Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا تعني مهنة "الناشط" في العالم العربي؟

حاضر غائم ومستقبل مجهول والسياسة تتصدر الاهتمامات

كثيرون يعتقدون أن الناشط أقرب إلى الراهب. فهو يهب حياته وجهده ووقته وكيانه للقضية التي يؤمن بها (أ ف ب)

يعرف المذيع "الأستاذ فلان" بأنه ناشط، وتدعى "السيدة علانة" في المؤتمر العالمي لأنها ناشطة. وكتلة الدول هذه تمنح الجنسيات الشرفية لنشطاء كتلة الدولة تلك. وكتلة الدول تلك تتعامل مع نشطائها باعتبارهم شوكة في الحلق، وصداعاً في الرأس، وربما يليق ببعضهم تضييق خناق أو تقييد تحركات أو زنزانة صغيرة في سجن كبير.

"السجناء السياسيون" مسمى لصيق بـ"النشطاء"، لكنهم في الوقت نفسه أثبتوا على مدى العقود القليلة الماضية، وبشكل متزايد في العقد الأخير، أن العمل "ناشطاً" أصبح منظومة قائمة بذاتها، ومهنة يصبو إليها البعض، إيماناً بقيم ومبادئ وأهداف، أو أملاً في مزايا ومصالح وطموحات أو كليهما.

صدارة منظومة النشاط

على الرغم من أن "الناشط" قد ينشط في قضايا تتعلق بالمناخ أو البيئة أو الجندر أو الحيوان أو غيرها، فإن السياسة تظل في صدارة تلك المنظومة. دول العالم عامرة بالنشطاء وبالنشاط بأنواعه. وتختلف درجة "احتمال" الدول لهم وقدرتها على استيعابهم بحسب طبيعة أنظمتها السياسية وتركيبتها الثقافية وماهية قوانينها ودساتيرها ومسارات التاريخ، وأحياناً الجغرافيا فيها.

جغرافياً، النشطاء في كل مكان، وبين المعاصرين المعروفين منهم: الناشطة الحقوقية الباكستانية ملالا يوسف، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام في عام 2014، تقديراً لتعريض حياتها للخطر من أجل حصول الأطفال على فرص تعليم أفضل في باكستان، والمحامي والناشط السياسي المهاتما غاندي، الذي قاد الهند في رحلة استقلالها عن التاج البريطاني، والناشط الحقوقي الأميركي مالكوم إكس المدافع عن حقوق السود في أميركا، والناشط الجنوب أفريقي نلسون مانديلا الذي أمضى حياته مطالباً بحقوق السود، والناشط الكندي في مجال بحوث السرطان وأعمال الخير وبطل ألعاب القوى، الذي أصيب بمرض السرطان وهو في سن الـ18 تيري فوكس، وغيرهم كثيرون.

الناشط الراهب

كثيرون يعتقدون أن الناشط أقرب إلى الراهب. فهو يهب حياته وجهده ووقته وكيانه للقضية التي يؤمن بها. قد ينطبق هذا على البعض، لكن النشطاء يأتون أشكالاً وألواناً وأهواءً. منهم من يسير على نهج الرهبان، ومنهم من يجمع بين المبدأ الذي ينشط من أجله وبين الحياة ومتطلباتها.

ظاهرة الناشط ومسمى ما يقوم به من أعمال لخدمة القضية أو المبدأ، وما يتعلق بها من أنشطة وجموع تتبعه وأخرى تعارضه، وموقف النظام السياسي وغيرها، منظومة حديثة في العالم العربي. الذي عرف بروز أشخاص يدافعون عن قضية ما أو يناضلون من أجل الاستقلال أو يطالبون بإنهاء الاحتلال أو يعملون من أجل الاهتمام بقواعد اللغة أو قيم الدين وغيرها منذ عقود طويلة. ويمكن اعتبار رمز المقاومة الليبية عمر المختار ناشطاً سياسياً، والمدافعة عن حقوق المرأة هدى شعراوي ناشطة نسوية، وعميد الأدب العربي طه حسين ناشطاً من أجل التعليم، لكن أحداً لا يعرفهم باعتبارهم نشطاء. أغلب أولئك كانوا يشغلون وظائف أو يقومون بمهام أخرى وآمنوا بقضايا ومبادئ فأدمجوها في حياتهم. أما "الناشط" المتفرغ كل الوقت، فهذه ظاهرة جديدة في المنطقة العربية.

