Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السعودية وتركيا: أعباء الماضي لا تلغي فرص المستقبل

تحديات إقليمية وعالمية فرضت تقارباً يرى فيه محللون "طوق نجاة" لأردوغان

التقى الأمير محمد بن سلمان الرئيس أردوغان في مكة قبل شهر في أول لقاء بينهما منذ تأزم العلاقة بين البلدين (واس)

ألقى التباين السياسي بظلاله على مواقف السعودية وتركيا لعقود بل قرون، شهدت خلالها العلاقة بين الدولتين كل صنوف السلم والتوتر، قبل أن تدفع الظروف وفرص المستقبل الفريقين على التحرر ولو موقتاً من أعباء الماضي، والتلاقي في المنتصف على نحوٍ مما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السعودية قبل شهرين وولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى تركيا هذه الأيام.

ومع أن وسائل التواصل العالمية والعربية ضجت بمشهد احتضان الرئيس الأمير لكأنه يقابل أخاً له وشقيقاً بعد حين من الأشواق وشط المزار، إلا أن السياسيين دائماً ما وجدوا قواسم المحبة والألفة حين يشاؤون، كما لم يعدموا قط الأعذار تأجيج الخلافات، خصوصاً أردوغان الذي عرف السعودية عن قرب بعد أن فتحت له ولقيادات حزبه أبوابها.

ووصف الرئيس التركي أخيراً تلك الصلات بالقول إن بلاده والسعودية "دولتان شقيقتان تربطهما علاقات تاريخية وثقافية وإنسانية"، أراد البناء عليها لتعزيز "جميع أنواع العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبدء حقبة جديدة بيننا".

لكن ذلك لم يمنعه حين أراد من ركوب موجة ما يسمى "الربيع العربي"، وإطلاق العنان لطموحه الصارخ في معاكسة الرياض وحلفائها الإقليميين مصر والإمارات، محاولاً بسط نفوذ جماعات الإسلام السياسي على مفاصل الإقليم، قبل أن يتصاعد ذلك الطموح إلى محاولة شق الصف الإسلامي الأكبر، بإنشاء تكتل مواز لمنظمة التعاون الإسلامي في كولالمبور، ما أحوج الرياض إلى جهود استثنائية لإفساد مفعوله.

ومع ذلك يدافع أردوغان بأنه في كل مناسبة أكد أن "أهمية استقرار وأمن أشقائنا في منطقة الخليج مثل أهمية استقرارنا وأمننا" في تركيا.

دوافع التقارب ورسم الخرائط

وكان لافتاً في هذا الصدد أن تركيا بين الدول الإسلامية، التي ساندت موقف الرياض في "عاصفة الحزم"، والدفاع عن الشرعية في اليمن من خلال التحالف العربي، قبل أن تنشأ الأزمة الخليجية في 2017 التي انحازت فيها أنقرة إلى قطر حليفتها في الدفاع عن حكم الإخوان مصر الذي كان إسقاطه أساس المشكلة بين تركيا والرياض.

ومع أن الأداء التركي في الملفات الإقليمية الحرجة بالنسبة إلى السعوديين ظل متواضعاً في مثل تهديد إيران أمن المنطقة، فإن الباحث في العلاقات الدولية باسل الحاج يرى أن المصالحة بين الرياض وأنقرة قد تفضي إلى توازن يكبح جماح إيران في المنطقة أو يحد من تأثيرها بعض الوقت.

ويرى أن "زيارة الأمير محمد بن سلمان تركيا اليوم بالغة الأهمية، لأنها ستفتح صفحة جديدة في وقت تتغير كل المعادلات الإقليمية والدولية بعد بدء روسيا ما أطلقت عليه عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا".

بينما يفسر مصدر تركي مسؤول أسباب التقارب الجديد مع الرياض بأنه "استعداد لمرحلة ما بعد نتائج المحادثات النووية الغربية - الإيرانية في فيينا تجنباً لأي مفاجآت إقليمية قد تحدث وتؤثر في لعبة التوازنات والمعادلات القائمة في المنطقة، مشابهة لما جرى في العام 2011 عندما قررت واشنطن الانسحاب من العراق وفتح الطريق أمام طهران للانتشار والتمدد هناك على حساب اللاعبين المحليين و الإقليميين"، وفقاً لإعلام تركيا الرسمي، الذي نقل عن المسؤول قوله إن "ملفات إقليمية حساسة مرتبطة بإعادة التموضع من أكثر من دولة فاعلة في الإقليم، باتت تتطلب التنسيق التركي السعودي كي لا تُرسم الخرائط على حسابهما خصوصاً في سوريا ولبنان".

ومنذ وصول الإدارة الأميركية الجديدة إلى السلطة، وجد الخليج كما تركيا أن توجهات البيت الأبيض في عهد بايدن لا تسير على النحو المأمول، فذهب محللون من "شاتام هاوس" البريطاني إلى أن التعاون الإقليمي أكثر نجاعة عبر الحوار الثنائي والجماعي، حتى مع إيران.

توجس إيران من "مظهر قوة" جديد

لكن الاستقطاب الذي ساد إثر غزو روسيا أوكرانيا، زاد الأمور تعقيداً، إلا أنه في الوقت نفسه أعاد التذكير بأهمية دول الإقليم خصوصاً السعودية ذات القدرة الهائلة على إحداث التوازن في سوق الطاقة وتركيا أبرز حلفاء الناتو في المنطقة، مما جعل تنسيق المواقف أكثر إلحاحاً.

أهمية التنسيق بين البلدين الكبيرين، دفع طهران إلى التوجس منه وهي التي ترى صحيفة "آفتاب يزد" فيها أن زيارة ولي العهد إلى تركيا "مظهر من مظاهر القوة والاقتدار، حيث استطاع البلدان السعودية وتركيا تجاوز الخلافات والتغلب على المشكلات التي حصلت بين البلدين في السنوات القليلة الماضية"، مشيرة إلى أن ذلك يظهر أن "دائرة من الحصار بدأت تفرض على إيران (تهددها) بعزلة سياسية وعسكرية".

غير أن المحلل السياسي التركي تورغوت أوغلو قلل من أهمية الخلافات السياسية بين الحزب الحاكم في تركيا والنظام الإيراني، فهو لفت إلى أن "عدداً من العرب يعتقدون أن تركيا القديمة التي تقف نداً لإيران لا تزال حاضرة، بينما نشهد أن اللوبي الإيراني في تركيا أصبح أقوى من أي وقت آخر، لدرجة أن قيادات كثيرة في حزب العدالة والتنمية لا تختلف مع إيران أيديولوجياً ولا سياسياً إلا في تفاصيل صغيرة".

وأكد أن النفوذ الإيراني داخل تركيا لا يقتصر على حزب أردوغان، إذ حتى فريق داود أوغلو يعتقد أنه في أيديولوجيته السياسية، "هو أقرب إلى إيران منه إلى دول الخليج على سبيل المثال".

في قرون مضت، وقف الأتراك العثمانيون دائماً في وجه التمدد الصفوي نحو المنطقة العربية في العراق والشام قبل أن يتراجع ذلك الاصطفاف في عهد الدولة التركية الحديثة، لكن سقوط نظام صدام حسين عام 2003، أغرى البلدين بسعي دؤوب نحو "بسط نفوذهما في دول الإقليم، وتوظيف كل معطياتهما التاريخية والجغرافية والاجتماعية والدينية والثقافية، وأصبح هذا التنافس واضحاً بشكل علني مع مرور الدول العربية بما يُسمى "الربيع العربي"، وفق خلاصة دراسة بحثية صدرت أخيراً عن مركز الملك فيصل للدراسات، بحثت التنافس بين تركيا وإيران على العراق بشكل خاص.

هل فات الأوان؟

في الجانب التركي حتى إن لم يكن التمدد الإيراني غير مزعج كما هو في الخليج، فإن مصالح الجمهورية الاقتصادية وحاجة أردوغان إلى الفوز في انتخابات 2023 وانهيار عملة بلاده بشكل مفجع، تجعله مضطراً لمنقذ اقتصادي، قد يدفع به إلى كسب أصوات الناخبين الغاضبين الآن. إلا أن الخليجيين في السعودية والإمارات الأكثر قدرة على إنعاش أنقرة لم يخدموا بايدن مجاناً حتى يقدموا القرابين لأردوغان من دون أي ثمن، فبالنسبة للرياض وأبو ظبي التي تعيش ربيعها المالي مع انتعاش أسعار النفط بوسعها فعل الكثير من أجل تركيا، لكن السؤال ماذا بوسع تركيا أن تقدم لها؟

في هذا السياق يرى أوغلو أن "أوان إنقاذ أردوغان انتخابياً قد فات على الأرجح، إلا أن أي استثمار في علاقات استراتيجية بين الخليج وتركيا هو إيجابي"، مشيراً إلى اعتقاده بأن الانفتاح الاقتصادي على تركيا من جانب السعودية قد يترك آثاراً إيجابية كثيرة، لكن "ليس من الواضح ما إذا كان سيفضي إلى انتخاب حزب العدالة مجدداً".

وشكلت السياحة الخليجية خصوصاً السعودية مورداً مهماً لتركيا في السنوات الماضية قبل الخلاف، مما دفع أنقرة إلى التعويل عند عودة المياه إلى مجاريها، على تحسن مباشر في حركة التبادل التجاري بين البلدين.

وذكرت وكالة الأناضول في نسختها الإنجليزية أن "مصادر في مجلس الغرف السعودية أفادت بأن الصادرات التركية إلى السعودية ستعود بشكل أسرع إلى طبيعتها بمجرد إعلان الدولتين استعادة العلاقات بينهما، وأنه لا حظر سعودياً على الواردات من تركيا... وأن بضائعها لا تزال متوافرة في السوق المحلية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء السعودية، ارتفعت واردات الرياض من تركيا بنسبة 2.8 في المئة في الشهرين الأولين من عام 2022، وهي التي تراجعت 62.3 في المئة إلى 3.32 مليار ريال (886 مليون دولار)، انخفاضاً من 8.82 مليار ريال (2.35 مليار دولار) في 2020، وهي قبل ذلك أعلى من هذا الرقم بكثير.

ولهذا كان رئيس الدولة التركية صريحاً في اعتبار العودة السعودية إلى أسواق بلاده "تشكل مخرجاً"، قائلاً للصحافة إثر عودته من قمة المصالحة في جدة "كما تعلمون هناك تطورات إيجابية للغاية مع منطقة الخليج، وزيارتي إلى السعودية أخيراً ستشكل مخرجاً هاماً في هذا الإطار (السياحي)، وواثق أن زيارات أشقائنا السعوديين إلى تركيا ستزداد بشكل أكبر".

من أجل العمل الإسلامي المشترك

في غضون ذلك، يرى المحلل الكويتي محمد الملا أن موقف السعودية الإيجابي نحو تركيا، قد لا يعني طي صفحة الماضي مع أردوغان الذي عرف بتقلباته السياسية.

وقال "كانت أهداف حزب العدالة الهيمنة على العالم الإسلامي حتى تعود سيطرة الإمبراطورية العثمانية على الأمة العربية والإسلامية، فرئيس الحزب لا ينكر أنه أحد أعضاء الإخوان المسلمين والداعم الأول لكل حركات الإخوان في المنطقة، لذلك كانت هناك حرب إعلامية تنطلق من تركيا تدعم قنوات الإخوان والحرس الثوري الإيراني في الإساءة المتكررة ضد السعودية والإمارات ومصر، كما لا ننسى محاولة إنشاء التحالف التركي الماليزي الباكستاني، ليكون بديلاً عن السعودية إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل".

ويرجح أن كلفة تلك السياسات وسواها، كبدت أنقرة ديوناً بأكثر من 400 مليار دولار، إلى جانب اعتماد البلاد المتزايد على الاستثمارات الخارجية، مما أوقعها في أزمة تزداد حدتها، "فما كان من الرئيس التركي إلا أن مد يد التعاون وقدم الاعتذار لمصر والإمارات والسعودية".

وأضاف "بما أن السعودية تؤمن بالتعاون المشترك لمصلحة المنطقة، قامت باستقبال أردوغان في 28 أبريل (نيسان) الماضي، وهي تدري أن الهدف من الزيارة فتح علاقات جديدة لإنقاذ حزبه في الانتخابات المقبلة بعد أن تدنت شعبيته، نتيجة إخفاقاته المتكررة... وهكذا فإن التقارب التركي مع السعودية قبلة المسلمين وممثلة العرب سيكون طوق النجاة للرئيس"، مشيراً إلى أن ذلك يدفع أنقرة إلى المرونة في تقديم أي تنازلات، يتطلبها الموقف الإقليمي.

 

وعلى الرغم من تصاعد الخلاف السياسي بين تركيا والسعودية الفترة الماضية، إلا أن الطرفين حاولا الإبقاء على خيوط رفيعة من التواصل ممتدة وظلت المقاطعة الاقتصادية شعبية غير رسمية، خصوصاً من جانب الرياض التي قال ولي العهد، إن بلاده "بوصفها حاضنة الحرمين الشريفين تسعى لأن تكون علاقاتها قوية مع كل الدول الإسلامية، بما فيها تركيا، وهذا أمر مهم لمصلحة المنطقة بشكل عام والعمل الإسلامي المشترك بشكل خاص".

ورداً على موقفه من الإساءات التي بدرت من مسؤولين أتراك آنذاك، أكد على المعنى السابق في حوار مع "الشرق الأوسط" اللندنية، متكئاً على إرث الرياض في الترفع عن المناكفات، فتركيزها منصب على "خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما وتحقيق أمن واستقرار وطننا ورخاء شعبنا، وليس الدخول في مناكفات تضر بمصالح وطننا والعالم الإسلامي، ونحن ماضون في تحقيق هذه الأهداف من دون التفات لما يصدر من البعض لأسبابهم الداخلية التي لا تخفى على أحد".

نبش الذاكرة أضر بالسياحة

من الناحية التاريخية كان لافتاً أن الدولة السعودية التي نشأت في الدرعية (أصبحت جزءاً من الرياض الآن) قبل 300 عام، قاومت منذ مرحلة مبكرة من تاريخها سطوة العثمانيين في الجزيرة العربية، فخاضت معهم حروب كر وفر، لم تنته إلا بانهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وهذا النوع من الذاكرة الأليمة ألقت بظلالها على نظرة الخليجيين والعرب إلى تركيا الحالية بعد أن أصبحت تستدعي ذلك الماضي بأساليب مختلفة، في وقت نسي كثير من العرب ذلك التاريخ وصاروا بين أكثر المستثمرين والسائحين إقبالاً على تركيا.

بل إن الباحث السعودي محمد الرميزان أجرى دراسة 2017 حول ظاهرة السياح السعوديين إلى تركيا، فوجد أن أكثر من 350 ألف سعودي توجهوا في تلك السنة إلى مدينة "طرابزون" وحدها، قبل أن تتوتر العلاقات باستفزاز تركيا السعوديين، بحسب قول العديد منهم.

 

ويقر الباحث المتخصص في الشأن التركي بأن المشاريع والعقود التجارية السعودية في المدينة محل الدراسة، نمت بوتيرة متسارعة نتيجة لعدد السياح بما انعكس على النشاط التجاري، الذي شهد أهم تطور بحسب الباحث مع تأسيس 30 شركة سعودية في المدينة.

كان ذلك قبل أن ينهار النشاط السياحي بشكل مطرد بعد الأزمة الخليجية، حتى جاء كورونا وأنهاه، لكن الجهات الأمنية في السعودية أنهت أخيراً حظر السفر إلى تركيا، في خطوة فهمت على أنها بادرة حسن نية من الرياض قبل توجه زعيمها القوي إلى أنقرة، قد وجدت ترحيباً من الأتراك وبعض السعوديين الذين كانوا يسافرون بمئات الآلاف إلى تركيا سنوياً، قبل الأزمات المتلاحقة بين البلدين.

روابط النسب والمصالح والجغرافيا

ومع فتح السعوديين ملفات تاريخية قاتمة للعثمانيين في بلادهم والمنطقة العربية عموماً مثل "سفر برلك، ومذابح الدرعية"، إلا أن ذلك لم يقض على كل الروابط الاجتماعية والدينية، إذ أبدى أخيراً أحد الأمراء السعوديين هو تركي الفيصل اعتزازه بأن "هناك روابط تربطنا بتركيا ليس فقط على صعيد الجغرافيا بل أيضاً على صعيد العلاقات الإنسانية والعلاقات الأسرية بين البلدين، فجدتي كانت من أصول تركية أو شركسية في الواقع"، بحسب قوله.

وعلى صعيد الوضع الاقتصادي أكد في حديثه مع "عرب نيوز" السعودية أن "العلاقات بين البلدين يجب أن تكون من الأفضل على صعيد المنفعة المتبادلة إن كان في التجارة أو المقاولات أو في المشاريع التطويرية أو في الاستثمارات السعودية في تركيا وما إلى ذلك، آمل في أن كل تلك الأمور ستعود إلى طبيعتها في ظل عودة العلاقات إلى طبيعتها".

 

المزيد من تحلیل