Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي الأميركي ستيفن كينغ يوظف القوة الخارقة "في وقت لاحق"

 الابن يدفع أثماناً باهظة ليتمتع بالقدرة على محادثة الغائبين

الروائي الأميركي ستيفن كينغ (الدار العربية للعلوم)

لا يشذ الروائي الأميركي ستيفن كينغ في روايته التاسعة عشرة "في وقت لاحق"، الصادرة في ترجمة عربية (الدار العربية للعلوم ناشرون) عن رواياته الأخرى في اتخاذها من الخوارق مادة أولية لها، يقوم الروائي بتشكيلها وابتكار عالم روائي مفارق للعالم الواقعي، يطغى فيه المتخيل الغرائبي على الوقائع المروية، وتتجاور فيه الواقعية والواقعية السحرية والبوليسية وأجواء الرعب. وفي هذا العالم المتخيل نتعرف إلى الإنسان في مواجهة المواقف الغريبة وآليات استجابته لها والأثمان التي يدفعها في هذه المواجهة. على أن القوة الخارقة وآلية الاستجابة لها والثمن المدفوع بسببها، تختلف من رواية إلى أخرى.

تتمثل القوة الخارقة في رواية "في وقت لاحق" في القدرة على التحدث إلى الأموات الحديثي الموت، وتتجسد في الابن جيمي كونكلين منذ نعومة أظفاره وتترتب عليها نتائج خطيرة، إيجابية وسلبية تؤثر عليه وعلى المحيطين به بشكل أو بآخر. وبذلك تكون القوة الخارقة قيمة مضافة لصاحبها وعبئاً عليه، في الوقت نفسه تبعاً لوجهة استخدامها والجهة المستهدفة بذلك الاستخدام. وينجم عن الاستخدامات المتكررة لها مجموعة من الوقائع تشكل العمود الفقري للرواية. وتنخرط فيها مجموعة شخصيات من موقع الفاعل فيها أو المنفعل بها، أبرزها شخصيتا الأم والوكيلة الأدبية تي كونكلين وصديقتها الشرطية ليز داتون وبينهما الابن جيمي كونكلين الذي يسند إليه الروائي مهمة الروي، ناهيك بشخصيات أخرى فرعية تلعب أدواراً ثانوية غير أنها لا غنى عنها لاستكمال المشهد الروائي العام.

 شبكة علائقية

 تدور الأحداث في نيويورك بين عامي 2008 و2010، ويلعب جيمي كولكين، الطفل الذي يجهل أباه ويتعلق بأمه تعويضاً عن هذا الجهل ويحس بالمسؤولية منذ الصغر ويمتلك قدرة خارقة، دوراً محورياً فيها، ويتموضع بين أم تعجب به وتخشى عليه، وصديقتها الشرطية التي تشكك به وتخيفه وتستغله. ويتعالق هذا الثلاثي في شبكة علائقية تشكل محور الأحداث في الرواية، فالعلاقة بين الأم وابنها تقوم على الحب والتعلق والإعجاب، والعلاقة بين الأم وصديقتها مثلية يختلط فيها الجنس والصداقة والخصومة، والعلاقة بين الابن والصديقة تقوم على الشك والخوف والاستغلال. وتتمحور العلاقات بين الشخصيات الثلاث حول القدرة الخارقة التي يتمتع بها جيمي، ويختلف توظيف هذه القدرة من شخصية إلى أخرى، فتلجأ الأم مكرهة إلى استثمارها، وتتعمد الصديقة استغلالها لأغراض في نفسها، ويضطر الابن إلى تحمل تبعات قدرته الخارقة ودفع الأثمان الغالية من طفولته واستقراره وأمنه. وهكذا، يتم توظيف القدرة نفسها في الخير والشر، تبعاً لغايات الموظف وأهدافه ويكون لكل توظيف مساره ومصيره.

 استثمار القوة

 تستثمر الأم الوكيلة الأدبية قدرة ابنها الخارقة في التكلم مع الموتى الحديثي الوفاة، بعد إفلاس الاعتماد الذي توظف فيه أموال الأسرة جراء فوضوية الخال هاري المصاب بالزهايمر، فتطلب منه التحدث إلى الكاتب ريغيس توماس الحديث الوفاة ليروي له الجزء الأخير من سلسلته الروائية، فيفعل ويملي على أمه في ساعة كتاباً يتطلب شهوراً لإنجازه، فتنشره منسوباً إلى صاحبه، وتدفع به إلى القراء الذين ينتظرونه على أحر من الجمر. وهنا يتم استخدام القدرة الخارقة لخير الأم ووكالتها، فتحقق غاية مشروعة بوسيلة غير مشروعة، وتنقذ وكالتها من الإفلاس.

 تستغل الصديقة ليز داتون الشرطية الفاسدة التي تسعى إلى ترميم وضعها الوظيفي قدرة جيمي الخارقة، فتجبره على استجواب الإرهابي ثيريولت الذي زرع 30 متفجرة لمعرفة مكان زرع متفجرته الأخيرة فيفعل، وتقوم هي بإبلاغ الشرطة التي تعثر على المتفجرة وتقوم بتفكيكها وينجو العشرات من مصير محتوم. وهنا يتم استخدام القدرة الخارقة في الخير العام من حيث كانت المستغلة تهدف إلى تحقيق خيرها الخاص. غير أن الاستغلال الأبشع لتلك القدرة يتحقق حين تقوم ليز باختطاف جيمي وتجبره على استجواب دونالد مارسدن، شريكها في تجارة المخدرات الذي عذبته حتى الموت، عن مكان إخفاء شحنة الحبوب المخدرة حتى إذا ما فعل تحت وطأة التهديد، تحاول التخلص منه، غير أن استخدامه قوته الخارقة ينقذه من مصير محتوم تقع هي فيه. وهنا، ينقلب السحر على الساحر وتنعكس تلك القوة شراً على الشرطية الفاسدة وخيراً على صاحبها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 يدفع الابن أثماناً باهظة لتمتعه بالقدرة على محادثة الأموات، فالإرهابي ثيريولت الذي فوت عليه فرصة التمتع بتفجيره الأخير قبل انتحاره، يطارده من مكان إلى آخر ويتربص به ويهدده، حتى إذا ما عمل بنصيحة صديقه البروفيسور بوركيت ينجح في ترويضه واستخدامه في مصلحته، وحين يستنجد به خلال محاولة الصديقة التخلص منه يهب إلى نجدته، ويبدي استعداده الدائم لذلك. غير أن الثمن الأبهظ الذي يدفعه جيمي يتمثل في اكتشاف هوية أبيه الحقيقي الذي حاولت الأم إخفاءها عنه، فحين يقوم بالتحدث إلى خاله بعد وفاته يكتشف أنه هو الأب، وأنه ثمرة زنا المحارم وعلاقة غير مشروعة بين أمه وخاله. وهنا يفاجئنا الروائي بانعطافة مباغتة في مجرى الرواية لم ترهص بها الأحداث السابقة، ويتوج روايته بصدمة أخيرة تضاف إلى الصدمات السابقة.

 العلاقة الداخلية

 لعل كسر نمطية التعاقب الزمني الذي اعتمده الروائي ينسحب على العلاقة الداخلية بين الأحداث، فيتم كسر التعاقب جزئياً باستعادة وقائع من الماضي أو بالوعد بوقائع من المستقبل، بتكرار عبارة "في وقت لاحق" وتنويعاتها. وهي العبارة التي يتخذها الكاتب عنواناً لروايته، وهو يفعل ذلك في نوع من الالتفات البلاغي الذي يزيل الحاجز النفسي بين الكاتب والقارئ ويبني بينهما جسراً من الثقة، يجعل القارئ يتفاعل مع النص المقروء، ويمضي مع الكاتب حتى النهاية. ولعل هذه التقنيات هي التي تجعل الروائي أحد الروائيين الأكثر مقروئية حول العالم، وتجعل رواياته تتصدر قوائم الروايات الأكثر مبيعاً في الصحف العالمية.

"في وقت لاحق" رواية تعكس آليات استجابة الإنسان للمواقف الغريبة التي يوضع فيها، وكيفيات توظيفها في مصلحته الخاصة، وقدرته على تحمل الأعباء الثقيلة ودفع الأثمان الباهظة. وإذا  كانت الفائدة منها محدودة لعدم طرحها الأسئلة الكبرى التي تشغل الإنسان في هذه اللحظة التاريخية، فإن وفرة المتعة فيها تعوض عن محدودية الفائدة لا سيما باشتمالها على هذه الخلطة الروائية العجيبة الغريبة، بحيث تقيم علاقة حسن جوار بين مجموعة من المكونات المتنافرة، فتتجاور فيها الواقعية والواقعية السحرية والبوليسية وأجواء الرعب في الحيز الورقي نفسه، وتجذب القارئ إلى حقلها المغناطيسي فلا يملك منه فكاكاً إلا بعد الإتيان على نهايتها.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة