الذي كان يمر بضائقة مالية آنذاك، لكنه يعكس انقسام الآراء حول إرث الزعيم السابق، فالإعلان الذي يعود إلى عام 1997 ولم يُبث في روسيا مطلقاً، يكشف الجدل الدائر حوله كرجل يُنظر إليه على أنه بطل في الغرب وشرير في روسيا، بينما البيتزا هي أحد الأطعمة التي تجمع الناس معاً داخل المطعم وتجسر اختلافاتهم.

وبحسب ما قالت أستاذة اللغة الروسية بجامعة كاليفورنيا جيني كامينر، لصحيفة "واشنطن بوست"، فإن الإعلان يعكس إرث غورباتشوف المعقد والطريقة التي شهدت بها الأجيال المختلفة انهيار الاتحاد السوفياتي، فبالنسبة للبعض، جلبت سياسات غورباتشوف وعداً بالحرية الاقتصادية عبر الإجراءات المزدوجة المتمثلة في الغلاسنوست (الانفتاح وإنهاء الرقابة وإدخال حرية التعبير والصحافة)، والبريسترويكا (إعادة بناء وهيكلة النظام السياسي والاقتصادي)، لكن بالنسبة للآخرين الذين لم يتمكنوا من التكيف مع التحول السريع إلى اقتصاد السوق، فإن ذلك كان يعني الفقر المدقع، وانعدام الأمن، وفقدان الكرامة بشكل مذل.

ستالين أفضل

ويتفق أستاذ السياسة الروسية في جامعة أريزونا بات ويلرتون في أن الروس نظروا إلى غورباتشوف على أن جهوده أدت إلى انهيار البلاد، وتسريع وضع سياسي واجتماعي واقتصادي متدهور بالفعل، واعتبروه زعيماً ساذجاً في طريقة تعامله مع الغرب، وشعروا أن الغرب استفاد استفادة كاملة من الجهود التي بذلها، وأنه وضع الاتحاد السوفياتي في موقع قوة أدنى.

وحتى قبل وفاة غورباتشوف، وجد استطلاع أجراه مركز "بيو للأبحاث" عام 2017 أن أكثر من ثلثي الروس قالوا، إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أمراً سيئاً، بل إن 58 في المئة من الروس الذين شملهم الاستطلاع، كان تقييمهم إيجابياً إزاء الزعيم جوزيف ستالين على الرغم من قبضته الحديدية وحملات الاعتقال الرهيبة التي لطخت عصره، في حين أن 22 في المئة قيموا غورباتشوف إيجاباً على الرغم من سياسات الانفتاح التي انتهجها.

بطل في الغرب

ومع ذلك، فإن الغرب كان ولا يزال ينظر إلى غورباتشوف كبطل، حيث كتب ديفيد هوفمان في صحيفة "واشنطن بوست"، أن "انهيار السوفياتي لم يكن هدف غورباتشوف، لكنه قد يكون أعظم إرث له، لأنه أنهى تجربة استمرت سبعة عقود، ولِدت من المثالية لكنها أدت إلى واحدة من أكثر المعاناة الإنسانية دموية في القرن العشرين".

امتدح الغرب إنجازاته في السياسة الخارجية، مثل الانسحاب من الحرب في أفغانستان، وتحرير الدول التابعة للاتحاد السوفياتي في شرق أوروبا ووسطها، وتقليص عدد الأسلحة النووية، على الرغم من معارضة رفاقه المقربين في الداخل، لا سيما في الجيش وجهاز أمن الدولة (كيه جي بي) الذين أُصيبوا بالفزع من استسلامه وما اعتبروه تخلياً عن مكاسب السوفيات من الانتصار على الفاشية في الحرب العالمية الثانية.

وإلى جانب الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، كان غورباتشوف بطلاً رئيساً في دراما الأحداث العالمية التي اعتقد كثيرون أنها مستحيلة، فتحت حكم غورباتشوف، انهار جدار برلين، وتم إطلاق سراح آلاف السجناء السياسيين، وتذوق ملايين الأشخاص الذين لم يعرفوا سوى الشيوعية طعم الحرية الحقيقي لأول مرة، لكنه لم يكن قادراً على السيطرة على القوى التي أطلق العنان لها، وفي النهاية خاض معركة خاسرة لإنقاذ إمبراطورية منهارة.

من ذئب إلى حمل

وبحسب أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في جامعة ميشيغان رونالد سوني، فإن الصورة الإيجابية حول غورباتشوف سبقها قدر من الشكوك الغربية، فعندما وصل إلى السلطة لأول مرة، كان يُخشى من أنه ذئب في ثياب حمل، ومُصلح غير مخلص كونه في الحقيقة شيوعياً متشدداً، لكن غورباتشوف تمكن من إقناع المتشككين في الخارج بصدقه، ووجدت تاتشر فيه شخصاً يمكنها التعامل معه، ثم من خلالها، توصل ريغان إلى وجهة نظر مفادها أن غورباتشوف كان بالفعل يفكك نظام القيادة السوفياتي، قبل أن تتطور المخاوف المبكرة في الغرب إلى قلق بشأن بقاء غورباتشوف، عندما شرع في مشروعه كإصلاحي يطمح إلى أن يكون ثورياً من أعلى السلطة، يريد تحرير بلاده وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها لإنقاذ الاشتراكية.

لكن في هذه العملية، انتهى به الأمر إلى تقويض الاشتراكية كبديل رئيس للرأسمالية الغربية النيوليبرالية، بعدما تجاوزت إصلاحاته المتسرعة لتحديث الاتحاد السوفياتي، التطورات الجارية على الأرض التي شهدت سقوط المشروع الاشتراكي، لتحل محله حقبة جديدة في روسيا تميزت بالنزعة القومية المتنامية وعودة الاستبداد.

غير العالم

أما اليوم، فقد عكست كلمات تأبينه قدراً واسعاً من التقدير والاحترام لشخص غورباتشوف، إذ أشاد به القادة الغربيون، باعتباره زعيماً نادراً غير العالم وجلب الأمل في السلام بين القوى العظمى، فاعتبر الرئيس الأميركي بايدن أن غورباتشوف الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عام 1990 لدوره في إنهاء الحرب الباردة، كان لديه الخيال ليرى أن مستقبلاً مختلفاً كان ممكناً وتمتع بالشجاعة وخاطر بحياته المهنية بأكملها لتحقيق ذلك وكانت النتيجة عالماً أكثر أماناً.

وفي ألمانيا، حيث يُعتبر غورباتشوف أحد آباء إعادة توحيد البلاد عام 1990 ويُشار إليه باسم "غوربي"، فقد حيته المستشارة السابقة أنغيلا ميركل باعتباره سياسياً عالمياً فريداً، جسد كيف يمكن لرجل دولة واحد أن يغير العالم إلى الأفضل. أما ليخ فاليسا، زعيم حركة التضامن البولندية المؤيدة للديمقراطية في الثمانينيات ورئيس البلاد منذ عام 1990 وحتى عام 1995، فأبدى إعجابه به وإن لم يتمكن من فهمه لأنه كان يعتقد بإمكانية إصلاح الشيوعية بينما كان يُعلَم أن الاتحاد السوفياتي لن يستمر لفترة أطول.

هل أخطأ غورباتشوف؟

على الرغم من أن غورباتشوف الذي ولِد عام 1931 في جنوب روسيا لأبوين من الفلاحين، علم بأهوال القمع الستاليني من أجداده، وكان يعرف أمراض النظام من البيروقراطية المتعفنة التي تخدم مصالحها الذاتية، وقمع حرية التعبير، والإنفاق العسكري المتضخم، ونقص المبادرة والإنتاجية للعمال والفلاحين، إلا أنه كان عازماً بشكل استثنائي، على فكرة إصلاح الشيوعية من أعلى، وبعدما درس القانون في جامعة موسكو الحكومية، وبدأ في صعود مطرد كمسؤول في الحزب الشيوعي إلى أن وصل إلى أعلى منصب كسكرتير عام للحزب في عام 1985، شرع في برنامجه الإصلاحي المتمحور حول "بيريسترويكا وغلاسنوست"، لكن منذ البداية، ثبت أن الإصلاحات الاقتصادية معيبة في وقت عانى فيه من مشاكل ضخمة، بما في ذلك انخفاض الأسعار العالمية للنفط الذي يُعد أكبر مصدر للعملات الأجنبية في الاتحاد السوفياتي، والزلزال المدمر في أرمينيا وكارثة تشيرنوبل النووية، ما أدى إلى إفقار البلاد وتآكل شعبية غورباتشوف في الداخل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي عهد غورباتشوف، تراجع الاتحاد السوفياتي بسرعة إلى دولة ضعيفة بشكل مثير للشفقة، بعدما كانت صورته في الغرب خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، قوة عظمى شيوعية عملاقة مسلحة نووياً، ودولة ثورية توسعية، تهدد العالم الحر بشكل خطير، وحتى عندما سمح بتوحيد الدولتين الألمانيتين، اللتين انفصلتا خلال الحرب الباردة بواسطة جدار برلين إلى قطاع غربي وقطاع شرقي يسيطر عليه الاتحاد السوفياتي، لم يحقق مكاسب من الصفقة.

وعلاوة على ذلك، ظن غورباتشوف بشكل خطأ، أن لديه اتفاقاً ثابتاً مع الولايات المتحدة وألمانيا بعدم توسع حلف الناتو شبراً واحداً نحو الشرق، لكنه فشل في الحصول على اتفاق مكتوب بذلك، ونتيجة لذلك تجاهل الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون احتجاجات خليفة غورباتشوف، الرئيس الروسي بوريس يلتسين، واستجاب لرغبات دول أوروبا الشرقية في الانضمام إلى التحالف الغربي، مستغلاً ضعف روسيا.

معضلة الثورة من أعلى

وبحلول أواخر الثمانينيات، وقع غورباتشوف بين نخبة محافظة تخشى التغيير من جهة، ومتحمسين للديمقراطية، يطالبون بتغيير جذري بقيادة خصمه يلتسين من جهة أخرى، لكن الراحل واجه بصفته رئيساً للحكومة، معضلة لا يمكن حلها، وهي كيفية تحقيق الغايات الديمقراطية التي أرادها من دون اللجوء إلى وسائل القوة والعنف غير الديمقراطية. وباستثناء حالات نادرة، لم يكن استخدام القوة المسلحة للحفاظ على النظام أو إنقاذ الاتحاد، فعالاً ضد المقاومة القومية في العديد من الجمهوريات غير الروسية مثل أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا، وليتوانيا.

وحين تمت الموافقة بأغلبية ثلاثة أرباع الذين صوتوا في استفتاء مارس (آذار) 1991، على خططه لتحويل الإمبراطورية السوفياتية، حيث تهيمن جنسية واحدة على الشعوب التابعة، إلى اتحاد ديمقراطي حقيقي من الدول المتساوية، تعثرت الخطة بعد بضعة أشهر حين نظم بعض جنرالاته وعملاء الشرطة السرية انقلاباً ضده.

وعلى الرغم من فشل الانقلاب، فإن الفائز في المواجهة التي استمرت 3 أيام لم يكن غورباتشوف، بل يلتسين الذي عمل بسرعة على خطة مع قادة أوكرانيا وبيلاروس لتفكيك الاتحاد السوفياتي وإلغاء رئاسة غورباتشوف في أوائل ديسمبر (كانون الأول) 1991 لينتهي بذلك العالم السوفياتي عبر تأسيس كومنولث دول مستقلة ضعيفة وغير فعالة، لا دور لغورباتشوف فيها.

حسابات متسرعة

كانت ثورة غورباتشوف من أعلى تعتمد منذ بدايتها على دعاة الإصلاح الذين يمنعون النخب المحافظة من تقويض برنامجه، والأهم من ذلك أنه حاول حشد المثقفين، لكن معظم الكتاب والأكاديميين تخلوا عن الأساليب التدريجية من أجل تحول أسرع. وأثناء إطلاق العنان للاستياء المكبوت والسخط المتفاقم في المجتمع السوفياتي، قلل غورباتشوف من قدرته على السيطرة على الثورة المتنامية من أسفل.

ووفقاً لتحليلات متخصصين غربيين في الشأن الروسي، أدى تحرير المجال العام إلى إضراب عمال المناجم وإثارة غضب المستهلكين وأصحاب الامتيازات الحاكمة وأعطى صوتاً عنيفاً لسخط غير الروس المكبوت في مختلف الجمهوريات المكونة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وفي نهاية المطاف، تفككت الإمبراطورية السوفياتية، ليس من انتفاضة شعبية ضخمة من أسفل، كما يتصور كثير في الغرب، ولكن من الأخطاء والاقتتال السياسي في القمة، ما أضعف تدريجاً سلطة المركز.

وبينما حاول غورباتشوف أن يفعل الكثير وبسرعة كبيرة من دون موارد كافية لتحقيق أهدافه، أدى ضعفه وتردده بحلول عام 1990، إلى إخراج الثورة عن مسارها من الأعلى، فقد وسع الحرية للملايين لكنه أطلق في ذات الوقت موجات قومية هائجة وترك التربة المقلوبة جاهزة لجميع الاحتمالات.

 

المزيد من تحلیل