أشعلت قرارات فجائية بإزالة العوامات السكنية على نيل القاهرة، والتي يقدر عددها بـ33 عوامة، الجدل بين الجهات المصرية المتخصصة وأصحاب العوامات التاريخية، بألوانها الكلاسيكسة الخلابة فوق نهر النيل بحي إمبابة، ففي الوقت الذي تستخدم تلك الجهات سلطتها التنفيذية لإزالة العوامات، يصر السكان على تصعيد الأمر إلى القيادة السياسية العليا، كما لجأ أسلافهم قديماً إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي أوقف تنفيذ قرار مماثل آنذاك.
على الجانب الآخر، أشعل القرار غضباً شديداً وجدلاً واسعاً من قبل رواد مواقع التواصل، حزناً على إزالة أحد أهم معالم النيل التاريخية، وجزء من الهوية التي ينتمون إليها.
بوابة خشبية زرقاء على الطراز الكلاسيكي تحيطها الورود، تنسيك زحام حي الكيت كات من خلفك، فبمجرد أن تنفتح أمامك تشعر أنك انتقلت إلى داخل الحكاية، في بيت عائم باللون الأزرق الفيروزي يقارب ألوان السماء، بينما يلفت انتباهك صوت الإوز على صفحة النيل، ليستكمل جمال الصورة.
بمجرد أن تخطو إلى داخل العوامة، تشعر بأن أحدهم أشعل عود ثقاب في الحكاية، وأحالها إلى خراب، حيث أكوام المنقولات هنا وهناك، جرى حزمها بعد قرار الإزالة الصادر من وزارة الري، وإرسال إنذارات لسكانها بأن الإخلاء سيكون في الرابع من يوليو كحد أقصى، بدعوى مخالفتهم شروط الترخيص لتلك العوامات، الأمر الذي أجمع على نفيه جميع السكان، مؤكدين أنهم كلما توجهوا لدفع رسوم التراخيص امتنعت الوزارة عن تسلمها.
بين الحاضر والماضي
"أنا زيّ السمكة لو طلعت من الميّة والعوامة بتاعتي أموت، أنا هفضل جوّاها، هغرق معاها، لأن روحي متعلقة فيها، زيّ قبطان السفينة مش هيسيب سفينته تغرق، وأنا القبطان هنا". بملامح يكسوها الوجع والحزن نال قرار الإزالة من روحها الشابة على الرغم من علامات الشيب. تروي إخلاص إبراهيم صالح (88 عاماً)، وهي واحدة من أقدم ملاك العائمات السكنية بحي إمبابة، قصتها لـ"اندبندنت عربية" قائلة، "ولدت في واحدة من أقدم العوامات التراثية هنا، وعشت طفولتي وشبابي داخل جدرانها، بل إنني بعد أن تزوجت، وعلى الرغم من امتلاكي حينها شقة سكنية فخمة بحي الزمالك، فإنني كنت أختنق ولم أستطع الحياة بعيداً من النيل، وبعد أن رأي زوجي تعلقي الشديد بالحياة هنا قرر أن يبني لي تلك العوامة، وتركنا كل شيء وراءنا، وضحيت بممتلكاتي من أجلها".
وتتابع إخلاص، "جئت للعيش في العوامة وحيدة بعد أن توفي زوجي، قبل أن تتم أعمال إنشائها، ولم يرزقني الله بأولاد فقضيت عمري بأكمله هنا، حتى أتممت عامي الثامن بعد الثمانين، ثم جاءني قرار الإزالة بدعوى أننا مخالفون لشروط التراخيص، وممتنعون عن الدفع، وهو الأمر الذي يخالف الواقع، إذ إننا على مدار سنوات طويلة كلما توجهنا لدفع رسوم التراخيص يتم رفض تسلمها منّا من قبل مسؤولي الري، بينما كانت الملاحة النهرية تقبل منّا رسوم التراخيص الخاصة بها، الأمر الذي يؤكد سلامة موقفنا وتعنت وزارة الري معنا لأسباب لا نعلمها".
تؤكد إخلاص، "لدينا جميع المستندات التي تثبت سدادنا مختلف الرسوم الأخرى"، لافتة إلى أنهم "ليسوا فقط مجبرين على الطرد، بل مكلفون دفع غرامات كبرى تصل إلى مليون جنيه، وسحب العوامات من دون تعويض عنها"، ما يعني أنه سيكون مصيرها الشارع، فليس لديها مكان آخر ولا أي مورد رزق تستند إليه. وتضيف في ألم، "أنا عجوز عمري تجاوز الـ88، سيبوني فيها لغاية ما أموت، وبعدها خدوها".
العشرينية هاجر أحمد، واحدة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، تدخل مندفعة إلى العوامة رقم 1 أسفل كوبري 15 مايو. تقول لـ"اندبندنت عربية" إن علاقتها بالسيدة إحسان، مالكة العوامة، بدأت حين عرفت أنها لا تنجب وتعيش وحيدة، مؤكدة أن الجدة إحسان اعتبرتهم جميعاً أبناءها، فلم يقتصر ارتباطهم بالعوامة باعتبارها جزءاً من هويتهم، بل إنها مرتبطة بأجمل ذكريات قضوها في السمر مع العجوز الجميلة، بينما تهب نسمات النيل التي لا يضاهيها شيء.
على الجانب الآخر، ساق الشباب كثيراً من الآراء حول التعدي على الهوية الثقافية والتاريخية. يقول الثلاثيني أحمد النادي، إنه قضى معظم أوقات مذاكرته للماجستير والدكتوراه في ساقية الصاوي بالزمالك، في الجهة المقابلة للعوامات السكنية الملونة، مبدياً حزنه وغضبه الشديد على ما يحدث من إزالات من دون أن تدخل أي مسؤول.
من نجيب محفوظ إلى نجيب الريحاني ومنيرة المهدية وفريد الأطرش إلى كبار رجال السياسة وأعضاء الحكومات المتعاقبة في مصر، كان للعوامة النيلية حضور طاغٍ في التاريخ الفني المصري، وهو وثيق الصلة أيضاً بالبنيان الاجتماعي، حيث كانت العوامات عنواناً لحياة الترف منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعلى ما يبدو فإنها لن تصمد حتى نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
تلك البيوت العائمة، متفردة العمارة، التي تزين نهر النيل، على قلتها، كانت تثير الشجن والحنين لأيام مضت، شكلت فيها غرفها المتعددة ظلاً لحكايات سياسية وفنية حجزت مكانها في التاريخ المصري، في حين كان غالبية من يتابعونها من بعيد، وهي واقفة تقاوم عوامل الزمن، يتذكرون على الفور حواديت الأفلام التي كان للعوامات النيلية بالقاهرة مكان خاص بها.
مصنع الصفقات السياسية
القرارات الرسمية بإزالة العوامات سببت صدمة لمن لا يملكونها مكتفين بمشاهدتها كذكرى ملونة على ضفة النيل بين منطقتي الزمالك والكيت كات، لكن وقع هذه القرارات كان أسوأ على ساكنيها، الذين باع بعضهم كل ما يملك من أجل التمتع بحياة هادئة لها طابع حالم، حيث يعيشون بين الذكريات القليلة المتبقية من زمن كانت فيه العوامات تشكل مجتمعاً بأسراراه وطقوسه وطبيعته، قبل أن يتخذ رئيس الوزراء المصري الراحل زكريا محيي الدين قبل أكثر من ستين عاماً قراراً بنقلها إلى مكان ثابت لترسو منذ النصف الثاني من الستينيات في منطقة الكيت كات، وهو أمر أغضب ساكنيها الأثرياء، وتدريجياً لم يصمد منها سوى عشرات.
من بين ما تبقى حتى اليوم عوامة منيرة المهدية، "16 مايو (أيار) 1885 - 11 مارس (آذار) 1965، والتي عُرفت بلقب "سلطانة الطرب"، ويمتلك العوامة عدد من الورثة، وبسبب النزاع تهالكت حالها، وباتت بحاحة إلى صيانة، ويتردد أن الملكة نازلي حاولت مراراً شراءها من المهدية لكن الأخيرة رفضت، فالعوامة التي تحمل الرقم 66 كانت مقصداً لرئيس الوزراء المصري، حسين رشدي باشا، الذي شغل مناصب عدة في الحكومة، وكانت له الكلمة العليا في اختيار الوزراء حتى 1919، وحينها كانت جميع أسرار الوزراء تترى بين جنبات تلك العوامة التي كانت مفضلة لرجال الحكومة، ويتردد أن منيرة المهدية قالت إن أحداً لم يتوقع أن صالونها المتحرك في العوامة يتضمن جميع أسرار الدولة المصرية، فمجلس الوزراء بأكمله كان يتناوب الوجود في عوامتها.
وكانت عوامة الفنانة بديعة مصابني من الأماكن المفضلة للفنانين ولرجال السياسة، وشهدت كذلك اجتماعات مهمة للحكومة وبزوغ نجم عدد من الفنانات والراقصات، بينهن تحية كاريوكا. وكانت بديعة مصابني تعيش قصة حب مع الفنان نجيب الريحاني الذي كان يمتلك هو الآخر عوامة تحمل الرقم 75، لكنها لقيت مصير "دهبية" فريد الأطرش، التي تميزت بديكوراتها الشرقية المبهرة، ثم باتت أثراً بعد عين.
ومن فنانات الاستعراض اللاتي ارتبط اسمهن بالعوامات كذلك، الراقصة والممثلة حكمت فهمي، 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1907 - 28 يونيو (حزيران) 1974"، التي عُرفت بعلاقتها بعدد من رجال السياسة، إذ كانت تعمل جاسوسة لصالح الألمان، وبحسب مصادر عدة، فإن الراقصة نجحت في أن تقتنص الأسرار من أصدقائها الذين كانوا يلتقون بها في العوامة، وهي القصة التي سرد السيناريست بشير الديك تفاصيلها في فيلم "الجاسوسة حكمت فهمي" لنادية الجندي عام 1994، من إخراج حسام الدين مصطفى، وبطولة حسين فهمي وفاروق الفيشاوي، وكان للعوامة حضور كبير في العمل.
الفن والسخرية والفضائح
هنا يقودنا الحديث تلقائياً إلى عالم العوامات، الذي خلده نجيب محفوظ في رواياته ومنها إلى السينما، حيث كان السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية يذهب إلى حبيبته السرية ليلتقيها في العوامة، في حين كان الحضور الأبرز للعوامة في فيلم "ثرثرة فوق النيل"، 1971، وهو العمل الذي حمل نقداً سياسياً قوياً للأوضاع في مصر، وكتب حواره ممدوح الليثي، وأخرجه حسين كمال، واشترك في بطولته عماد حمدي وعادل أدهم وأحمد رمزي وميرفت أمين وسهير رمزي، وغيرهم، وفيه تلتقي شلة الأصدقاء في عوامة على النيل يدخنون الممنوعات، ويكشفون آراءهم في قرارات السلطة، كما يتحدثون عن الفضائح الشخصية للكبار، والتناقضات التي تملأ المجتمع، بطريقة ساخرة وتلقائية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان نجيب عاشقاً للنيل، لهذا عاش ربع قرن في عوامة حسين باشا دياب، وتحديداً في طابقها الثاني، وكانت تعيش معه عائلته "زوجته وابنتاه"، وبعد أن وقعت حادثة أليمة في عوامة مجاورة، حيث سقطت طفلة غريقة في النهر، لم يتحمل أديب نوبل الاستمرار في المكان، وغادره ليعيش على بعد خطوات في شقته الشهيرة بشارع النيل بمنطقة العجوزة.
وعلى بعد أمتار قليلة من عوامة نجيب محفوظ، كانت ترسو عوامة الهجرسي، التي ظهرت في فيلم "أيام وليالي"، 1955، سيناريو وإخراج هنري بركات، ومن بطولة عبد الحليم حافظ وإيمان وأحمد رمزي، حيث كان البطل يمارس رياضة التجديف حينما شاهد فتاة حسناء تقف في عوامة فارهة فوقع في غرامها.
بعيداً من الرقابة
بالعودة للثرثرة على النيل، فالعوامة كانت بناية بعيدة من الرقابة إلى حد كبير، بخاصة أنها، برسوها في النيل، تتيح مزيداً من الحرية في الحديث، بخلاف البنايات التقليدية على اليابسة، ولعل ابتعاد العوامة عن أعين المتلصصين، هو ما جعلها ترتبط في وقت من الأوقات بالحياة الصاخبة والفضائح، الأمر الذي عبر عنه الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم في رثائه تشي جيفارا عام 1984، إذ يقول منتقداً أوضاع النخبة المصرية وقتها، "يا بتوع نضال آخر زمن... في العوامات". فسيرة العوامات في أذهان الغالبية كانت مرتبطة بحياة الطبقة المخملية، التي كانت دوماً تنال سهاماً من الانتقادات بطبيعة الحال.
يرى الكاتب والباحث، ميشيل حنا، في تعليقه، لـ"اندبندنت عربية"، أن العوامات النيلية عُرفت كمكان ترفيهي خاص، والبعض ربطها بالسمعة السيئة والفضائح، لكنها مثل أي بناية سكنية خاصة تقام فيها سهرات وحفلات. ويتابع حنا، المهتم بالبحث في تراث القاهرة المعماري وصاحب كتاب "كنوز وسط البلد"، أن العوامات النيلية في مصر كان عددها يفوق الـ300، لافتاً إلى أن ظاهرة العوامات السكنية موجودة في دول كثيرة منها هولندا، وفي مصر كانت مقصداً للطبقة العليا.
ويواصل حنا، "كانت تقام في بعضها اجتماعات حزب الوفد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كذلك كان يجتمع بها أعضاء مجلس قيادة الثورة، فهي جزء مهم من تاريخ القاهرة وتراثها المعماري والثقافي والسياسي وبالطبع الفني، وقد حرص الروائي الكبير نجيب محفوظ على توثيقها من خلال روايات عدة، بخاصة أنه عاش بها وقتاً طويلاً، وأنجز فيها مجموعة من أعماله المهمة".
حضور طاغٍ في السينما
حنا شدد على أن ساكني العوامات يلتزمون جميع المعايير البيئية، ولديهم وثائق قانونية، وبالملاحظة سنجد أن كثيراً من ساكني تلك العائمات يظهرون في استغاثات مصورة للحديث عن صدمتهم بالقرار الذي أمهلهم أياماً قليلة لإخلائها، وبينهم الكاتبة أهداف سويف، التي تحدثت تفصيلياً عن محاولاتها وجيرانها الوصول إلى حلول، وكذلك السيدة إخلاص حلمي، التي تعتبر من أقدم ساكني العوامات، وتمتلك كنزاً هائلاً من الذكريات حول سيرة العوامات النيليلة في أزمنة مضت، بخاصة في ما يتعلق بتلك التي امتلكها مشاهير مثل جارهم محمد الكحلاوي، فالنجوم ارتبطت حياتهم دوماً بتلك العوامات، بالتالي كان لها ظهور قوي في السينما المصرية.
ويتابع، "كانت العوامة أساسية في فيلم (جريمة حب) لعماد حمدي وهند رستم ومريم فخر الدين عام 1955، وفي 1982 كانت (لوكيشن) رئيس في فيلم (العوامة رقم 70)، كتبه وأخرجه خيري بشارة، من بطولة كمال الشناوي وتيسير فهمي، وبالطبع أحمد زكي، الذي صور أيضاً في العوامة مشهداً في فيلمه (أيام السادات) للمخرج محمد خان عام 2001، فقد كانت عوامة حكمت فهمي سبباً في القبض على الرئيس الراحل أنور السادات من قبل سلطات الاحتلال الإنجليزي حينها، كما ظهرت بعض المشاهد القليلة في العوامات في أفلام أخرى حديثة نسبياً، بينها (السفارة في العمارة، وصعيدي في الجامعة الأميركية، والبلياتشو)".
خلدت السينما هذا الإرث المعماري، الذي ميز نيل القاهرة، ببنائه الخشبي المزين بديكورات بسيطة تتوافق تماماً مع الطبيعة والطقس، وعلى الرغم من الأسرار الكثيرة التي تسربت من جلسات العائمات، فإن المؤكد أن هناك حكايات بلا نهاية شهدت عليها تلك الجدران التي يستعد الجميع لوداعها بعد قرار الإزالة المفاجئ.