Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإنترنت في زمن كورونا… ترف تكنولوجي أم حق إنساني؟

الشبكة المعلوماتية سلاح ذو حدين يخدم قوى الشر والدمار بالقدر نفسه الذي يخدم به قوى الخير والبناء فهل تصبح حقاً لكل فرد؟

هل صحيح أن الإنترنت هي إفراز جانبي لمجتمع الرفاهية؟ (غيتي)

في 2016 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تاريخياً عندما أضافت إلى البند 19 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" قراراً اعتبرت فيه الإنترنت حقاً إنسانياً أساسياً. وعلى الرغم من أن هذا القرار غير ملزم - بمعنى أنه لا يجبر الحكومات على توفير الإنترنت لمواطنيها - فهو يرمي إلى منعها من حرمان المواطنين منه. وربما كان لتطور مثل هذا أن يثير الجدل المعتاد بين مؤيد ومعارض لكون القرار "غير ملزم"، وبالتالي خالٍ من أي عقوبات على منتهكيه، لكن الزمن تكفل بإلقاء ضوء جديد على الأمر برمته بعد جائحة كورونا التي أصابت العالم كله بتعطل لا مثيل له في الأزمنة الحديثة. وعندما أغلق الفيروس الأبواب بيوتاً ومتاجر ومدارس ومكاتب ومصانع وغيرها (في العالم الميسور الحال في الأقل)، صارت شبكة الإنترنت هي أيضاً شبكة السلامة من الشلل الاقتصادي والتعليمي والمعيشي الكامل. وربما كان في هذا التطور وحده مدعاة للأمم المتحدة لأن تعيد النظر في قرار 2016 فتنقله من خانة "الاختياري" إلى "الإجباري" الذي يقف على أكتاف عقوبات صارمة لمخالفيه.

الخلفية

في 16 ديسمبر (كانون الأول) 1949 تبنت الأمم المتحدة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وهو وثيقة دولية مؤلفة من 30 مادة تؤطر الحقوق المكفولة لسائر البشر بغض النظر عن تصنيفاتهم الجغرافية والعرقية والدينية والسياسية والفكرية وغيرها. وإذا كان لا مفر من ذكر السوابق التاريخية الكبيرة المتعلقة بهذا الشأن فهناك - في التاريخ الإسلامي - "ميثاق المدينة" في عهد النبي محمد بعد استتباب الأمر له في المدينة المنورة، و"رسالة الحقوق" لعلي بن الحسين (القرن السابع الميلادي). وهناك في التاريخ الغربي "الماغنا كارتا" (وثيقة الحريات العظمى) التي اختطها جون ملك إنجلترا عام 1215 وصارت أول منابع القانون والديمقراطية اليوم.
منذ ذلك الحين مر السعي إلى الحرية بمحطات رئيسة أبرزها "إعلان الحقوق" الذي أعقب الاستقلال الأميركي (1776) وكتابات الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر. وأتى في الأولى أن كل الناس خلقوا سواسية وأن خالقهم أغدق عليهم حقوقاً عدة لا يمكن إنكارها عليهم ومنها الحياة بحرية وطلب السعادة. وأتى في الثانية تحديد حقوق الإنسان الأساسية في ثلاثة هي: الحق في الرأي وإبدائه (التعبير)، وفي التجمع، وفي فعل ما أراده الإنسان حتى إن اعترض عليه الباقون، شريطة ألا يؤذي بفعله أحداً غيره.
ثم أتى الفيلسوف الألماني هيغل (القرن التاسع عشر أيضاً) وعرض لحقوق أخرى، كلها يندرج في إطار كتاباته الموسعة عن الإرادة الحرة. وعلى الرغم من أنه أضاف إلى الحقوق الأساسية أخرى مثل الحق في ملكية العقار، والاتصال بالآخرين، والعيش مع من يرتضيه الإنسان لنفسه، وحصوله على الحماية من القانون، وعلى صوت له في أي حكومة، فمن الصعوبة بمكان الاتفاق اليوم على طائفة محددة يمكن أن يقال إنها الحاوية النهائية لحقوق الإنسان.
ولذا فأنت تجد أن حقوق جون ستيوارت ميل الثلاثة الأساسية صارت على يد الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية أربعة هي: حرية التعبير، وحرية الدين والمعتقد، والتحرر من الخوف، والتحرر من العوز. وهذه الأربعة نفسها صارت في إعلان الأمم المتحدة الصادر في 1949 طائفة واسعة من القضايا تقع تحت 30 مادة أساسية وتضمن للإنسان -نظرياً في الأقل- أن تكون ظهر من لا ظهر له وسبيله إلى الحياة الكريمة كما ينبغي الأمر لمخلوق تميز عن بقية الكائنات الحية بالعقل والوعي.

ثورة العصر

لا شيء يظل بلا تغيير، إضافة هنا وحذف هناك… لون طازج محل آخر باهت… وهكذا دواليك تبعاً للمعطيات الجديدة. فهل يوجد ما يميز عصرنا هذا أكثر من شبكة الإنترنت؟ هذا تطور لا يوجد مثيل له في التاريخ، من حيث الثورية الجذرية واتساع النطاق وسرعة المفعول، إلا اختراع العجلة في وقت ما خلال الألفية الرابعة قبل الميلاد ثم الثورة الصناعية المنطلقة من بريطانيا بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر.

على هذه الخلفية فإن السؤال المهم الذي بدأ يطرح نفسه بصوت يتعالى يوماً بعد الآخر هو: هل يمكن اعتبار الإنترنت من الحقوق الإنسانية الأساسية، مثله مثل حرية التعبير والتجمع والتنقل والديانة والانتخاب… إلى آخر القائمة؟ لمَ لا وقد أصبحت هذه القفزة التكنولوجية الجبارة، بين كل المتاح اليوم، أكبر مفاتيح المعرفة والإعلام والاتصال دعك من الالتفاف على كورونا؟ وإذا علمنا أن الإنترنت صارت أهم مستلزمات البناء الحضاري، سواء المدني أو العسكري، وتمس كل صغيرة وكبيرة بشكل مباشر أو غير مباشر، ألا يجيز هذا التطور المذهل القول إنها صارت بذلك العلامة الفارقة بين دنيانا اليوم وما كانت عليه حتى في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين؟

المقصود بالإنترنت

لنسرع أولاً إلى إيضاح مسألة مهمة تتعلق بالإنترنت كحق إنساني. فليس المقصود هو حق كل فرد في امتلاك جهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي أو لوح رقمي، وإنما توفر الشبكة العنكبوتية world wide web  إضافة إلى النطاق العريض broadband الذي يفتح الطريق للشخص الجالس إلى جهاز الكمبيوتر أو الممسك بهاتف ذكي أو لوح رقمي إلى هذه الشبكة. وبعبارة أخرى: إذا كنت قادراً على الوصول إلى كمبيوتر (بمختلف أشكاله) وقادراً على التعاطي معه صار من حقك ألا يعترض أحد طريقك إلى الشبكة الإلكترونية.

حق إنساني لماذا؟

ثمة مبررات عدة تساق إلى أن (الوصول إلى) شبكة الإنترنت حق إنساني أساسي، وأهمها ما يلي:
- أولاً، أن الإنترنت نفسها وسيلة أساسية إلى الحق في التعبير وإدلاء الرأي، والحق في التجمع والاحتجاج (كونها ساحة القرن الحادي والعشرين الإلكترونية). وهي تصبح بذلك حجر الزاوية في ما يتعلق بالحريات الشخصية في عصرنا هذا.

