Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غسان كنفاني جسّد الوعي الفلسطيني بصعوده وأزماته

محمد نعيم فرحات يعيد قراءة أعماله على ضوء الـ "سوسيولوجيا"

الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني (مركز كنفاني الثقافي)

في محاولة قراءة أعمال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وقدرته على التقاط أعماق الوعي الفلسطيني في لحظة تاريخية فارقة، يسعى محمد نعيم فرحات في كتابه "كمين غسان كنفاني: كيف تعقب النص تاريخه وأدركه" (دار العائدون - عمّان 2021) إلى قراءة الوعي الفلسطيني وإخفاقاته من خلال أعمال كنفاني الروائية والقصصية، طامحاً إلى العثور عما يلقي ضوءاً ساطعاً على ماضي الجماعة الفلسطينية وصعودها وانكساراتها وإخفاقاتها الراهنة، وبما أن فرحات ليس ناقداً أو منظراً أدبياً، بل هو متخصص في علم الاجتماع، فإنه يضع البحث في الشكل والقراءة النصية التي تكشف عن أدبية عمل كنفاني جانباً، وينشغل بقراءة الوعي الفلسطيني من خلال هذه الأعمال في إطار ما يسميه "علم اجتماع الثقافة"، مستفيداً من مروحة واسعة من الرؤى النظرية لفريدريش هيغل وجورج لوكاش وماكس فيبر ولوسيان غولدمان وبيار بورديو ورولان بارت وميخائيل باختين وجيل دولوز وميشال فوكو من بين آخرين، إضافة إلى الكتابات السابقة لعدد كبير من الكتاب والنقاد العرب الذين كتبوا عن غسان كنفاني، مثل محمود درويش ويوسف سامي اليوسف وفيصل دراج.

لكن محمد نعيم فرحات يستخدم هذه المروحة النظرية والنقدية الواسعة لبناء نموذجه للوعي الفلسطيني المستل من المدونة الكنفانية الروائية والقصصية بخاصة، قارئاً هذا الوعي في لحظات انقطاعه وانبثاقه وصعوده وإخفاقاته.

العودة إلى كنفاني

وعودة إلى غسان كنفاني الذي عاش 36 عاماً (1936 – 1972)، يتبدى بوضوح أنه ما زال إلى اليوم، وربما لسنوات وعقود مقبلة، موضوعاً للدرس والبحث والاستعادة وإعادة النظر والاحتفاء النقدي والسياسي، وقد صدرت عنه منذ استشهاده عشرات الكتب وكتبت عنه مئات الدراسات وآلاف المقالات، كما أن أعماله الروائية والقصصية والمسرحية ودراساته الرائدة حول ثورة 1936 الفلسطينية، والأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة، والأدب الصهيوني، وكذلك مقالاته النقدية والسياسية وافتتاحياته للصحف والمجلات التي ترأس تحريرها، تظل موضع دراسة وتفكر، ويجد فيها الباحثون في الأدب الفلسطيني والعربي كذلك جوانب متجددة للدرس والقراءة، ويعثر فيها الباحثون في السياسة وعلم الاجتماع على مصادر أساسية تسعفهم في قراءة تطور الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي فحص معنى الهوية الفلسطينية وتبلورها.

أصبح هذا الكاتب الفلسطيني اللامع الذي استطاع التقاط اللحظة التاريخية لصعود المقاومة الفلسطينية، ووصل حاضر الفلسطينيين بماضيهم، وكان قادراً على استشراف مستقبلهم في تلك اللحظة التاريخية، أيقونة فلسطينية وعربية، لكن الاحتفال الدائم به ككاتب ومناضل وقائد سياسي وشهيد فلسطيني لا ينبع فقط من استشهاده في بيروت عام 1972، حين فجر الموساد الإسرائيلي سيارته فأودى بحياته وحياة ابنة أخته لميس، بل إنه يصدر في الأساس عن عمله الإبداعي المميز في كل ما كتب تقريباً، ومن كونه مثقفاً عضوياً بالمعنى الغرامشي للمفهوم، ومن قدرته على أن يصل عمله الروائي والقصصي ودراساته باللحظة التاريخية الممتدة من خمسينيات القرن الماضي وصولاً إلى أفق سبعينياته. لقد تضافر النص مع التاريخ وأصبح جزءاً منه، إذ يضيء النص التاريخ ويحفزه على التغير، كما يضيء التاريخ النص ويفسر حركته الداخلية والفكر الذي ينطوي عليه.

ضرورة قراءته

إن عسان كنفاني من ذلك النوع من المبدعين والمثقفين الذين يصعب فهم التحولات التي مست بعصاها السحرية الجماعة الوطنية الفلسطينية من دون قراءة عملهم، وعلى الرغم من عدم اكتمال مشروعه كونه غادر هذا العالم وهو في عنفوان إبداعه، فإن ما كتبه يكفي لتبين البنيات الذهنية للجماعة الوطنية الفلسطينية، ورؤية وعي هذه الجماعة وهو يتحول في مرحلة فارقة من تاريخ الفلسطينيين والعرب بعد نكبة 1948 وهزيمة 1967، التي دفعت إلى المقدمة الفلسطينيين الراغبين في أخذ أمرهم بأيديهم ومقارعة عدوهم وغاصب أرضهم.

لكن بغض النظر عن مآل الواقع الفلسطيني والخسارات التي مني بها المشروع الوطني للجماعة الفلسطينية، والمشكلات البنيوية التي يعانيها وعي هذه الجماعة للحاضر والمستقبل، إلا أن ما أنجزه كنفاني من روايات وقصص على الخصوص، يظل قابلاً للفحص والنظر وإعادة النظر، للدلالة على صعود الجماعة الفلسطينية وإخفاقاتها. إن رواياته وقصصه المميزة على صعيد الفن والشكل الأدبي بكل ما تنطوي عليه من طاقة إبداعية خلاقة، تضع عمله الإبداعي في مصاف أهم ما أنجزه الروائيون وكتاب القصة العرب في القرن الـ 20، وهي لا تصمد فقط للقراءة النقدية التي تركز على مسائل الشكل الأدبي والخلق الفني، بل إنها تمثل مادة مهمة لفحص المؤرخ وعالم الاجتماع والباحث في علم نفس الجماعات البشرية، بل إنها تصلح لاستلهام السياسيين والاستهداء بها في رسم معالم الطريق بالنسبة إلى الجماعات الوطنية بصفتها أعمالاً نصية تتخلق على صفحاتها، ومن كلماتها ما سماه بنديكت أندرسون "الجماعات المتخيلة".

وفي هذه الحال فإن النص الإبداعي يتحرك في اتجاهين، في اتجاه القبض على حركة التاريخ وفي اتجاه التأثير فيه والدفع نحو تغييره، ولقد كان هذا هو حلم غسان كنفاني، بل حلم الكتاب الفلسطينيين في زمنه، لكن عدداً قليلاً من الكتاب الفلسطينيين استطاع تحقيق هذا التأثير، وقد كان غسان واحداً من هؤلاء القلة إلى جانب محمود درويش وإدوارد سعيد وسميرة عزام، وإلى حد ما إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا.

النص والواقع

وإذا كان الباحث يكثر من الاستشهاد في كتابه بآراء منظرين ونقاد كثر حول علاقة النص بالواقع وطريقة اشتغاله في سبيل بناء مادته النصية، فإنه يستقر في النصف الأخير من كتابه على المنهج البنيوي التكويني وتنظيرات الناقد والمنظر الفرنسي (الروماني الأصل) لوسيان غولدمان (1913- 1970) حول مفهوم البنيات الذهنية ورؤية العالم والوعي المحدد للجماعات الثقافية، والوعي القائم والوعي الممكن، وهي مفاهيم تمد الباحث بالعدة النظرية التي تمكنه من التعامل مع نص كنفاني كأرضية ملائمة لفحص وعي الفلسطينيين في لحظات محددة من التاريخ، وكذلك الكشف عن أقصى درجات الوعي لديهم، كما تصورها أعمال غسان كنفاني القابلة للنمذجة من وجهة نظر الباحث، والقبض على البنيات الذهنية المتحولة للجماعة الفلسطينية، من القبول بالموت أو شروط المنفى إلى اعتناق المقاومة والفعل. ويضيف الباحث إلى عدته النظرية المتمثلة في عمل غولدمان وتلامذته وحوارييه، من المشتغلين على البنيوية التكوينية، أدوات تحليل الخطاب للكشف عن عناصر بنية الخطاب الكنفاني ومراحل تطوره وتحوله: من شعور الجماعة الفلسطينية بعقدة التقصير والذنب واستحضار البطولة الغائبة وتمجيد الموت في مقابل عذابات المنفى وذله ومهانته، والاحتفال بالبطولة الغائبة، (ص: 160 - 167)، عبوراً في اتجاه زمن المقاومة وإرادة المجابهة كحاجة وضرورة وتجسيداً لصيرورة الوعي الجديد (ص: 168- 170).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن "رهافة البصيرة وعقلانية الوعي والقدرة على التنبؤ والتقدير والتشخيص" (ص: 178) لحال الوعي الفلسطيني في عمل كنفاني، لا يتم تثميرها في الواقع الفلسطيني الراهن وما قبل الراهن، خصوصاً حين تم العبور من المنفى إلى الوطن بعد اتفاق أوسلو (ص: 191). وكما يرى المؤلف فإن قدرة نص كنفاني على رؤية الأفق بأوسع احتمالاته (ص: 193) وتوجسه وحذره وتنبيهه إلى إمكان الارتداد وفقدان الطريق، قد جرت إشاحة البصر عنها في الواقع الفلسطيني الراهن، وهو ما يعيده إلى خلل بنيوي وأمراض مستعصية في الوعي الفلسطيني، ومن الواضح في الصفحات الأخيرة من الكتاب أن المؤلف يعبر من بنية النص إلى بنية الوعي ومن ثم إلى بنية الواقع، ساعياً إلى تقديم نقد جذري للوعي الفلسطيني، وبصورة أخص للسياسة الفلسطينية، ولعل هذا ما يفسر عنوان الكتاب، إذ يبدو النموذج الذي يقدمه كنفاني للوعي الفلسطيني في لحظة فارقة من تاريخه بمثابة كمين للسياسة الفلسطينية بعد أوسلو، التي لم تسع إلى تثمير هذا النموذج أو الاستفادة من قدرته الاستشرافية المدهشة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة