وأخيراً. بعد ما يزيد على أربعة عقود على فضيحة الدم الملوث، التي كانت أسوأ كارثة علاجية في تاريخ "خدمة الصحة الوطنية " (أن أتش أس)، اُتخذت الخطوات الأولى في اتجاه تعويض الضحايا.
فقط فكر في الأمر للحظة. لقد مرت أربعون عاماً، والآن فقط أصبح للذين عانوا- غالباً بشكلٍ خطيرٍ - كنتيجة مباشرة لخطأ ارتكبته الـ "أن أتش أس" (وللتستر الذي تم لاحقاً) أملاً واقعياً بنيل بعض التعويض.
نحن لا نتحدث عن عدد قليل من الحالات المعزولة. فعدد الذين أصيبوا بالعدوى بشكل مباشر أو غير مباشر بسبب منتجات دم ملوثة، يصل إلى 25000 شخص. إذا كانوا في العشرينيات أو الثلاثينيات من عمرهم عندما أصيبوا، فهم الآن في الستينيات أو السبعينيات من العمر. وقد فات الأوان سلفاً بالنسبة إلى العديد منهم، إذ توفي 2400 في الأقل بسبب فيروس نقص المناعة الذاتية والتهاب الكبد الوبائي سي الذي أصيبوا به.
كثيرون ممن تأثروا كانوا من المصابين بمرض الناعور (نزف الدم)، ممن باتت عمليات نقل الدم بشكل منتظم بالنسبة إليهم وسيلة للبقاء على قيد الحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان آخرون حتى وقتها أشخاصاً أصحاء ذهبوا إلى المستشفى وخرجوا بمرض عضال بعد الحاجة إلى الدم. ثم كان هناك شركاؤهم وأطفالهم، الذين- كانوا مثل العديد من الضحايا الأساسيين- لم يتم إخبارهم بأي شيء عما حدث أو عن المخاطر التي كانوا معرضين لها.
أما ما قد يكون الاختراق الحاسم، فقد جاء هذا الأسبوع، عندما نشر السير روبرت فرانسيس تقريره حول مسألة التعويض المحددة. يستحق السير روبرت، وهو من أبرز مراقبي الجودة في مجال القانون الطبي، عدة باقات: لإكمال تقريره بعد عام واحد فقط من تكليفه من قبل مكتب مجلس الوزراء؛ لوضوحه، الذي يتناقض مع العنوان الثقيل للتقرير - دراسة إطار التعويض (احزر، لم يريدوا أن يشتمل على توصيات) -وأخيراً، ولكن ليس آخراً، لحالة الاستعجال التي ينقلها في تقريره.
التوصيات:
وإذ يُسلّم بأن العديد ممن تضرروا ربما لن يعيشوا طويلاً، فهو يرى أن الناجين الذين يبلغ عددهم حوالى 3300 شخص يجب أن يتلقى كل منهم دفعة فورية، الأرجح أنها لن تكون أقل من 100 ألف جنيه استرليني (حوالى 123 ألف دولار). ويقول بحق أيضاً إنه من الممكن الدفاع عن وجوب تلقي آخرين كثيرين المدفوعات، بمن فيهم الشركاء والأطفال. وفي المجمل، يمكن أن ينتهي المطاف بالـ "أن أتش أس" إلى دفع فاتورة تزيد على مليار جنيه استرليني (حوالى مليار و 231 مليون دولار).
وكما ينبغي أن تكون بالفعل. وفي رأيي فإن ملحمة الدم الملوث هي من دون شك الفصل الأكثر فظاعة في تاريخ الـ "أن أتش أس" الذي يقترب من 75 عاماً. وهذا لم يحصل، في المقام الأول، بسبب وقوع خطأ ما، حتى ولو كان خطأ خطيراً مثل حقن مرضى أصحاء بفيروسات من شأنها أن تدمر حياتهم. لا يمكن لأي هيئة خدمات صحية أن تكون محصنة ضد الخطأ. إن الأمر يعود بالأحرى إلى كيفية استجابة أولئك المسؤولين في الـ "أن أتش أس" والحكومة، للأمر.
كان هناك تردد في قبول ما كان يحصل وعدم وجود فضول كاف لاكتشاف الأمر. وكان هناك رفض لإعطاء محنة أولئك الذين اُصيبوا أولوية على اعتبارات أخرى (بيروقراطية ودبلوماسية). وكان هناك نهج معوق بشكل مدهش للاعتراف بأن أي شيء قد حدث بشكل خاطئ، ناهيك عن قبول المسؤولية، ورفض شديد لفتح موضوع التعويض، حتى صدور تقرير السير روبرت.
وربما كان هذا الأخير [الرفض للخوض في قضية التعويض] هو الأقل قابلية للفهم من كل وجوه النقص الرسمية، نظراً إلى أن مبالغ مرتفعة للغاية، 2.2 مليار جنيه استرليني (حوالى 2.70 مليار دولار) في عام 2020-21 بالنسبة إلى إنجلترا وحدها، كانت تُدفع بشكل روتيني من قبل الـ "أن أتش أس" في حالات مطالبات [تسبّب بها] الإهمال. وهذه كانت أيضاً إحدى الشكاوى الرئيسة للضحايا، ليس فقط لأن المال يمكن أن يُحدث فرقاً في حياتهم، أو حتى لأنه في الغالب يفعل ذلك، بل أيضاً بوصف المال أكثر دليل ملموس في مجتمعنا على أن السلطات الرسمية قد تقبلت أنها ارتكبت خطأ وأخذت علماً.
كان الاعتراف جزءاً كبيراً من شكواهم، وهذا يتضمن التأخير غير المعقول من جانب الحكومات المتعاقبة في قبول الحاجة إلى نوع من التحقيق الرسمي. استغرق الأمر إلى عام 2017 حتى أعلنت تيريزا ماي، التي كانت حينذاك رئيسة للوزراء، فتح تحقيق كامل في "المآساة المروعة"، على حد تعبيرها، "التي لم يكن ينبغي ببساطة أن تحصل على الإطلاق".
وفي نهاية المطاف، افتتح ذلك التحقيق بعد نحو سنتين، أي في أبريل (نيسان) 2019، ولا يزال أمامه قرابة سنتين حتى ينتهي. ومع حلول الوقت الذي ترى فيه تقارير التحقيق الأخيرة النور، ربما يكون معظم أولئك الذين تورطوا في عملية اتخاذ القرار في ذلك الوقت، في منأى عن العقوبات الرسمية، أو ربما لا يكونوا حتى على قيد الحياة. وبهذا المعنى، فإن "العدالة" كما هي مطلوبة في أغلب الأحيان من قبل أولئك الذين تعرضوا للإساءة اليوم، لن تكون قد تحققت.
ونظراً لوجود خطر إجراء تعميمات واسعة النطاق، استجابت حكومات أوروبية أخرى بشكل أكثر حسماً، وأشد إلحاحاً، للدليل الأول على دخول دم ملوث إلى النظام الصحي، وذلك إما بطلب إيقاف واردات بلازما الدم من الولايات المتحدة، وهي المصدر الرئيس للمشكلة، أو بطلب إجراء معالجة حرارية للدم الذي تم التبرع به. واستقال لوران فابيوس، وكان وزير الصحة الفرنسي في تلك الفترة، كما مثل أمام المحكمة (شأنه شأن آخرين). وعلى الرغم من أنه قد تمت تبرئته، فإن حياته المهنية التي كانت قبل ذلك مثيرة للإعجاب، قد تعرضت لانتكاسة أرجعتها سنوات إلى الوراء.
يبدو أن التنسيق في المملكة المتحدة بين مختلف فروع الحكومة، والخدمات الصحية والبحث العلمي كان أقل فاعلية مما هو في دول أخرى، في الوقت الذي كان التهرب المؤسساتي من المسؤولية والتشويش البيروقراطي يمثل نمطاً فريداً من نوعه. كما تركت إدارة السجلات دون المستوى المطلوب، مع تدمير وثائق مهمة للغاية.
بدت التراتبية الطبية في المملكة المتحدة أيضاً أقل انفتاحاً من أخريات للعثور على جذور المشكلة على مستوى القاعدة الشعبية، التي اشتملت على اقتراح طبيب عام محلي بأن بلازما الدم يمكن أن يكون مصدراً للعدوى بعدما تراجعت صحة عدد من المصابين بمرض بالناعور. وعلى الرغم من تحقيقات لجان برلمانية مختلفة، لم تتم محاسبة أحد تقريباً، ولم تُذكر تقريباً أية أسماء حتى أُجري التحقيق الحالي. ووفرت دول أخرى تعويضات حكومية بشكل من الأشكال منذ مرحلة مبكرة نسبياً، أما المملكة المتحدة فلم تفعل ذلك، حتى مع أنها قد دفعت قبل وقت طويل تعويضات عن وقوع أخطاء طبية أخر.
ويمكن القول إن بعض أخطاء المملكة المتحدة في الأقل، وربما بشكل مميز، عكست أفضل النوايا. ففي بادئ الأمر لم تكن إصابات فيروس نقص المناعة البشرية والتهاب الكبد الوبائي سي بمثابة أحكام إعدام فحسب، بل كانت تحمل وصمة عار اجتماعية كبيرة. ولهذا فإن بعض المستشفيات والأطباء العامين، كما يبدو، لم يبلّغوا مرضاهم بأنهم كانوا قد أصيبوا بالعدوى. وإن الكثيرين ممن اكتشفوا بطريقة أو أخرى [إصابتهم] قد وجدوا أنفسهم منبوذين هم وعائلاتهم. وساعد القلق من وصمة العار أيضاً على شرح أسباب التأخير في إصدار النصيحة الرسمية. ويلفت السير روبرت فرانسيز في تقريره إلى قوة الوصمة الاجتماعية، وهي من الأسباب التي تجعله يقول إن لدى الشركاء والأطفال أسباباً جيدة من أجل الحصول على تعويضات.
ومع ذلك، فإن احتمال دفع أي تعويض ومتى سيتم ذلك، هو مسألة أخرى. يستحق السير روبرت الثناء لإصراره على أن الوقت له أهمية جوهرية، بيد أنه ليس من الواضح على الإطلاق أن صوته سيُسمع. فقد جاء في الإجابة الرسمية من مايكل إليس، وهو الصرّاف العام (وزير الدولة)، أن "هناك قدراً كبيراً من التعقيد في هذه القضايا حتى أن الدراسة تغطي مروحة واسعة النطاق من العناصر التي يجب أخذها في الاعتبار... ولا يمكن استكمال هذا التحليل بشكل عاجل لكن المسؤولين في الحكومة يركّزون على هذا بحيث تستطيع الحكومة أن تكون مستعدة للاستجابة بشكل سريع لتوصيات التحقيق".
للأسف، فحتى بعد أكثر من أربعين عاماً، قد يكون على الناجين وعائلاتهم أن ينتظروا مزيداً من الوقت.
© The Independent