من جزيرة هايتي التي كان يحكمها في ذلك الزمن الديكتاتور غير الظريف والمستبد غير العادل المعروف باسم "بابا دوك"، إلى فيتنام ما قبل الحروب الأميركية التي دمرتها ودمرت أميركا، أي خلال الفترة التي شهدت آخر أيام الاحتلال الفرنسي للهند الصينية، إلى كوبا ما قبل كاسترو وأحياناً خلال عهده، فبراغ التي كان فيها مرور غراهام غرين خلال كتابة "الرجل الثالث" فيلماً سيتحول لاحقاً إلى رواية تتضافر مع حكاية تجسس، تحولت بدورها، يوماً، إلى كتاب شرائط مصورة، وصولاً إلى كينيا الأفريقية أيام ثورة الـ"ماو ماو" التي أنتجت لديه روايته "الفلسفية" "جوهر القضية"، تجول غراهام غرين في بلدان كثيرة من العالم، وغالباً بحثاً عن مواضيع لرواياته أسوة بما فعل في خضم ذلك كله، في المكسيك، حيث كتب رائعته "السلطة والمجد". لقد كتب غرين معظم رواياته بتلك الطريقة أي انطلاقاً من سفراته المتعبة التي سيقول إنها في نهاية الأمر لم تكن متعبة، بل هي شكلت لديه في الحقيقة "دروب هرب" كانت أساسية في حياته إلى درجة أنه استعار التعبير نفسه عنواناً لواحد من أكثر كتبه ذاتية أصدره تالياً لكتاب عن طفولته وصباه عنوانه "نوع من الحياة".
سيرة الذات في كتابين
ونعرف أن هذين الكتابين رسما الخطوط الأساسية لسيرة غرين التي سيشتغل عليها كاتب سيرته الرسمية خلال السنوات الأخيرة من حياته ليصدر تلك السيرة في جزأين باتا اليوم مرجعاً يعود إليه الباحثون.
ومع ذلك لا بدّ من القول إن "دروب الهرب" يتميز بخصوصية تجعله يبدو محايداً من خارجه، ومها قلنا عن ذاتية كاتبه، وهذه الخصوصية تتمثل طبعاً في أنه لكونه كتاباً في أدب الرحلات من ناحية ما، فإنه يرسم لنا الخلفية التي انبثق منها العدد الأكبر من روايات غراهام غرين، بحيث بات من الصعب من بعد ظهور هذا الكتاب التعامل مع تلك الروايات من دون الرجوع إليه.
فهنا، فصل بعد فصل ورحلة بعد رحلة، يغوص بنا الكاتب في تلك التجارب التي حركته ومن ثم حركت قلمه، وكذلك يبسط أمامنا تلك المشاعر والمخاوف والشكوك والتوقعات والخيبات التي دائماً ما رافقت تفاعله مع أحداث ومواقف كانت هي الممهد الأساس لكتاباته الروائية. والحقيقة أنه نادراً ما حدث لكاتب أن استفاض إلى هذه الدرجة في "كشف" أسرار لعبته الإبداعية أمام قرائه، وصولاً حتى إلى الحديث عن لحظات كان يفضل فيها أن يتوقف عن الكتابة مستبدلاً إياها بما يسميه "العودة إلى العمل مع أجهزة الاستخبارات البريطانية" باعتبار هذا العمل "أسهل كثيراً" ولا يطالبه باللجوء إلى جوانيته وعواطفه الخاصة كما يتطلب منه فعل الكتابة الروائية، وفي هذا السياق، لا تبدو قليلة تلك اللحظات التي يضعنا غرين خلالها في مواجهة شخصيات حقيقية يقابلها هنا وهناك، لنتذكر من فورنا كيف أنه قد سبق لنا أن التقينا بها في هذه الرواية أو تلك من إبداعاته.
الخبرة محلّ عذوبة الصبا
في شكل ما هنا، يستطرد غرين إذا ما كان قد توقف عنده في كتابه السابق "نوع من الحياة" ولكنه يحل نضج الشباب والخبرة محل عذوبة الصبا، ويحل التحليل المعمق للعلاقة بين مشاهداته وأدبه محل حكايات البدايات. ويبدو الفارق من ناحية أخرى عميقاً في أسلوبه الذي يتراوح بين التشويق والرصانة مع وقفات لا تفتقر إلى كوميدياً الموقف وبخاصة مثلاً حين يحدثنا الكاتب عن عمله وطبيعة هذا العمل مع أجهزة استخبارات بلده، أو بخاصة حين ينتقل بنا بشكل غير متوقع إلى هوليوود، حيث يروي لنا بلغة مغرقة في السخرية، اللطيفة على أية حال، ما كان من شأنه مع عاصمة السينما "حين استقدمته"، بحسب تعبيره الحرفي على أية حال، للتعاون السيناريستي معه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هنا يغلب عليه المرح الإنجليزي ويتحف قراءه بصفحات تجعلهم يقعون على قفاهم ضحكاً، حتى من دون أن يبدو هذا الضحك مؤذياً لهوليوود نفسها. وعلى الرغم من هذا كله، يبدو غرين في منتهى الصدق والجدية حين يؤكد لنا أنه إنما شاء متعمداً أن يروي هذا كله خارج لغة الذات، فـ"في نهاية الأمر، بت على يقين من أن هذه الأجزاء من سيرتي، إذ هي الآن على علاقة وثيقة بإنتاجي الأدبي المطروح كما هو أمام القراء، لم أعد أنا من أملكها، بل القراء أنفسهم، بالتالي، أسردها بأكبر قدر ممكن من الحياد أو الموضوعية إذا شئتم".
ذكريات نصف قرن
كما قلنا، إذا استبعد غراهام غرين من هذا النص الواقع في حدود 300 صفحة، والذي صدر خلال الأعوام الأخيرة من حياة الكاتب، التعبير عن أية ذاتية ليسرد ذكرياته التي عايشها أكثر من 50 عاماً، ولكن، كما سيقول هو نفسه، انطلاقاً من مقالات وحوارات كانت أجريت معه، وكذلك انطلاقاً من ملاحظات كان قد اعتاد أن يدونها كي يعود إليها خلال رسمه شخصيات الروايات، إضافة إلى كتابات حميمة، "عرفت كيف أجردها من جزء كبير من حميميتها حين استخدمتها هنا"، كما قال. ومع ذلك، لا شك أن هذا الكتاب يمثل خير تأمل كتب غرين حول حياته وعمله الكتابي، وعلى هذا النحو، نتابعه طول خمسة عقود من السنين حيناً محرراً مساعداً في صحيفة "التايمز"، وحيناً مراسلاً لمجلة "لايف" الأميركية أو لـ"الصانداي تايمز " اللندنية أو حتى "الفيغارو" الفرنسية، ثم نراه ناقداً سينمائياً وكاتباً للسيناريو قبل أن نكتشفه عميلاً في خدمة الأجهزة السرية التابعة لصاحبة الجلالة في مناطق متعددة من غرب أفريقيا، قبل أن نعود إلى اكتشافه كاتباً روائياً وغير روائي، ولنلاحظ هنا أن جولاته العالمية لم تكن لتلبية متطلبات مهنته الصحافية، بل سعياً وراء استلهامات أدبية، ولعل المفارقة الكبيرة في حياته ومساره تكمن هنا.
روايات منسية تماماً
فغرين حين يمضي أربعة شتاءات متتالية في فيتنام، فإنه إنما يفعل ذلك ليكتب "الأميركي الهادئ"، وكذلك الحال حين يتغلغل في الحياة الاجتماعية في بولندا في الأزمنة الستالينية الأكثر قسوة، أو حين "يشارك" في ثورة التحرر الوطني المعروفة بـ"ثورة ماو ماو" في كينيا، ولعل الجانب الأكثر إثارة في هذا الكتاب يكمن حين يحدثنا غرين في بعض فصوله وصفحاته عن روايات له لا نعرف عنها شيئاً، بل لم تمر بنا حتى عناوينها، والسبب في غاية البساطة: لقد كتبها ونسيها بين أوراقه من دون أن يرغب في نشرها، والغريب أن عددها ليس بالقليل، ربما سبع أو ثماني روايات لم يعد الكاتب إليها إلا على صفحات "دروب الهرب"، وتحديداً انطلاقاً من نظرة نقدية بالغة القسوة تبدو قادرة على تفسير سبب نسيانه لها، أما عن الإشارة إليها في هذا الكتاب، فلها بالنسبة إليه، مبرر واضح: لا يمكنه التغاضي عنها طالما أنه يعمل هنا على استعادة مساره الإبداعي، وهو مسار شكلت هذه الروايات بعض محطاته، ومن الواضح أن اكتمال هذا المسار هو الذي يمكنه في آخر سنوات حياته من أن يقول لنا إنه لئن كانت الكتابة قد شكلت بالنسبة إليه على الدوام نوعاً من العلاج النفسي لما مر به من هموم وإحباطات، فإن هذا ينطبق أيضاً على خلفية وضعه هذا الكتاب ويبرر حتى عنوانه.
بدلاً من الانتحار!
وهنا لا يفوت غرين أن يشعب حديثه ليشير إلى أنه لئن كانت الكتابة بالنسبة إليه درب هروب ناجعة، فإن الصداقة كانت درباً أخرى من النوع نفسه. وهو يتوقف هنا مطولاً عند عدد من أصدقائه ومن بينهم الكاتب الإيطالي ماريو سولداتي والمخرج الإنجليزي كارول ريد (محقق فيلمه "الرجل الثالث") وزميله الكاتب إيفلن فو، ويبقى أن نشير هنا أخيراً إلى اعتراف يرتبط بالكتاب نفسه: فلئن كانت فصول هذا الكتاب تحدثنا عن أسفار غرين كدروب هرب أساسية، ها هو في النهاية يخبرنا أنها كانت حلول اللحظات الأخيرة أي حلول ما قبل الغرق في اليأس مؤكداً أنه إنما "كنت أسافر لأنني فقط لم أكن أملك من الشجاعة ما يمكنني من الانتحار".