الناشط في المعجم

منظومة "الناشط" خرجت إلى النور في المنطقة العربية متأخرة، مقارنة ببقية دول العالم. ويمكن ربطها بأحداث ما يسمى "الربيع العربي" في عام 2011، والحراك السياسي الذي دار في عدد من الدول العربية قبلها بأعوام قليلة. ويكفي أن أغلب معاجم اللغة العربية لا تعرف كلمة "نشاط" إلا في إطار مفردات الممارسة والحماس والعمل. أما الناشط فهو الشخص الذي يتسم بالنشاط والحركة. وترجمة كلمة Activism  هي الفاعلية والنشاط والحماس.

ويلمح بعض الخبثاء إلى أن غياب معانٍ تتعلق بالحراك السياسي، والعمل من أجل التغيير، واستخدام المبادرات والحملات النشطة، وربما السرية، عبر الإنترنت لخلق وعي بقضايا سياسية أو تعزيز فكرة الإصلاحات السياسية أو غيرها من المعاجم العربية يعكس ريبة ثقافية في عمل الناشط ومخاوف رقابية من عين الرقيب، لكن حتى لو كان التلميح فيه شيء من الصحة، فإن هذا لم يوقف عجلة ضخ النشطاء في العالم العربي من دون هوادة.

نشطاء المنصات

كانت البداية مع النشطاء السياسيين الذين أتوا من كل حدب وصوب في عام 2011، وقبلها وبعدها بقليل. عربياً يرتبط النشطاء بشكل أو بآخر بالأثير العنكبوتي، بل إن كثيرين منهم يعرف بـ"نشطاء منصات التواصل الاجتماعي"

ففي مصر مثلاً، ولد أغلبهم من رحم أحداث يناير (كانون الثاني) 2011. وزاد عددهم وتوسعت قواعدهم، وأصبح في طول البلاد وعرضها جموع مؤثرين ومؤثرات ومشاهير ومشهورات انطلقوا من أثير "فيسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام" وغيرها إلى كل بيت في مصر.

البيوت العربية باتت تعي أن حولها آلاف النشطاء، وربما ملايين. ولا يمكن إكمال رصد ظاهرة الناشط العربي الحديث من دون التطرق إلى حركة "أوتبور" الصربية، التي أسستها مجموعة من الشباب في عام 1998 بقيادة سيرجي بوبوفيتش، وهي الحركة التي أسهمت في إسقاط حكم الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش عام 2000. الحركة روجت لنفسها وعرفت وذاع صيتها عربياً في السنوات الأخيرة بانتهاج طريق التظاهرات والاحتجاجات السلمية، وهي الفكرة التي لاقت قبولاً واستحساناً لدى البعض من الشباب والشابات.

وبحسب برنامج "تمكين اللا عنف"، لجأت "أوتبور" في البداية إلى استخدام تكتيكات "العصابات اللا عنيفة" في التواصل مع الجماهير، وذلك عبر الغرافيتي ومسرح الشارع والأغنيات والنكات والدعابة، وذلك بجذب الاهتمام وتقليل الشعور بالرهبة المرتبط بالجماعات الداعية إلى التغيير السياسي.

ولعبت ورش التدريب على اللا عنف دوراً مهماً في نشر قواعد إسقاط الأنظمة عبر سبل لا تنتهج العنف، وهو ما تحقق في صربيا في نهاية الأمر بإسقاط ميلوسوفيتش.

تمكين اللا عنف

يشار إلى أن "برنامج تمكين اللا عنف" يعرف نفسه بأنه تابع لـ"المنظمة الدولية لمقاومي الحرب". (تعرف نفسها بأنها شبكة عالمية من الجماعات الشعبية المناهضة للعسكرية والداعية إلى السلمية). ويوفر البرنامج موارد عبر الإنترنت لحملات التغيير وورش التدريب على اللا عنف للناشطين الطامحين إلى التغيير الاجتماعي والسياسي حول العالم، وذلك بالمجان.

علامات وأمارات "أوتبور" كانت واضحة في "ميادين" التغيير. قبضة اليد باللونين الأبيض والأسود على خلفية سوداء، ورسوم الغرافيتي السياسية الساخرة، والشعارات الرنانة الحادة الغارقة في الدعابة وغيرها بدت وكأنها صورة طبق الأصل من فعاليات "أوتبور" الصربية، لكن في ميدان التحرير.

وعلى الرغم من "الإشادات" العالمية، لا سيما الغربية، بتعميم تجربة "أوتبور" الصربية، ونقلها إلى مصر وتونس، وتمني انضمام مزيد من الدول العربية إلى التجربة، والثناء الواضح على الأدوار الاستشارية التي لعبتها "أوتبور" وعدد من البرامج والتطبيقات المتعلقة بإسقاط الأنظمة "الاستبدادية" عبر اللا عنف، فإن النشطاء المصريين والعرب الذين ذاع صيتهم وبزغ نجمهم آنذاك أنكروا أية صلة بـ"أوتبور" وغيرها من أدوات وبرامج التمكين من أجل التغيير.

في صربيا، وبعد ضلوع "أوتبور" وشبابها في إسقاط نظام ميلوسوفيتش، تحولت إلى حزب سياسي، لكنها حلت نفسها واندمجت مع حزب آخر بعد أن فشلت في ضمان مقاعد لأعضائها في البرلمان في عام 2000 في صربيا.

شهر عسل قصير

لكن في العالم العربي، استمر النشطاء في البقاء على قيد الحياة. استمتع أكثرهم بشهر عسل قصير مع الشعوب التي شهدت رياح التغيير، لكن سرعان ما انقسمت الآراء حولهم وتشكك كثيرون في نيات بعضهم. نقطة التحول الفاصلة كانت تحول "الناشط" إلى وظيفة، والنشاط السياسي إلى وسيلة، وعدم انصياع الحاكم أو المحكومين لأفكارهم إلى وسيلة للتشهير بكليهما في المحافل الدولية والأوساط الأممية الحقوقية والدول الغربية، التي تحظى بحق الإدلاء بالرأي وتقييم الوضع ورسم خريطة طريق لغيرها من الدول التي ينشط فيها النشطاء.

وجد النشطاء أنفسهم بعد أشهر، وأحياناً بعد مرور بضع سنوات على هبوب رياح التغيير في عام 2011 في عدد من الدول العربية، مادة للتشكك، وأرضاً خصبة للريبة، ليس فقط من قبل الأنظمة، بل من قبل المواطنين العاديين، الذين كانوا حتى الأمس القريب داعمين ومؤيدين للناشطين المضحين بوقتهم وجهدهم وسلامتهم من أجل التغيير.

تغيرت الأوضاع، وبعد مرور 11 عاماً على هبوب رياح التغيير، انقسم النشطاء إلى ثلاثة أقسام: الأول تحول إلى "سجناء سياسيين"، والثاني هجر صفة "الناشط" وعاد إلى سابق عمله، أو هاجر أو احتمى بأمان الظل، والثالث يتأرجح بين الظهور الحذر والدخول في فترات بيات بحسب الأوضاع والأحوال.

أوضاع وأحوال البعض منهم تغيرت كثيراً. فمنهم من حاز أو ترشح لجوائز عالمية كبرى مثل نوبل، ومنهم من أتيحت له فرصة العمل بالصحافة والإعلام التلفزيوني، ومنهم من أصبح "خبيراً في الحراك" أو "متخصصاً في التغيير"، ومنهم من جال مشارق الأرض ومغاربها متحدثاً عن قواعد التغيير، ومحاضراً عن أصول التخطيط، ومنهم من حصل على منح دراسية في أرقى الجامعات الغربية، ومنهم من حصل على جنسيات دول غربية شرفية أو عادية.

فهم العداء المستحكم

إذا كانت طبيعة العمل السياسي، وفطرة الدفاع عن الأداء في العمل العام، تجعل فهم العداء المستحكم، سواء أكان ظاهراً أو باطناً بين أنظمة الحكم والنشطاء سهلاً، فإن العداء الذي بات مستحكماً بين منظومة "النشاط" وكينونة "الناشط من جهة، وكثيرين من المواطنين العاديين، أمر مثير للحيرة.

الكاتب الصحافي المصري حمدي رزق كتب مقالاً في عام 2021 تحت عنوان "التاريخ لا يصنعه النشطاء"، حمل انتقاداً عنيفاً لجموع النشطاء الذين تفرغوا لانتقاد كل القيادات السياسية والعسكرية الحالية والسابقة من دون أسباب واضحة أو خلفية ثابتة أو رؤية ثاقبة.

رزق كتب مستنكراً رفض بعض النشطاء الاحتفاء الرسمي بوزير الدفاع السابق الراحل محمد حسين طنطاوي، وسخريتهم أو رفضهم وصف الجنود والضباط الذين يقتلون في عمليات إرهابية بـ"الشهداء": "أتعرفون لماذا يرحل القادة صامتين، لأنهم أدوا الأمانات إلى أهلها، رجال لم تلههم تجارة ولا بيع، رحلوا قبل زمن بيع الغالي بالرخيص وخلط اللبن بالماء وزعم الأدوار ورسم أبطال كرتونيين (من ورق) في الفضاء الإلكتروني، استلاباً لأدوار حقيقية وتضحيات بالأرواح. حتى الشهادة لوجه الله استبيحت، استحلوها بضاعة بثمن بخس".

