يعتقد أكثر من سياسي في لبنان أن احتمال التصعيد العسكري الذي يلوح في الأفق بين إسرائيل و"حزب الله" ليس خياراً قد يقدم عليه الحزب وحده فيكون المبادر إليه، بسبب التهديدات التي أطلقها بمنع الدولة العبرية من استخراج الغاز من حقل "كاريش" في مطلع سبتمبر (أيلول) المقبل، بل إن إسرائيل قد تكون في وضعية السعي إلى عمل عسكري ما، إذا فشلت المفاوضات التي يقودها الوسيط الأميركي كبير مستشاري وزارة الخارجية لشؤون الطاقة أيموس هوكستين.
لكن مخاوف من هذا النوع تبددها أوساط متابعة لمواقف "حزب الله" وإسرائيل والولايات المتحدة وترى أن الخشية من مواجهة عسكرية باتت جزءاً من عملية الرقص على حافة الهاوية التي ترافق المفاوضات الجارية على قدم وساق، وأن مفتاح الحلول السلمية للخلاف على ترسيم الحدود البحرية يبقى في يد واشنطن التي ليس من مصلحتها أي انزلاق إلى مواجهة عسكرية من قبل إسرائيل و"حزب الله". فهي لا تريد أي حرب في وقت ينصب اهتمامها على الحرب في أوكرانيا وتجييش الدول ضد روسيا، وليس من مصلحتها حصول حرب أخرى تشغلها.
أبعاد تتخطى الخلاف على الترسيم
وفي اعتقاد المتخوفين من أن تبادر تل أبيب إلى عمل عسكري، أن استمرار "حزب الله" بالتهديد بمنع إسرائيل من استخراج الغاز الذي يسعى الغرب إلى أن يكون بديلاً عن الغاز الروسي، هو ذريعة تتخطى الخلاف بين لبنان وإسرائيل، وأن الأمر متعلق بالمواجهة الأميركية- الإيرانية بفعل انسداد أفق التفاوض على الاتفاق النووي ورفع العقوبات الأميركية عن طهران وعن "حرس الثورة". فإطلاق "الحزب" المسيرات في 2 يوليو (تموز) الماضي نحو حقل "كاريش" الإسرائيلي، رسالة تنبه دول الغرب إلى أن أمن شواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط، بات مطروحاً على بساط البحث بحسب متابعين للمعادلة الإقليمية. فللخطوة أبعاد تتخطى في رأي هؤلاء، الخلاف بين لبنان وإسرائيل الذي يسعى هوكستين إلى إنهائه لنزع فتيل التفجير. ويضيف هؤلاء أن "امتلاك تنظيم مدرب مثل "حزب الله" ويوالي طهران التي سبق أن استخدمت المسيرات عبر الحوثيين، وأحياناً بطريقة مباشرة انطلاقاً من أراضيها، حين اتُهمت بإطلاق مسيرات تحمل مواد متفجرة لاستهداف مواقع أميركية في العراق قيل إنها انطلقت من أراض إيرانية، مسألة يصعب التغاضي عنها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، لأنها تفتح العيون على إمكان استهداف دول متوسطية أخرى في حال اقتضت المصلحة الإيرانية ذلك.
تهديد الملاحة والغاز واحتمال الضربة الاستباقية
بل إن أصحاب هذه المخاوف يلفتون إلى أن "طهران باتت جزءاً من حلف مع موسكو قد يلجأ إلى محاربة أميركا وحلفائها في أي مكان قد تسنح ظروف المواجهة فيه، لا سيما في ظل حرب الطاقة المستعرة على الصعيد العالمي". ويسأل هؤلاء "إذا كان حزب الله تمكن من إطلاق مسيرات نحو الشاطئ الإسرائيلي، فهذا يعني حكماً أن إطلاق مسيرات نحو شواطئ دول متوسطية أخرى ممكن نظرياً أيضاً. وبهذا المعنى فإن شواطئ دول مثل قبرص واليونان وتركيا ومصر مثلاً يمكن أن تكون تحت مرمى سلاح من هذا النوع، ما يعني أنه سلاح يمكن أن يهدد أمن الملاحة في البحر الأبيض المتوسط وكذلك منابع الغاز، إذا اقتضت ظروف المواجهة بين معسكرين. وهذا على الرغم من أنه ليس مطروحاً في الظروف الراهنة، لكن الدول لا تستبعد من حساباتها مخاطر استراتيجية بعيدة المدى من هذا النوع، ويقود إلى الاستنتاج أن مسيرات الحزب خرقت خطوطاً حمراء، وقد يتكرر ذلك".
ويلفت مراقبون في هذا السياق إلى أن هذه المخاوف تفضي إلى التساؤل عما إذا كانت إسرائيل يمكن أن تلجأ إلى ضربة استباقية ضد "حزب الله"، فلا تنتظر أن يبادر إلى استهداف منصة استخراج الغاز ومواقع أخرى كما هدد.
تمرين أميركي بريطاني أردني مع الجيش اللبناني
كما أن هؤلاء المراقبين، وعلى الرغم من اعتقادهم بأن هذه الاحتمالات غير داهمة في الظروف الراهنة، فإن الأمن في المتوسط يدخل في حسابات التحركات العسكرية لواشنطن، في شكل يصعب تصور إقدام طهران وأدواتها على أي عمل يهدد المنطقة. وبقدر تصاعد الصراع بين طهران وتحالف إسرائيل وأميركا، فإن الأخيرة تزود الدولة العبرية بكل الإمكانات العسكرية لمواجهة الاحتمالات القصوى كما ظهر من خلال زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل منتصف الشهر الماضي من جهة، وتقيم شبكة من التحالفات العسكرية والأمنية في شرق المتوسط، تشمل لبنان من جهة ثانية. وتشير في هذا الصدد إلى أنه بموازاة تهديدات "حزب الله"، صودف إجراء تدريبات بحرية بين الجيشين الأميركي واللبناني تتم سنوياً، فحصلت في 12 يوليو (تموز)، بعد 10 أيام على إطلاق "الحزب" مسيراته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وللتذكير فإن القيادة المركزية للقوات البحرية الأميركية (NAVCENT) والجيش اللبناني، قاما بتمرين "الاتحاد الحازم 2022"، لمدة أسبوعين في المياه الإقليمية اللبنانية. ويركز التمرين السنوي على عمليات الأمن البحري وإجراءات مكافحة الألغام والتخلص من الذخائر المتفجرة. وأوضحت السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا، أنه "على مدى 22 سنة، أسست مناورات الاتحاد الحازم تعاوناً بين قواتنا المسلحة وضمنت استعداد الجيش اللبناني لتنفيذ مهمته".
وأشار الأدميرال براد كوبر، قائد القيادة المركزية للقوات البحرية الأميركية في الأسطول الخامس والقوات البحرية المشتركة، إلى أن "هذه فرصة ممتازة للعمل مع شركائنا اللبنانيين ذوي القدرات العالية وتعزيز علاقتنا، فالعمل معاً يعزز الأمن والاستقرار الإقليميين". وشارك في التمرين جنود بريطانيون وأردنيون، إضافة إلى 60 جندياً أميركياً، فيما وصلت إلى الشاطئ اللبناني، في خطوة رمزية سجلت انتهاء التمرين في 26 يوليو (تموز) الماضي، فرقاطتان حديثتان للتدخل السريع قدمتا مباشرة من الولايات المتحدة، في محطة أولى، في طريقهما للانضمام إلى الأسطول السادس المتمركز في البحرين.
والمغزى من ذكر هذه الواقعة، فضلاً عن العلاقة المتواصلة بين الجيش والقيادة العسكرية الأميركية، أن الساحة في البحر المتوسط ليست خالية لـ"الحزب" وإيران، على الرغم من نفوذهما في البلد.
القراءة المعاكسة: الأسباب لبنانية
يستدرك بعض المتابعين للمفاوضات الأميركية- الإيرانية التوقعات المرجحة للمواجهة العسكرية بالإشارة إلى أن هناك عودة إلى جلسات فيينا، وأن محاولات تفعيل هذه المفاوضات لن تتوقف لأن الجانبين يحتاجانها.
