Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ألفريد فرج عرف كيف يطوّع ألف ليلة وليلة لتخدم أفكاره

الحلم الذي يصنع الواقع ويتجاوزه في مسرحية "علي جناح التبريزي وتابعه قفة"

ألفريد فرج (1929 - 2005) (علاء رستم ـ اندبندنت عربية)

"... يتابع ألفريد فرج في هذه المسرحية الجميلة العزف على أوتار موضوع تعمق فيه من قبل فى مسرحياته الكوميدية والتراجيدية على السواء، أي العدل بمعناه المطلق، الذي حارب الزير سالم من أجله وأطلق ألفريد على لسانه تلك الصيحة الشهيرة، "الظلم ذلك النجم الأسود الثابت في نهار السماء، ما الذي يستطيع أن يسقطه؟". ويناقش فرج هنا العدل الاجتماعى بالتحديد، الذي توقف عنده في مسرحيات مثل "عسكر وحرامية" و"جواز على ورقة طلاق"، لكنه في هذه الكوميديا البارعة يتمهل لتأمل مسؤولية المفكر أو المثقف بشكل عام عن إقامة العدل في المجتمع.  وهو يؤكد هنا أن دور هذا المثقف يوشك أن يكون أهم الأدوار، إذ بقوة الفكر وحده تتقدم الحياة بشرط أن يتاح لهذه القوة فرصة العمل الفعال. فإذا كان التبريزي قد غيّر وجه الحياة في المدينة البائسة نحو الأفضل، فإنه لم يفعل ذلك إلا حين زاوج الخيال بالقدرة أي بعد أن أعطاه الملك مفاتيح خزائنه ليوزع الثروة، بل بمعنى أشمل عندما أتاح له المشاركة في سلطة القرار. إذ كان حتمياً لكي يلعب المفكر دوره أن يكون في مركز القدرة. ويتصادف أن يتطلب عمله وجوده في هذا المركز (...). ففي كل أنواع المدن الفاضلة يجب أن يكون المثقفون أصحاب الرؤية في قلب السلطة، على أن يكونوا بالطبع بلا أطماع، يقنعون كالتبريزي بكسرة الخبز". بهذه العبارات المكثفة عبر الكاتب المصري بهاء طاهر في واحد من كتبه عن نظرته إلى تلك المسرحية التي كتبها ألفريد فرج واعتبرت واحدة من أعمق ما انتمى إلى ما سمي بمسرح الستينيات في مصر.

من التفاؤل إلى الغضب

والحقيقة أن معظم المسرحيات التي ظهرت لفرج بين "حلاق بغداد" (1957) و"زواج على ورقة طلاق" (1973) تعد الأعمال الأبرز في ذلك التيار الذي اتسم بالتفاؤل الشديد قبل أن يلفه الغضب والتشاؤم بعد تراكم الهزائم وبدء الانهيار العربي إثر هزيمة يونيو (حزيران) 1967. ومع ذلك لا ريب أن لـ"علي جناح التبريزي" (1969) مكانة بارزة ليس فقط بين أعمال فرج بل في سياق أعمال أقطاب تلك النهضة الكبار من مبدعي المسرح خلال تلك المرحلة وقبلها وبعدها، من نعمان عاشور إلى محمود دياب ومن ميخائيل رومان إلى سعد وهبة على تفاوت ميولهم ومواقفهم يجمعهم إيمان بدور المسرح خصوصاً والفن عموماً في عملية "الإنقاذ" بعد أن يتحملوا مسؤولية في الانهيار. والحقيقة أن ألفريد فرج لم يكن فقط الأغزر إنتاجاً بين أبناء تلك المرحلة، بل كذلك الأكثر قسوة في ما سمي بـ"لعبة جلد الذات"، بالتالي الأكثر إحساساً بضرورة الخروج من عنق الزجاجة. ولعل في مقدورنا هنا أن نقول أن فرج وتحديداً في مسرحية "التبريزي" إذ كتبها بعد الهزيمة الحزيرانية القاتلة، أراد من خلالها ليس فقط البكاء على الأطلال كما فعلت مبدَعات كثيرة لزملاء له، بل تجاوز ذلك للسعي لإيجاد المخارج. والحقيقة أن مسعاه في هذه المسرحية بالذات كان واضحاً على أكثر من صعيد.

تأصيل واع للتراث

فمن ناحية نراه يجدد في الشكل المسرحي وهو يسعى إلى تأصيل اللعبة المسرحية شكلاً ومضموناً من خلال الاستجابة لما بات حينها نوعاً من مسعى عام، أي المزج بين حداثة المسرح كما وصلت من أوروبا وغيرها، لا سيما على خطى من اعتبروا أثيرين لدى الكتاب العرب، من تشيخوف الروسي إلى بريخت الألماني ومن إبسن النرويجي إلى آرثر ميللر وتنيسي ويليامز الأميركيين مروراً طبعاً بصمويل بيكيت ويوجين يونسكو ومسرحهما "اللامعقول"، وبين ما يمكن أن يُستمد من التراث الحكائي العربي وعلى رأسه حكايات ألف ليلة وليلة والمقامات وما إلى ذلك. ومن هنا لم يفاجئ ألفريد فرج أحداً حين انطلق حتى قبل ذلك، ومنذ "حلاق بغداد" يستلهم تلك الليالي العربية ولكن كذريعة لمخاطبة الواقع العربي بالأحرى. ويمكننا في هذا الصدد أن نتابع مسيرة فرج منذ ذلك الحين مروراً بـ"سليمان الحلبي" (1965) فـ"الزير سالم" (1967) وصولاً إلى مسرحية "التبريزي" التي نحن في صددها هنا. ففي كل هذه الأعمال لجأ فرج إلى التراث يعصرنه بالمعاني والمواقف مبقياً عليه بالشكل، بل مسبغاً على شكله التاريخي وكونه فرجة مسلية أولاً وأخيراً، مسحة من الطرافة بل حتى الكوميديا، ما يفسر النجاح الكبير الذي حققته هذه المسرحيات بالذات ما جعل فرج يرتبط بحكايات الليالي حتى في مجالات غير مسرحية...

ثلاث حكايات ومعجزة الفن

يخبرنا فرج على أية حال بنفسه كيف أنه استوحى "قصة التبريزي وتابعه قفة" من ثلاث حكايات من "ألف ليلة" يحددها بأنها تباعاً، "المائدة الوهمية" و"حكاية الجراب" و"حكاية معروف الإسكافي". واللافت أن هذه الحكايات المتباعدة عن بعضها بعضاً في سياق حكايات ألف ليلة من الناحية السردية، ولكن من الناحية الجغرافية أيضاً وإن كانت متقاربة من حيث زمن حدوثها، هذه الحكايات لا تبدو للوهلة الأولى ذات علاقة حدثية بعضها ببعض، لكن الكاتب فرج عرف كيف يلجأ هنا إلى ما نسميه عادة "معجزة" الفن فيدمجها في سياق حكاية واحدة تصبح حكاية بطله علي جناح التبريزي من ناحية وحكاية من سيصبح تابعه خلال تنقله من بغداد إلى الصين على مجرى فصول المسرحية، حكاية واحدة متواصلة. وتحديداً حكاية تحمل تلك المعاني الفكرية، المعاصرة لزمن كتابة المسرحية وعرضها كما يفيدنا بهاء طاهر. وهي على أية حال مسألة يلح عليها ألفريد فرج نفسه في ما كتبه عن المسرحية، حيث يقول، "مع أن الحكايات الثلاث متباعدة من حيث موقعها في ألف ليلة، فقد آمنت فوراً بأنها متجانسة جداً. فكل من الأبطال الثلاثة أملى عليه تكوينه النفسي والفكري وخياله الخاص الرغبة في إيهام النفس والغير بوجود غير الموجود في الواقع". ومن الواضح أن ما يعنيه فرج هنا هو تلك القدرة التي للفكر الإنساني على التعامل مع ما هو رمزي وخيالي، وكأنه يتعامل مع الحقيقة التي يعاد هنا اختراعها أمامنا على المسرح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سلطة الفكر والخيال

ولئن كان فرج يطرح على نفسه سؤالاً أساسياً عمن هو علي جناح التبريزي وماذا يفعل هنا، فإن الجواب يأتي منذ بداية المسرحية حيث يطالعنا الرجل مفلساً فقد ثروته وقصره وبستانه وكل ما يملك، ولكن ذلك لا يعني عنده أنه أصبح فقيراً. فهو، وكما يشرح لنا بهاء طاهر "عرف متع الثراء كلها ويستطيع أن يسترجعها بخياله، فينصب لنفسه حين يجوع مائدة حافلة عامرة بكل ما لذ وطاب، فيحرك هذا الوصف شهية عابر متسلل هو قفة، يحسب المائدة حقيقية، ويفاجأ حين يدخل القصر الخاوي بألا شيء هناك، لكن التبريزى بوصفه البديع للمائدة الوهمية يقنع قفة بوجودها، بل وأن يمد يده ليشاركه في تناول أطايبها". وهكذا  بقوة الحلم يصنع التبريزي مجده حين يرحل بعد ذلك مع تابعه قفة في رحلة إلى بلد غير معروف عند حدود الصين وفي هذا البلد نجد المظالم التي كان يشكو منها قفة في بغداد كالجوع والفقر، وقد تضخمت بشكل أسطوري. حيث الثروة تتركز في يد الشاهبندر والتاجر الغني وصاحب الخان ثم الملك والوزير.أما بقية من نراهم من أهل هذا البلد فهم شحاذون وحراس النظام.

الخيال يقلب نظام الأشياء

لكن وصول التبريزي يقلب ترتيب الأشياء "حين يطلق في المدينة جنده الخفي أي أحلامه بتقمص دور الأمير السائح الذي تتبعه قافلة لا حد لما تحمله من بضائع وذهب وجواهر". والتبريزي لكي يجيد حبكة، أي الوهم يأخذ رأسمال قفة الصغير مما ادخره من المال لدكان الإسكافي ويبعثره على شحاذي المدينة دون حساب. ويبهر كرمه أغنياء المدينة فيقرضونه أيضاً دون حساب لكي يستردوا المال مضاعفاً حين تصل القافلة.  وكذلك يفعل الملك الذي يثق به الآن. هكذا يغرف التيبريزي من حلمه واقعاً جديداً يربطه فرج بدور المثقف وقدرته التي تتجاوز الواقع وتقلبه. وبهذا لعبت هذه المسرحية يومها في نوع من إعادة الاعتبار لدور المثقف في إعادة بلورة الواقع في مجتمع كان يستبعد ذلك الدور، لا سيما وأن الكاتب يؤكد في ختام مسرحيته أن "القافلة ستجيء بالفعل لتكون الجزاء العادل لجهاد الإنسان في السلم والحرب والعمل ومواجهة المشقات حتى وإن كان خيال التبريزي هو الذي سيكون محرك وصولها.

المزيد من ثقافة