في مطلع العشرينيات، شغل سؤال مستقبل الفن فنانين كثراً في ألمانيا. ولا عجب في ذلك، فالتجربة الملموسة للجبهة، خلال الحرب العالمية الأولى، والهزيمة المؤلمة قيّدتا يوتبيات الجيل التعبيري وفنه الرؤيوي والسيكولوجي. وإثر تبدّد الأوهام المثالية، خصوصاً في ما يتعلق بصراع نظر البعض إليه كملحمة بطولية، حوّل فنانون ألمان أنظارهم في اتجاه الواقع وتبنّوا أسلوباً تصويرياً أكثر حيادية وأقل تعبيرية، يميل نحو موضوعية أكبر.
وفي معرض بحثهم عن تسمية تلائم هذه العودة إلى التصوير الواقعي، وصف بعض النقّاد هذا التيار الفني بـ "الطبيعية الجديدة"، وبعضٌ آخر بـ "ما بعد التعبيرية" أو بـ "الواقعية السحرية"، قبل أن يُطلِق مؤرخ الفن غوستاف هارتلوب عليه تسمية "الموضوعية الجديدة" التي لا تلبث أن تصبح شعاراً ثقافياً رائجاً والتعريف الأدقّ لوصف روح العصر خلال "جمهورية فايمار". تيار تميّز خصوصاً في ملامسته مختلف الميادين الفنية (الرسم، الهندسة، الديزاين، الموسيقى، الشعر، المسرح...)، وطمحت وجوهه إلى تجاوز المفهوم النخبوي والفرداني للفن في اتجاه ثقافة فنية شعبية وجماعية.
سينوغرافيا فريدة
وإلى الغوصٍ في مختلف جوانب "الموضوعية الجديدة" وإنجازاتها، يدعونا المعرض الضخم الذي ينظّمه حالياً "مركز بومبيدو" الباريسي، في مناسبة مرور قرن على انبثاقها. معرض يعتمد سينوغرافيا فريدة من نوعها تسمح، من خلال نحو 900 عمل فني ووثيقة، بقراءة متعددة الاختصاصات لهذه الحركة المجيدة.
في الصالة الأولى من المعرض، يتبيّن لنا كيف استبدلت هذه الحركة تمجيد الفرد الذي يميّز الجمالية التعبيرية بمثال تنميطي، فعمدت إلى إلغاء الفرادة لصالح اللجوء إلى نماذج وأنواع منمّطة وأشكال بسيطة مستنسخة على شكل سلاسل. وفي هذا السياق، رسم جورج غروس وأنطون رادرشايت وجوهاً بشرية مبسّطة، بلا تعابير، داخل ديكور مديني فارغ وغير شخصي، بينما ركّز رسامو مجموعة "التقدّميين" اهتمامهم على الانتماء الاجتماعي للشخصيات المرسومة، وفقاً لمجموعة من القوانين والرموز التي يسهل التعرّف إليها. أما غاية هذا اللجوء إلى التبسيط فهي إيقاظ البروليتاريا على واقع اضطهادها.
وعلى المستوى الهندسي، أدى النقص غير المسبوق للمساكن بعد الحرب إلى بناء مجمّعات سكنية كبيرة بأشكال بسيطة ومتطابقة، مصممة انطلاقاً من عناصر نمطية ومسبقة الصنع. وما لبث هذا التوجّه أن طاول الديكور والتصميم الداخلي للمنازل، فكان ذلك الديكور ذو الطابع الوظيفي والأثاث الفولاذي الأنبوبي ذو الاشكال الصافية الذي يسهل إنتاجه على نطاق صناعي.
تقنية المونتاج
في الصالة الثانية، نرى كيف استعاد فنانو "الموضوعية الجديدة" تقنية المونتاج التي استعان الدادائيون بها لابتكار أعمال فنية غربية وطريفة مشحونة بخطاب سياسي، بغية وضعها في خدمة تحليل المجتمع بوسائط مختلفة. فأفلام والتر روتمان مثلاً هي عبارة عن مونتاج من صور وأصوات غير متجانسة التقطها مباشرةً داخل شوارع المدن الألمانية الكبرى أو في أماكن العمل، وتصوّر يوماً نموذجياً في برلين أو رتابة نهاية أسبوع فيها. ورواية ألفرد دوبلين "ساحة ألكسندر في برلين" (1929) يتألف نصّها من مزيج متشابك من العناصر الهجينة (شعارات، أغان، ملصقات دعائية، مقالات...) التي تلخّص خطاب تلك الحقبة.
