ليس قليلاً ما تداخل وتراكم من قضايا خطيرة فوق قضية فلسطين المسماة قضية العرب المركزية. قضية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، وشغلت القرن العشرين بكامله، ولا تزال بلا حل في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وليس أكثر من صفحات الحروب سوى صفحات "عملية السلام" في الصراع العربي - الإسرائيلي. عملية شارك في معظم فصولها آرون ديفيد ميلر كعضو في الوفد الأميركي، وهو ينقل عن وزير الخارجية جيمس بيكر، الذي "هندس" مؤتمر مدريد وأجبر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك اسحق شامير على الحضور، قوله "إذا كانت لي حياة ثانية، فإنني أريد أن أكون مفاوضاً في الشرق الأوسط، لأن ذلك يضمن لي وظيفة دائمة".
وفي كل فصول المفاوضات من أيام الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى أيام الرئيس الأميركي جيمي كارتر ومؤتمرات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، مروراً بأيام الرؤساء رونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، كانت الإدارات الأميركية حريصة على أمور ثلاثة، أولها إقناع القادة العرب بأن دعمها المتزايد لإسرائيل هو الورقة التي تساعد في "تليين" مواقفها في عملية التسوية، وثانيها العمل على التخلص تدريجاً من رعاية الأمم المتحدة ومشاركة موسكو وتهميش "الرباعية الدولية" و"مرجعية" القرارات الدولية للانفراد بدور الوسيط، وثالثها الابتعاد من تقديم أي مشروع أميركي متكامل للتسوية، والاكتفاء بطرح مقترحات جزئية لردم الهوة بين مواقف الطرفين العربي والإسرائيلي، هي أحياناً أفكار إسرائيلية بثوب أميركي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع ناطق، سواء كنا أو لم نكن أمام نموذج عملي من رواية كافكا "القضية". إذ تدور الرواية على محاكمة المواطن "جوزف . ك" في قضية تُدار حولها الأسئلة والأجوبة والمرافعات ثم الإدانة، من دون أن يعرف أحد ما هي القضية. لكن المؤكد أن "صفقة القرن" ميتة. ولا مجال لأن "تقلع"، وسط الرفض الفلسطيني القاطع لها من كل الأطراف، خصوصاً من طرفي الانقسام بين الضفة الغربية وغزة. ولا حاجة، إذا كان الهدف إسقاط الصفقة، إلى ما يدور من استعراضات وتجمعات وادعاء بطولات، فالمهم هو التحضير والاستعداد لمواجهة سيناريو ما بعد الإسقاط. وقبل ذلك، إدراك الفارق بين الصفقة في حد ذاتها وبين المشروع المفترض من خلال عرض الصفقة، والذي ليس أقل خطوة منها.
كان ماركس ينتقد هيغل الذي يقول إن "جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر مرتين"، لأنه "نسي أن يضيف أن المرة الأولى كمأساة، والثانية كمسخرة". لكن السيناريو هذه المرة مرشح للتكرار، لا على طريقة ماركس بل في إطار أكثر مأسوية. فإسرائيل ستقبل الصفقة، وهي ترفضها عملياً. والفلسطينيون والعرب سيرفضون. وما بعد الإسقاط سيأتي ضم إسرائيل المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية مع أجزاء أخرى منها، خصوصاً في وادي الأردن. والباقي بالإضافة إلى قطاع غزة مرشح لأن يقود إلى تغيير الخرائط وتهديد كيانات كانت ثابتة. وهذا هو الوجه الأخطر لـ "تصفية" القضية الفلسطينية.
والسؤال البسيط هو، ما العمل لمواجهة تحديات ما بعد إسقاط الصفقة؟ وهل هناك مجال للعودة إلى حل الدولتين؟ ماذا يفعل الطرف الذي يريد حل الدولتين، لكنه لا يستطيع الحصول عليه، ولا يملك خياراً آخر؟ ماذا يفعل الطرف الذي يرفض أي تسوية ويريد تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، لكنه لا يستطيع، ولم يستطع العرب ذلك منذ عام 1948؟
مطلوب قوة العمل، لا فقط قوة الأمل، ولا فقط قوة الخوف من اليأس.