وأضاف "اشتغال النشطاء بتأريخ التاريخ وتحريف الحقائق ولي عنقه والقص واللصق وخلط الأوراق بين ما هو سياسي وما هو عسكري، والتخليط المتعمد اعتماداً على الذاكرة السمكية لأجيال ولدوا في حجر مارك زوكربيرغ. كل هذا الغثاء فيسبوكي تنطبق عليه الآية القرآنية (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)".

حالة لغط

أرض الواقع تشير إلى حالة من اللغط والالتباس في ما يختص بشؤون الناشطين وطبيعة نشاطهم، وهل هو عمل بمقابل أم عمل تطوعي أم عمل مجهول الهوية مطموس المعالم؟ مستخدمون عاديون لمنصات التواصل الاجتماعي يتابعون حسابات نشطاء مشاهير يطرحون أسئلة عديدة في الآونة الأخيرة حول عمل الناشط.

"كيف تؤمن قوت يومك؟" أو "كيف تحولت من ناشطة إلى سيدة أعمال؟" أو "هل يقبل الناشط الوطني جنسية بلد آخر على سبيل التكريم؟"، أسئلة يوجهها متابعون لنشطاء على منصات التواصل الاجتماعي. البعض من أولئك النشطاء ممن ينشر صوره الشخصية أو مقاطع من حياته اليومية يضع نفسه تحت منظار المتابعين المكبر. كيف كان وكيف أصبح، حيث مظاهر ثراء أو آثار عمليات تجميل أو سيارة حديثة أو بيت أنيق، وغيرها تزيد من حجم الهوة بين بعض النشطاء ومتابعيهم.

ويظل البعض الآخر من النشطاء محتفظاً بقاعدة من محبيه ومتابعيه والمؤمنين بنشاطه والممتنين لحراكه، حتى لو ظلت مصادر تأمين لقمة عيشهم غامضة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نشطاء مدعومون

العام الماضي، نشر موقع "دويتشه فيله" مقالاً يلخصه عنوانه "هل تراعي مصر النشطاء (المدعومين) من الغرب أكثر من غيرهم؟" تساءل إن كانت هناك "انتقائية" في تعامل الحكومة المصرية مع الناشطين "المدعومين" من الغرب.

وقال الباحث في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة "هيومان رايتس ووتش" والمقيم في برلين، عمرو مجدي، لـ"دويتشه فيله"، إنه "قد يكون هناك بعض من الانتقائية نتيجة أن الحكومة المصرية لديها حسابات عند التضييق على ناشط مدعوم من الغرب، الذي قد تتحرك حكوماته تحت ضغط الرأي العام الغربي للدفاع عنه".

وقتها علق كثيرون أن هذا يعني أن هناك نشطاء مدعومين من الغرب، وربما هناك آخرون مدعومون من الشرق. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يرى البعض في تعليقات وزارة الخارجية الأميركية المتكررة على أحكام قضائية تصدر في حق نشطاء حكم عليهم بالسجن لأسباب مختلفة أو يخضعون للتحقيق دليلاً على "الدعم" ولو المعنوي الذي يحصل عليه نشطاء.

فمثلاً علقت الخارجية الأميركية وقت صدور أحكام قضائية على نشطاء قبل نحو عام، بأنه "يجب أن يتمكن الصحافيون والمدافعون عن حقوق الإنسان وغيرهم ممن يسعون إلى ممارسة حريتهم في التعبير سلمياً من القيام بذلك من دون مواجهة عقوبات جنائية أو ترهيب أو مضايقة أو انتقام".

وفي مرة أخرى، دعت أميركا مصر إلى التوقف عن "استهداف الناشطين الحقوقيين"، مشيرة إلى أنها "ستأخذ هذا الأمر في الاعتبار في مفاوضات بيع الأسلحة بين البلدين الحليفين"، مشيرة إلى أنها (أميركا) أبلغت "الحكومة المصرية بقناعتنا العميقة بأن أفراداً مثل حسام بهجت (ناشط حقوقي) لا يجوز أن يستهدفوا بسبب تعبيرهم السلمي عن آرائهم".

الطريف أن الشبكة العنكبوتية أصبحت عامرة بمحتوى عربي يكتبه هواة أو يترجمه متبرعون أو يطرحه "خبراء" صنعوا أنفسهم بأنفسهم عن "كيف تصبح ناشطاً؟" و"آليات الناشط المدني وكيفية تأمين نفسه" و"المؤهلات الذاتية للناشط السياسي وسبل تنمية ملكات التواصل مع الجماهير" وغيرها كثير.

ويظل وضع النشطاء العرب الحالي غائماً ومستقبلهم في علم الغيب.

المزيد من تحقيقات ومطولات