وفي مجال البورتريه، سمحت ممارسة المونتاج بالجمع داخل لوحة واحدة، عدة جوانب من شخص واحد، ضمن مسعى تحليلي (كارل هوبوش)، أو عدة أشخاص ينتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة (كريستيان شاد)، أو نماذج متباينة تعكس رؤية سياسية للمدينة كفضاء غير متجانس اجتماعياً، يجاور البورجوازي فيه الفقير المعدوم (أوتو ديكس).
الصالة الثالثة من المعرض مرصودة لما يُعرف بـ "الشخصية الباردة" التي ظهرت في ألمانيا خلال العشرينيات، وهي فئة اجتماعية جديدة سعت إلى الإفلات من شعور الإذلال الذي خلّفته هزيمة ألمانيا، عبر الظهور بوجه بارد وغير مبالٍ. سلوك غيّر بعمق ممارسة البورتريه في الرسم والتصوير الفوتوغرافي. فبينما كان في السابق يهجس بالتقاط سيكولوجية الشخص المرسوم أو المصوَّر، بات البورتريه يتركّز على مميزات مظهره الخارجي، كما في صور أوغست ساندر الحاضرة في كل صالات المعرض. صور لشخصيات باردة، مجرّدة من أي انفعال، تتناغم في وحدتها ونظرتها الغائبة مع خلفيتها الفارغة، وتخفي مشاعرها خلف مظهر تتعذر قراءته.
مسرح وموسيقى
الصالة الرابعة تستكشف مفهوم "الإفادة" الذي ارتبط بـ "الموضوعية الجديدة" وساهم في انبثاق أعمال مسرحية وموسيقية وأدبية ذات طبيعة تعليمية، من المفترض أن تكون مفيدة للمجتمع. أعمال مرسّخة في زمنها وسهلة الفهم، كالنصوص التي وضعها الروائي إيغون كيش بأسلوب يتكوّن من جمل بسيطة وموجزة، ويتقدّم فيها سرد الأحداث على استكشاف المشاعر؛ أو نصوص الشاعر إيريك كاستنر النثرية التي تخلو من أي منحى ميتافيزيقي أو ضبابية، أو قصائد كورت توكولسكي السياسية الموجّهة إلى البروليتاريا وتبتعد عن مشاغل دعاة الفن من أجل الفن.
وفي الموسيقى، ظهرت أنواع جديدة مستوردة من أميركا، كالجاز الذي ألهم الموسيقيين أرنست كرينيك وكورت فايل وبول هينديميث نوعاً موسيقياً جديداً، "أوبرا الراهن"، يهجس بزمنه ويرتكز في ديكوره على التكنولوجيات الحديثة. نوع تخلى عن التقليد الرومنطيقي واستمد مراجعه من الثقافة الشعبية. وفي المسرح، وضع برتولد بريخت وإرفين بيسكاتور مسرحيات ملحمية تنتفي أي غنائية فيها وتسمح تقنيات إخراجها للمُشاهد بتحليل قصصها والتقاط رسائلها السياسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الصالة الخامسة، نرى كيف اهتم رسامو "الموضوعية الجديدة بموضوع تحرّر المرأة الألمانية في العشرينيات ودخولها سوق العمل، عبر رسمهم إياها بالمظهر الذكوري الذي تبنّته بغية تسهيل اندماجها. نرى أيضاً كيف خلّف هذا المظهر لدى عدد منهم قلقاً ترجموه بلوحات توحي بضرورة التمييز الجنسي، أو تصوّر الجرائم العنيفة التي وقعت المرأة ضحيتها آنذاك من جراء التباس مظهرها.
وفي الصالة الأخيرة من المعرض، نكتشف كيف حثّت رغبة بعض فناني "الموضوعية الجديدة" في فضح الجانب السلبي للرأسمالية الزاحفة، على توجيه أنظارهم نحو المهمّشين الذين استبعدهم التقدم التقني أو دانهم. وفي هذا السياق، أنجز كارل فولكر وأوسكار نيرلينجر بورتريهات حشود من العمال داخل البيئة القامعة للمراكز الصناعية، ومثّل هانز بالوشيك وهانز غرونديغ وأوغست ساندر وأليس ليكس بؤساء وعاطلين من العمل ومتسوّلين يعيشون على أطراف المدن الكبرى، بعيداً عن شوارعها الحيّة ومرافقها الترفيهية.
ولأن أوروبا اليوم تشهد من جديد نمواً خطيراً للحركات الشعبوية وتمزّقاً حادّاً على المستوى الاجتماعي بسبب الأزمة الاقتصادية المزمنة، لم يفوّت منظّمو المعرض فرصة المقارنة داخله، بين وضع ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي ووضع "القارة العجوز" الراهن.