Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نزاع جبال النوبة... من كسر المركز بالخرطوم إلى الزهادة فيه

الحركات المسلحة بأغلب النزاعات الأفريقية لم تعد راغبة بإسقاط الحكومة المركزية على خلاف الجيل السابق

اعتزلت حركتا الحلو وعبد الواحد مجريات السياسة السودانية بعد ثورة ديسمبر  2018   (أ ف ب)

تصادف أنني كنت أطالع مقالاً بمجلة "فورن بوليسي"، مايو (أيار) – يونيو (حزيران) 2022، عما سماه الكاتب الوجه الجديد في النزاعات الأفريقية، في الوقت الذي كان وفد الحزب الشيوعي السوداني يزور حركتين في النزاع، ويمهر معهما مواثيق سياسية معارضة لحكومة الخرطوم.

الحركتان هما الجبهة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. الأولى، والأكثر أهمية، هي ما كان يعرف بـ"قطاع الشمال" في الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي أسسها العقيد جون قرنق جنوب السودان القديم (دولة جنوب السودان اليوم منذ 2011) وتنادت للوائها جماعات في الشمال، خصوصاً من أقاليم جبال النوبة بولاية جنوب كردفان، ومنطقة النيل الأزرق بجنوب شرقي السودان، وفي إقليم دارفور بأقصى غرب السودان. وتحتل هذه الحركة حالياً قسماً مرموقاً من جبال النوبة في جبال عصية معروفة بجبال كاودا.

أما حركة تحرير السودان لعبد الواحد فثمرة انقسام 2006 صارت بموجبه جناحان واحد لعبد الواحد وآخر لمني مناوي والي إقليم دارفور الحالي بعد انعقاد اتفاقية السلام في جوبا 2020.

فمن رأي المقال أن الحركات المسلحة في كثير من النزاعات الأفريقية زهدت في إسقاط الحكومة المركزية في بلدها على خلاف الجيل السابق، منها الذي خرج ليستولي على سدة الحكم أو الانفصال. فصار النزاع في هذا الطور الطارئ أسلوب حياة تمنح به الحركات المسلحة شبابها وسيلة للعيش. ونشأت طبقة اجتماعية بأكملها حول النزاع المسلح تستثمر فيه وتتربح منه بسقط من الدولة المركزية نفسها، أو إتاوات على الأهالي الذين في دائرة نفوذها، أو ما جد من استغلال ثروات باطن أرضها.

اعتزلت حركتا الحلو وعبد الواحد مجريات السياسة السودانية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 بعد تعاطٍ من بعد ومشروط. فحركة عبد الواحد فرغت مبكراً من وصف الحكومة الانتقالية بعد الثورة بـ"الإنقاذ 2"، احتجاجاً على المساومة التي انعقدت بين المدنيين والعسكريين وساقت لتكوين تلك الحكومة في أغسطس (آب) 2019.

ولم تنجح محاولات الحكومة الانتقالية في جذب الحركتين إلى مائدة مفاوضات السلام في جوبا، التي انعقدت في يناير (كانون الثاني) 2019 وحضرتها حركات مسلحة أخرى. وانتهوا إلى اتفاق السلام المعروف (أغسطس 2020) الذي زاد من زهادة الحركتين في الأمر برمته.

القارئ المتمعن للاتفاق، المثير للجدل في يومنا هذا، سيرى ربما أن من أسباب زهد الحركتين أن صار السلام في نظرهما مجرد استرداف لهما في اتفاق سبق لم يترك شيئاً لخيالهما كما يقال.

سنترك هنا سيرة حركة عبد الواحد، التي يديرها حالياً من جنوب السودان، ولا يزعم احتلالاً لأرض في دارفور، كما يفعل الحلو. وسنرى زهادة حركة الحلو راكزة في استعصامها، بل استعصائها، بالجغرافيا والثقافة. فهي تحتل جبل كاودا، الذي لم تنجح حكومة البشير في صعوده لحرب الحركة بقدر ما حاولت.

وكادت العبارة "الصلاة في كاودا" تصير مثلاً في الفشل بقدر ما تكررت عند الرئيس المخلوع البشير، معلناً عن عزيمته تحريرها عنوة والصلاة على أرضها المطهرة. وزارها عبد الله حمدوك، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية المقال والمستقيل في يناير 2022، لكسر الحاجز السياسي والنفسي وليفتح الباب لتطورات في مفاوضات حكومته مع الحركة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 أما استعصام الحركة الأكبر من دون التعاطي مع السياسة القومية، فقد تمثل في مطلبها بدستور علماني أو الانفصال. وبدا المطلب بالعلمانية مصطلحاً تعجيزياً. فالعلمانية مفهوم متروك في خطاب الدستور السوداني من فرط شيوع الثقافة الثيولوجية المضادة لها التي حقنت بها الحركة الإسلامية ودولتها عروق الثقافة لنحو ستة عقود. واتفق لليسار وغير اليسار أن يدعو للدولة المدنية بدلاً من ذلك، هرباً من مصطلح مفخخ فكرياً.