- ثانياً، أنها وسيلة أساسية إلى مختلف ضروب العلم. وعلى هذا النحو فهي أيضاً حجر الزاوية العصرية في المؤسسة التعليمية، بالتالي فهي تستوي مقاماً مع المدرسة. وعلى هذا الأساس الأخير تحديداً يصبح الوصول إلى شبكة الإنترنت واجباً أساسياً على كل حكومة في العالم توفيره لمواطنيها مثلما أن من واجباتها الأساسية توفير المدارس والتعليم لكل فرد.
- ثالثاً، تكتسب الشبكة قوة ضاربة من حقيقة أنها تنزع عن الحكومات احتكار الإعلام والسيطرة الكاملة على مختلف وسائله المرئية والمسموعة والمقروءة. وينشأ من هذا أن الحكومات ما عادت قادرة على التحكم في وصول الحقائق (والأكاذيب) إلى الناس فقط بالقدر وعلى النحو الذي تريد. وربما كان "ربيع العرب" مثالاً ساطعاً على السلاح الماضي الذي منحته مواقع مثل "تويتر" لـ"الإعلام الشعبي" المنعتق من الإعلام الحكومي.
- رابعاً، أن الإنترنت بين أفضل السبل في عصرنا هذا إلى التنمية الاقتصادية التي اعتبرتها الأمم المتحدة حقاً إنسانياً أساسياً بحد ذاتها. وفي الدراسات التي استندت إليها الهيئة الدولية وصولاً إلى هذا الاعتبار، يرد أن ثمار التكنولوجيا الحديثة، كالهاتف المحمول، بدلت أحوال قطاعات واسعة من الشعوب الفقيرة لأنها فتحت أبواباً عريضة إلى أشياء لم تكن متاحة من قبل كالخدمات المصرفية والتجارة الإلكترونية على سبيل المثال وليس الحصر.
ومن جهتها أصدرت جماعة "حق إنساني" غير الربحية والمعنية بترقية العالم النامي خصوصاً تقريراً جاء فيه أن 4.6 مليار شخص حول العالم لا يملكون منفذاً إلى الإنترنت حالياً، لكن تناقص هذا العدد بنسبة عشرة في المئة فقط كفيل بإحداث زيادة في إجمالي الناتج القومي المحلي وسط دول العالم الثالث بما بين 1.28 في المئة و2.5 في المئة. وقد رأينا كيف تلاعبت جائحة كورونا باقتصاد العالم فأفرغت خزائن الدول الفقيرة بالكامل فقط لأنها تفتقر إلى شبكات الإنترنت والنطاق العريض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جل العالم يقول نعم

يبدو أن مسألة الإنترنت كحق إنساني أساسي صارت رأياً تؤيده الغالبية العظمى من سكان العالم. وهذا صحيح وفقاً لخدمة "بي بي سي" العالمية التي استطلعت على مدى ثلاثة أشهر من أواخر 2009 حتى مطالع 2010 آراء قرابة 28 ألف شخص من 26 دولة حول المسألة. وتوجهت إليهم بالموافقة أو الاعتراض على أن الوصول إلى شبكة الإنترنت حق من حقوق الإنسان الأساسية. فجاءت نتيجة هذا الاستطلاع المطول كالآتي:
50 في المئة يتفقون بالكامل.
29 في المئة يتفقون إلى حد كبير.
9 في المئة يعترضون إلى حد ما.
5 في المئة يعترضون بشدة.
6 في المئة من دون رأي محدد في هذا الشأن.

ومن جهتها أجرت جمعية الإنترنت الدولية (تنضوي تحت لوائها 130 من منظمات العالم المعنية بالاتصالات وتتمتع بعضوية مسجلة من نحو 60 ألف فرد) استطلاعاً في 2012 وسط عشرة آلاف شخص من 20 دولة حول العالم، فكانت النتيجة كالآتي:
 83 في المئة يتفقون بالكامل أو إلى حد كبير.
 14 في المئة يعترضون بشدة أو إلى حد ما.
3 في المئة من دون رأي محدد في هذا الشأن.

وفي الجهة المقابلة يقول المعترضون إن الإنترنت -مثل الرعاية الصحية- إفراز جانبي لمجتمع الرفاهية. وإذا كانت الدول الفقيرة غير قادرة على توفير العلاج لمواطنيها ولا تحاسب على هذا الأمر تبعاً للقوانين الدولية، فلماذا تحاسب على عجزها أو تقاعسها عن توفير الإنترنت؟ إذاً فهي ليست بين حقوق الإنسان الأساسية. ويقولون إن هذا المنطق نفسه ينطبق على التعليم والتنمية وغيرهما مما يقال إن الإنترنت كفيلة بدفعه إلى الأمام.

المفاجأة

ثمة مفاجأة هائلة تمثلت في أن أحد آباء الإنترنت -وهو الأميركي فينت سيرف- يتصدر قائمة المعترضين على اعتبار الوصول إلى الإنترنت حقاً إنسانياً أساسياً. ويقول هذا الرائد في معرض حجته إن التكنولوجيا "تؤدي دوراً رئيساً في رفعة معيشة المجتمعات، وعلى هذا الأساس فالإنترنت حق مدني، لكنها تقف عند هذا الحد ولا ترقى في رأيي إلى اعتبارها ضمن حقوق الإنسان الأساسية".
ويعزز سيرف حجته هذه بأن معاملة الإنترنت كحق إنساني تلقي بأعباء إضافية على كاهل حكومات الدول الفقيرة التي تجاهد من أجل وفرة لقمة العيش لمواطنيها. ويمضي قائلاً إن هذه الحكومات "ليست مطالبة في المقام الأول بتوفير وسائل الاتصال الابتدائية مثل الهاتف الأرضي والهاتف المحمول. فلماذا إذاً تطالب بتوفير شبكة الإنترنت التي تستدعي بدورها إتاحة وسائل متقدمة وغالية الثمن مثل الكمبيوتر والهاتف الذكي واللوح الرقمي لكل مواطن"؟

وكما هو متوقع فقد أغضب هذا القول أولئك الذين يقولون إن اعتبار التكنولوجيا الحديثة حكراً على الأثرياء من الدول والأفراد إنما هو إغماط لحق يجب أن يتمتع به الكل بغض النظر عن المستوى المعيشي، بل إن منظمة في وزن "العفو الدولية" تصدت لحجة سيرف قائلة إنه بينما تخرج "حيازة الأجهزة التكنولوجية" عن نطاق حقوق الإنسان، فليس ثمة جدال في أن "الوصول إلى الإنترنت" حق يجب أن يعترف به ضمن الأساسات.

جدل مستعر

وكان هذا منبعاً آخر لخلاف وجدال تفجرا حتى إن اللجنة الأوروبية (التابعة للاتحاد الأوروبي) اضطرت إلى الإفتاء فيه. فجاء في بيان أصدرته أن حرمان أي شخص، كلياً أو جزئياً، من الوسائل التي تكفل له حرية الرأي والتعبير والمعلومات والتعليم إنما هو انتهاك لحقوق الإنسانية الأساسية. وينطبق هذا الأمر على الوصول إلى الإنترنت طالما ظلت ضمن هذه الوسائل. ويردد هذا البيان أصداء تقارير عدة للأمم المتحدة عن ترقية وحماية حرية الرأي والتعبير، ربما كان أبرزها ذلك الذي أصدرته في مارس (آذار) 2011 وجاء فيه أن سد الطريق على شبكة الإنترنت انتهاك لحقوق الإنسان الأساسية وهو بالتالي انتهاك للقانون الدولي.
ويذكر أن هذا التقرير صدر إبان ما سمي "الربيع العربي" في وقت حملت فيه عناوين الأخبار الرئيسة إغلاق المنافذ إلى الإنترنت في مصر وسوريا وغيرهما بعد الدور الهائل الذي أدته في انتصار الثورة التونسية. وهكذا صار لدى المدافعين عنها كحق أساسي للجميع سلاح آخر يتمثل في أنها سبيل إلى الحرية السياسية والاجتماعية والمعيشية والشخصية.
على أن الذي لا جدال حوله هو أن الجدال نفسه لن يحسم بسرعة، وأنه يتشعب في قضايا كبيرة عدة… مثل إن الحريات الأساسية المتفق عليها أصلاً غائبة في معظم أنحاء الدنيا، وأن الإنترنت سلاح ذو حدين تخدم قوى الشر والدمار بالقدر نفسه الذي تخدم به قوى الخير والبناء. وقديماً قيل "رب ضارة نافعة". فهل ترجح الجائحة الماثلة بيننا اليوم الموازين لصالح الإنترنت والنطاق العريض فيضيفهما العالم أجمع إلى قائمة الحقوق الأساسية لكل فرد؟

المزيد من تقارير