وبعيداً عن المخاوف المتصلة بتصنيف تهديدات "حزب الله" لإسرائيل، وجواب الأخيرة عبر إنذار قادتها للبنانيين بأن البلد سيشهد قصفاً غير مسبوق، يميل أصحاب القراءة المعاكسة للمخاوف المذكورة أعلاه إلى حصر التصعيد الكلامي الحاصل بأبعاده اللبنانية- الإسرائيلية، وبالبعد اللبناني الداخلي، من دون أن يعني ذلك تجاهل الأبعاد الإقليمية لاضطرار "الحزب" إلى المغامرة بإمكان حصول مواجهة مع إسرائيل. فتهديداته لها علاقة بالضغوط الأميركية المتواصلة ضده، وبتنامي الحملة عليه التي تفعل فعلها في أوساط الجمهور اللبناني العريض والتي تحمله مسؤولية ما آلت إليه الأزمة الاقتصادية المالية المعيشية الخانقة. وحسب بعض خصومه، فإنه أراد بتهديداته أن يصرف الأنظار عن تلك الحملة ضده مع بداية أفول عهد حليفه الرئيس ميشال عون والتهيؤ لانتخاب رئيس جديد، يصر خصومه على أنهم لن يقبلوا بأن يكون حليفاً له هذه المرة. فالتململ من عدم قدرة المنظومة الحاكمة، وهو أساسي فيها، على إيجاد حلول للتدهور المأساوي للأوضاع الحياتية، أخذ يظهر أكثر فأكثر في صفوف جمهوره الذي صار يتجرأ على انتقاده بسبب الحالة البائسة جراء عدم تأمين مقومات الحياة الأساسية من مياه وكهرباء وطبابة وخبز. وظهر ذلك في فيديوهات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماع ينبذ فيها نساء ورجال، نواب الحزب وقادته. وفي رأي أصحاب هذه القراءة أن "حزب الله" يريد الإيحاء بأن لولا تهديداته لما كانت إسرائيل وافقت على تسوية للحدود البحرية، بحيث يتمكن لبنان من بدء خطوات التنقيب عن الغاز والنفط، الذي سيكون له وقع نفسي وسياسي إيجابي ويعطي أملاً بإمكان إصلاح الأوضاع الاقتصادية المالية، حتى لو كان استثمار الثروة النفطية والغازية سيأخذ وقتاً.
"حزب الله" متشوق للاتفاق على الحدود؟
ومع مواصلته رفع الصوت ضد أميركا وإسرائيل، فإن المهلة التي أعلنها حتى مطلع سبتمبر (أيلول) المقبل، هي في ذات الوقت وسيلة لاستعجال الحلول. ولذلك قال أمينه العام حسن نصر الله في آخر كلمة له في 2 أغسطس (آب) الحالي، إن على الوسيط الأميركي "أن ينتبه إلى لعبة الوقت، وأنا علمت أن الرؤساء اللبنانيين (رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس البرلمان نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي) قالوا له، إنه عليه أن ينتبه إلى أن الوقت ضيق، ما يعني أنه لا توجد لعبة وقت". ومع أن وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب قال، إن بث "الحزب" فيديو من قبل إعلامه لمسيرة مع إحداثيات عن مواقع إسرائيلية تشمل حقل "كاريش" الغازي، لا علاقة للدولة به، فإن نصر الله أصر على افتعال تطابق موقفه مع الجانب الرسمي بقوله، "إن موقف الدولة والمقاومة في هذا الموضوع واحد". وبدا أنه ينتظر، بفارغ الصبر أن يأتي (الوسيط الأميركي) بجواب ما خلال أيام، وعلى ضوئه الناس تتصرف". أي أن "الحزب" يراهن على نجاح المفاوضات أكثر مما يرغب بالمواجهة العسكرية مع إسرائيل نظراً إلى كلفتها العالية على جمهوره ومناطق نفوذه. فهو ينوي تحويل أي اتفاق على الحدود البحرية مع إسرائيل إلى انتصار له، بحجة أن ضغوطه وراء تحصيل حقوق لبنان؟