واستغربت من جهة أخرى لخروج الحركة الشعبية بالدعوة للعلمانية لفظاً بعد الثورة. وكان آخر ما تعاقدت به حول الدولة والدين مع حلفائها من الأحزاب والحركات المسلحة المعارضة لنظام البشير في ميثاق باريس (2014) هو فتح باب النقاش مشرعاً في المسألة. فقال الميثاق "ناقش الطرفان بعمق علاقة الدين والدولة كواحدة من القضايا الجوهرية، واتفقا على مواصلة الحوار للوصول إلى صيغة مرضية لكل الأطراف".

ولم ينعقد هذا الحوار بين الأطراف بعد. وليس السؤال هنا عن كيف وصلت الحركة لصيغتها في العلمانية كفاحاً، بل لماذا تبدو غير مكترثة بمتاعب رفاق الطريق الذين ربما لم يستقروا على رأي من الأمر بعد. وبدا أنها تنازلت عن تسمية مطلبها بفصل الدين عن الدولة بـ"العلمانية"، في حديث للحلو بندوة للشباب في مدينة أم درمان. وهو تنازل بمثابة المجاملة لا العقيدة.

إذا كان مطلب الحركة الشعبية الآن هو فصل الدين عن الدولة بعد أن أضربت صفحاً عن العلمانية فقد جاءها على طبق. فتعاقد عليه معها حمدوك في سبتمبر (أيلول) 2020، ثم الحزب الشيوعي في المدة نفسها في وثائق صدرت بعد لقاءات معها متعاقبة في أديس أبابا. وجاء فيها اتفاق الأطراف حول فصل الدين عن الدولة. 

ولا جديد مع ذلك في هذا. فمن حيث المبدأ صار فصل الدين عن الدولة منذ الثورة عقيدة حكومية ناجزة. فلا أعرف نصاً قضى بفصل الدين عن الدولة بغير مواربة وبإسراف مثل وثيقة سلام جوبا (أغسطس 2020) التي اعتزلها الحلو. فجاء القول فيه صريحاً بالفصل بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. علاوة على الاتفاق على وقوف الدولة على مسافة متساوية بين الأديان والثقافات من دون أي انحياز إثني أو ديني أو ثقافي يؤدي إلى الانتقاص من هذا الحق. وغيرها، بل والتقى الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، بالحلو في جوبا في مارس (آذار) 2021 ووقعا اتفاق مبادئ نص على فصل الدين عن الدولة مرة أخرى. كما عقدت الحكومة مع منظمات دولية ورشة خبراء في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 بعلم الحركة دعت إلى فصل الدين عن الدولة بصيغ مختلفة.

ولم تجد هذه الزمالة الحكومية والسياسية الكثيفة مع الحركة حول فصل الدين عن الدولة فتيلاً. فانهارت المفاوضات بينها وبين الحكومة الانتقالية في 16 يونيو (حزيران) 2021 حول جملة مسائل، كانت منها علاقة الدين والدولة. واعتزلت الحركة من يومها مجريات السياسة في الخرطوم، التي تزاحمت الشدائد فيها على الحكومة الانتقالية حتى صرعتها في أكتوبر 2021.

وهذا ما أوحى إليَّ أن الحركة ربما تحولت إلى حالة النزاع التي طرأت على أفريقيا مما نوهت بها "فورن بوليسي". وهي الحالة التي صارت بها الحركات المسلحة في النزاعات في القارة أسلوب حياة. فلم تعد تطلب الاستيلاء على كرسي الحكم في البلد ولا الانفصال صراحة وبقوة.

من الجهة الأخرى، صعبت الحركة مطلب العلمانية بجعله منتجاً تستحصله من الخرطوم "قبض إيد"، كما نقول، لا عملية (process) سياسية خلافية كبرى هي طرف عظيم الأهمية فيها. والكسب فيها بالأصالة لا بالوكالة. فالحركة مثلاً لا تتوقف عند إعلان مبدأ العلمانية في الحكم وحسب (وهو أمر يصطرع حوله الناس)، بل تصر أيضاً على أن تتحقق معه، وفي الوقت نفسه، توابعه مثل إلغاء قانون الزكاة وتغيير يوم العطلة إلى الأربعاء بدلاً من الجمعة والسبت. وصار المطلب الأخير نادرة تتفكه بها المجالس. وبدا أنها لا تريد أن تنتظر بهذه التوابع مسار التشريع في نظام برلماني عاقب. ولتأمين الفصل بين الدين والدولة دعت أن يكون هذا الفصل، من بين حقوق سياسية أخرى، بنداً فوق دستوري لا يخضع شرعه لتبديل. وكأن يد داعية الدولة الدينية ستنشل من دون بند دستوري يقف بينه وبين مشروعه.

أخذ رفاق الحزب الشيوعي السابقون في جماعة الحرية والتغيير عليه أنه أراد بمواثيقه مع حركة الحلو وعبد الواحد خلق مركز معارض ثان لحكومة الانقلاب. وسبق كما رأينا أنه كان للشيوعي ميثاق مع الحركة الشعبية. وله آخر سبق أيضاً مع حركة عبد الواحد (سبتمبر 2020) حول كسر مركز الدولة القديم لسودان جديد. ولم نرَ من الحركتين مع ذلك سوى التباعد عن سياسات هذا المركز شيئاً فشيئاً. وصح السؤال، والحال على ما نرى، عن حظ مواثيق الشيوعي الجديدة في أخذ الحركتين من الزهادة في المركز إلى الانشغال به.

المزيد من آراء