Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بطل الباكستاني محسن حميد الأبيض يستيقظ... رجلا أسود

في روايته الجديدة يهجو مفهوم الهوية العرقية ويواجه التقاليد الصلبة

الكاتب الباكستاني البريطاني محسن حميد (صفحة الكاتب - فيسبوك)

جميعنا يعرف رواية فرانز كافكا "المسخ"، التي تبدأ باستيقاظ بطلها يوماً في جلد حشرة عملاقة في روايته الخامسة والجديدة، "آخر رجل أبيض"، التي صدرت حديثاً في نيويورك عن دار "بنغوين راندوم"، لا يبتعد الكاتب الباكستاني- البريطاني محسن حميد كثيراً عن هذا المدخل لأن بطلها الشاب الأبيض أندرس، يستيقظ بدوره يوماً ليجد أنه قد تحول، لكن لا إلى حشرة بل إلى رجل أسود.

لمن لم يقرأ بعد هذا الكاتب المهم نشير بداية إلى أنه روائي التبدل واللاثبات بامتياز، كما يتجلى ذلك في جميع أعماله السابقة، وخصوصاً في "الخروج غرباً" (2017)، ولا عجب في ذلك، ففي مقال له صدر في صحيفة "الغارديان" البريطانية دعا إلى رواية راديكالية في جانبها الخرافي لكن ملتزمة سياسياً، من شأنها مضاهاة كل الجنون والحكمة اللذين يمكن أن يجتمعا داخلنا ويميزا سلوكنا كأفراد ومجتمعات وثقافات وأمم، دعوة تفسر وقوع جميع رواياته على الجانب الآخر من المعقول، وتشكيلها بذلك استعارات قوية عن حال عالمنا وعيوبه، روايات توفر أيضاً بسيناريوهاتها السوريالية، تلك الرؤية غير المتوقعة التي نحتاج إليها كي نتغير ونتجاوز المشكلات التي نتخبط فيها، وغالباً ما تكون من صنع يدنا.

إضطراب التحول

في مطلع "آخر رجل أبيض"، نرى بطلها أندرس يلكم المرآة تحت وقع صدمة تحوله لكشفها له الإنسان المجهول وغير المرغوب الذي بات عليه، ولحسن حظه تعود صديقته القديمة أونا في هذه الأثناء إلى بلدتهما، التي تعمد الكاتب عدم تسميتها، لكنها تشبه في طبيعة سكانها وظروف الحياة فيها بلدات كثيرة في وسط الولايات المتحدة، إذ سينقلب عالمه رأساً على عقب إثر ما جرى له، فيقبع في منزله، وحين يضطر إلى الخروج، يغطي رأسه بقلنسوة ويخفي وجهه خلف نظارة شمسية، بالتالي يكتم مسألة تحوله على الجميع، باستثناء أونا التي لا تصدم بوضعه الجديد بقدر ما تفتن به. وفي الواقع، ستلهيها محنة صديقها عن محنتها الخاصة التي تتمثل في فقدانها شقيقها التوأم إثر جرعة فائضة من المخدرات، بعد فقدان والدها، واضطرارها إلى الاهتمام بأمها المهووسة بما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي.

 

ومع أن اسوداد جلدته يشكل لأندرس تذكيراً جسدياً ثابتاً له بأنه لم يعد كما كان من قبل، لكن التغيير الأكبر الذي سيختبره يحدث داخله، إذ ها هو يعي الآن بشكل حاد ما تعنيه الغيرية، فيتأمل ملياً وبقلق طريقة سيره بين أبناء بلدته، وطريقة مشاركته إياهم الفضاء نفسه. ولذلك، حين يعود إلى عمله نراه يهتم عن كثب وللمرة الأولى، بزميله الأسود الوحيد ويرغب في محاورته وطرح الأسئلة الطارئة عليه التي باتت تقض مضجعه.

لكن أندرس لن يبقى طويلاً الشخص الوحيد الذي يتأمل في الأسئلة المذكورة. فتدريجياً يخضع كثير من سكان بلدته للتحول نفسه، الأمر الذي يغير أيضاً جوها العام، إذ سينزل نشطاء مسلحون إلى الشارع للاحتجاج على أن بلدتهم صارت "مكاناً مختلفاً، مع كل هؤلاء الأشخاص السود الذين أصبحوا أكثر من سكانها البيض". وبينما تتصاعد حدة العنف رداً على اسوداد بشرة أبناء البلدة يرى بعضهم في هذه التحولات تلك إطاحة النظام القائم التي لطالما خشوا حصولها، ويدعون إلى مقاومتها بجميع الوسائل، لكن لدى كثيرين من بينهم، مثل والد أندرس ووالدة أونا، لا يلبث شعورهم بضياع عميق من جراء ما حصل أن يدخل في صراع مع حبهم لأولادهم الذين صاروا من عداد الطائفة السوداء.

الأحكام العرقية

ومع تعمق الرابط الذي يجمع أندرس وأونا ومرور الزمن، يأخذ هذا التحول في البلدة، والبلاد عموماً، صبغة مختلفة، ويصبح فرصة لولادة جديدة، لتقبل الناس بعضهم بعضاً والتمتع بعالم مجرد من الأحكام المسبقة العرقية، ولا عجب في ذلك، فحين يتوفى والد أندرس، تفقد البلدة الرجل الأبيض الأخير الذي كان متبقياً فيها، ويفقد سكانها شيئاً فشيئاً ذكرى بشرتهم البيضاء...

وتجدر الإشارة هنا إلى أن فكرة التحول العرقي ليست جديدة في الأدب، إذ لطالما استخدمها الروائيون السود لانتقاد مفهوم الهوية العرقية، فمن رواية "نهاية السود" (Black no more) الهجائية لجورج شويلر، إلى رواية "إمحاء" (Erasure) المعتمة والساخرة لبرسيفال إيفيريت، مروراً بروايات كثيرة غيرهما لا مجال لذكرها هنا، استخدمت المقاربات الخيالية للعرق بغية كشف مدى عبثية السلطة التي يمارسها هذا التشييد، أو بالأحرى التقسيم والتمييز، الاجتماعي السخيف. وضمن هذا الإرث تندرج "الرجل الأبيض الأخير"، بحثها قارئها على التأمل في كيف أن شيئاً سطحياً مثل لون البشرة يحدد- ويقيد- سلوكنا تجاه الآخر ونظرتنا إليه وإلى أنفسنا.

وفعلاً، يعزز صاحبها، بنثره الغنائي والطارئ، قدرتنا على التعاطف مع الآخرين، مهما كان جنسهم، ويرتقي بنا فوق مشاعر التعصب والخوف والغضب التي ينجبها السؤال العرقي، مانحاً إيانا قصة ذات طابع استفزازي تطرح باستمرار أسئلة العدالة العرقية والاجتماعية، ولعل أفضل مثال على نجاعة فضحه عبثية التشييد العرقي، المقطع التالي الذي نقرأه داخل نصه: "سمع أندرس بتقرير عن رجل أبيض انتحر في حديقة منزله بعد اسوداد بشرته، وعن جاره الذي اتصل فوراً بالشرطة لاعتقاده أن الرجل الأسود الممدد في الحديقة كان يحاول مهاجمة منزل جاره، وحين تم التعرف إلى حقيقة الجثة، كتب رجال الشرطة في تقريرهم: رجل أبيض أطلق فعلاً النار على رجل أسود، لكن الرجل الأبيض والرجل الأسود شخص واحد".

لكن أكثر ما يمسنا ويفتننا في رواية حميد الجديدة ليس الموضوع العرقي، على الرغم من مركزيته وألمعية مقاربته له، بل تلك الصفحات الغزيرة داخلها التي يرصدها لوصف الجانب الشخصي من حياة شخصياته: الحميمية المتنامية بين أندرس وأونا، الديناميكية المتحولة لعلاقة كل منهما بذويه، وخصوصاً آثار الفقدان المتناولة عن طريق مشاهد لا تحصى من معاش هاتين الشخصيتين اللتين تعانيان من وفاة أحد الوالدين الحديثة، مشاهد مصورة بحساسية ومعرفة نادرتين، لعل أبرزها المشهد الذي نرى فيه والد أندرس يقترب من الموت ويعانقه كفعل أبوة أخير.

ولا يكتمل عرضنا لهذه الرواية الآسرة من دون الإشارة إلى أنها تضطلع، مثل جميع روايات حميد السابقة، ببرنامج إضافي، إذ لا تكتفي بزعزعة مخيلاتنا المسمومة والسامة، بل تزعزع أيضاً المفاهيم التقليدية للنوع الروائي بالذات، عبر تلاعبها الحاذق بالأعراف السردية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة