لعل واحدة من أكثر المظاهر نبلاً، تلك التي تجلت ولا تزال خلال هذه الأيام الصعبة ويلوذ الناس فيها ببيوتهم هرباً من فيروس كورونا، وما يحمله من موت وخراب ورعب، تلك الاحتفالية التي يبدو أنها بدأت في فرنسا، وتتكرر يومياً في نحو الساعة الثامنة مساءً، حين يقف الناس المحبوسون داخل بيوتهم، على الشرفات وعند النوافذ مجتمعين في تصفيق صاخب وودود يحيّون به الطواقم الطبية والممرضات والممرضين وبقية عمال الخدمة العامة الذين يضطرون للخروج لممارسة أعمالهم الإنسانية الإنقاذية. ويعرف الناس جميعاً اليوم أن هذه الخدمة العامة التي تُعرّض القائمين بها إلى الخطر أنقذت وتنقذ الملايين.
والحقيقة أن السينما المصرية كانت منذ عام 1962 قد وجهت مثل هذه التحية إلى مثل هؤلاء الناس في فيلم حققه الراحل بعد ذلك، توفيق صالح بعنوان "صراع الأبطال".
ومن الواضح أن الأبطال الذين يعنيهم العنوان هنا، ليسوا سوى أولئك الأطباء الذين يحدثنا الفيلم نفسه عن الصراع الذي خاضوه في ظروف مماثلة لتلك التي نعيشها اليوم. فالفيلم الذي تدور أحداثه في الريف المصري عام 1948، أي إبان تفشي الكوليرا في مناطق معينة من مصر، يرسم صورة لذلك الصراع العنيف الذي يخوضه منقذو البشر هؤلاء، لكنه في الحقيقة صراع قد يبدو مختلفاً بعض الشيء عما نعيشه اليوم. وذلك لأنه هنا في الفيلم صراع مثلث، من ناحية ضد المرض المتفشي؛ ومن ناحية أخرى ضد الإقطاع الذي من أجل مصالحه الخاصة يريد أن يترك البائسين العاملين في خدمته في تلك المناطق الريفية النائية والموبوءة، على سجيتهم غير مهتم بأن يموتوا أو يعيشوا؛ أما من الناحية الثالثة فضد التخلف والدروشة المتخفية تحت قناع الدين مانعةً الحداثة الطبية والعلمية من الوصول إلى هناك بوصفها، بالنسبة إلى الفيلم، الوسيلة الأنجع لإنقاذ الناس.
الدولة كمفهوم لا مفرّ منه
ولنضف إلى هذا سمة ثالثة يتناولها الفيلم كان من الصعب يومها أن تخطر على البال، بل ربما جاءت فيه عرضاً لتفادي رقابة سلطوية ما، فأتت على شكل رمية من غير رام؛ وتتمثل في إخلاء المكان للدولة، الممثلة للحداثة الضرورية، كي تحسم الأمر في النهاية بتدخلها دعماً للأطباء والمنقذين والعلم على الضد من التخلف والشعوذة وأصحاب المصالح.
وفي هذا السياق قد يكون من المنطقيّ الافتراض أن الفيلم في عز هيمنة الدولة على السلطة في الستينيات المصرية، آثر أن يحيّدها فأعطاها هذا الدور من دون أن يكون مدركاً أن الدولة كمنظومة إدارية وسلطوية، بأجهزتها وقواتها الأمنية وإمساكها بمقاليد السلطة الطبية و"الحصار" الاجتماعي الذي تفرضه اليوم في كل مكان في العالم، إنما تلعب الدور الذي لا بد لها أن تلعبه؛ دور المنقذ الحقيقي؛ مهما كان موقفنا منها ومن تنوّعاتها.
من الواضح أن هذا الجانب لا بد من النظر إليه باعتباره جانباً أساسياً من هذا الفيلم ومن المسألة برمتها. ومن هنا يبدو من المنطقي القول إن شعوب العالم، إذ تقف اليوم في الثامنة مساء لتحيي الأطباء وعمّال الصحة أساساً، إنما تحيي كذلك، وإن بشكل موارب، مفهوم الدولة نفسه سواء كانت مؤيدة لها أو معارضة أو بين بين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور الفرد في الصراع
ونعود هنا إلى هذا الفيلم المتبصّر "صراع الأبطال"، الذي كتب له السيناريو توفيق صالح بنفسه، عن قصة تشارك في رسم خطوطها كل من عز الدين ذو الفقار وعبد الحي أديب ومحمد أبو سيف، الذي تدور أحداثه كما أشرنا، في منطقة ريفية مصرية يعمل أهلها في الزراعة، أسوة بالغالبية العظمى من سكان أرياف مصر. غير أن هذه الأحداث لا تدور، ولأسباب سياسية طبعاً، في الزمن الذي صُوّر فيه الفيلم، بل في عام 1948، أي قبل الثورة بسنوات. وهي تتمحور حول الطبيب الشاب المتخرج حديثاً شكري، الذي أتى ليعيش في تلك القرية النائية بالريف، وقد آلى على نفسه وهو المسلح بالوعي والعلم معاً، ليس فقط أن يخفف عن السكان أمراضهم، بل أن يساعدهم على درء الفقر والجوع، اللذين يرى أن الأقدار والتخلف مسؤولان عنهما. بيد أن ما سيكتشفه شكري بالتدريج، هو أن المسؤولية عن هذين الأمرين ليست قدرية، بل مرتبطة بالإقطاعي، الذي يمتلك البلاد والعباد هناك ويسيطر على الناس دافعاً إياهم في كل لحظة إلى العيش والتصرف بحسب مشيئته. أما من يحاول الخروج عن طاعته فإنه يختفي أو يُرسَل إلى مصحة الأمراض العقلية.
وهكذا إذ يفهم الطبيب الشاب هذه الحقيقة يبدأ بالتصدي للإقطاعي مساعداً السكان على المطالبة بحقوقهم مداوياً إياهم. ما يخلق وداً بينه وبينهم أول الأمر، مقابل ما يسببه في الوقت نفسه من صراع بينه وبين الإقطاعي، ولكن أيضاً، بينه وبين القابلة المحلية أم هلال، التي تجده منافساً قوياً لها اكتسب قلوب الفلاحين ويكاد يقطع رزقها. وفي الوقت نفسه يكون هناك الجنود الإنجليز، الذين لا يتورعون عن إلقاء بقايا طعامهم للفلاحين، ما يتسبب في انتشار داء يبدأ في إصابة الناس، لن يكتشف الطبيب إلا لاحقاً أنه داء الكوليرا الذي سرعان ما يصبح وباءً. فحين يطلب الطبيب من السكان هنا، أن يكفوا عن تناول الطعام الذي يرمى إليهم، يتخلى الفلاحون عن طاعته، لا سيما قبل أن يتبين له في شكل قاطع حقيقة أن الداء هو الكوليرا، وهو لكي يتأكد من هذا يحاول إقناع السكان بنبش جثة ميت وإذ يفعل بصعوبة ويشرِّح الجثة للوصول إلى اليقين. ولكن هنا بدلاً عن أن يكون هذا الدليل القاطع وسيلة لكشف صدقية الطبيب ودفع السكان إلى إطاعة إرشاداته للنجاة من هذا الوباء. يصبح الطبيب عدو المجتمع رقم واحد. ولكن هذه المرة، لأنه نبش جثة ميت وأجرم في حق التقاليد وما هو مفهوم من تعاليم الدين على الصعيد الشعبي.
شيء من توابل سينمائية
والحال أن هذه الحبكة تسير، في الفيلم، بالتوازي مع حبكة أخرى كان لا بد منها ضمن المفهوم السينمائي المصري في ذلك الحين، محورها، هذه المرة، المرأة وحكاية حب وزواج بين شكري والمدرسة عفاف التي يكون سابقاً، قد أنقذها وأعاد إليها الاعتبار على الضد من إشاعات مغرضة تناولتها، وبدفع من الإقطاعي الذي، إذ كان في الماضي على علاقة معها، أراد أن يبقيها عشيقة له، حتى بعد زواج رتبه له الأهل. وإذ يتمكن شكري من إنقاذ عفاف وسمعتها يتزوجها، لتصبح شريكته في كفاحه. المهم أنه في خضم الصراع، هذه المرة، بين شكري وتقاليد الأهالي التي تتضافر مع مصالح بعضهم ومع تحريضهم ضد شكري من قبل الإقطاعي والقابلة في الوقت نفسه، يكاد شكري يستسلم لولا أن وزارة الداخلية ترسل إليه قوة لحمايته، وكذلك لمحاصرة السكان بغية منعهم من الخروج بمرضهم إلى خارج القرية. وبفضل هذا كله يتمكن شكري من شفاء السكان وبالتالي إثبات أنه كان على حق. أما الوزارة فتعينه مسؤولاً عن مكافحة الكوليرا، ما يجعله ينتقل إلى قرية أخرى، مع زوجته هذه المرة، للقيام بالمهمة ذاتها.
من الواضح، من ناحية الجوهر الفكري للفيلم، أننا هنا بصدد عمل مبكر، لم يستسهل الأمور فيلقي اللوم على السلطات، بل إنه يصور الصراع على حقيقته: بين تحالف يضم أصحاب المصالح والتخلف وبين الفكر التنويري، الذي، ومهما كان الأمر، سوف لن ينتصر إلا بعد أن يلقى دعماً من السلطات، ومهما كان من عسفها.
وفي هذا المعنى يبدو لنا الفيلم شديد المعاصرة، وسابقاً لأوانه. ومهما يكن يمكننا أن نقول هذا عن معظم الأفلام، القليلة على أي حال، التي حققها توفيق صالح، الذي عاد من بعدها وصمت عن خوض نضاله الفكري من طريق السينما، إلا في مرات نادرة، أنتجت مرة فيلماً عن كتاب توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف"، ومرة فيلماً مميزاً عن قضية فلسطين هو "المخدوعون" من إنتاج سوري، عن قصة لغسان كنفاني.