تسببت أزمة ارتفاع كلفة المعيشة في المملكة المتحدة، في تفاقم مشكلات الصحة العقلية بالنسبة إلى عدد كبير من الأشخاص، مع تزايد الضغوط المالية عليهم على نحو متسارع، وبروزها فقط في الوقت الذي بدأ فيه الوباء واحتمالات العزل والإغلاق في الانحسار.
وترى فيكي ناش منسقة السياسات والحملات في منظمة "مايند Mind (مؤسسة خيرية تعنى بتقديم المشورة والدعم للأشخاص الذين يعانون مشكلة في الصحة العقلية في إنجلترا وويلز)، أن التضخم المرتفع المترافق مع حال عدم اليقين في ما يتعلق بالوظائف والدخل، طرحا "خيارات مستحيلة" بين التدفئة وتأمين الغذاء، وفرضا "ضغطاً هائلاً" على الأفراد الذين يعانون مشاكل في الصحة العقلية.
ومع جنون الأسعار في بريطانيا وارتفاعها بسرعة تفوق بكثير موارد الدخل، بدأ تهديد يلوح في الأفق ويتمثل في مزيد من الارتفاع في فواتير الطاقة وكلفة الغذاء في المستقبل.
بول هاريس البالغ من العمر 42 سنة، تعرض قبل نحو خمسة أعوام لانهيار عصبي ناتج من الإجهاد، واضطر إلى ترك وظيفته في مجال الإيجارات السكنية. وهو يعاني قلقاً واكتئاباً تفاقما أخيراً نتيجة المخاوف المالية التي تطغى عليه والديون. وهو يمارس عملاً من وقت إلى آخر، من خلال المشاركة في ندوات لتقديم الدعم لمرضى آخرين، لكنه لم يتمكن من العمل بدوام كامل.
ويصف هاريس دخله بأنه بات "متقطعاً"، مشيراً إلى أن الفواتير المرتفعة الكلفة باتت تشكل الآن مصدراً رئيساً للقلق بالنسبة إليه. ولاحظ أن ذلك بدأ ينعكس على صحته العقلية قائلاً "أشعر بأنني أحياناً لا أتمكن من السيطرة على نفسي، وأفقد مزاجي بسرعة فائقة إلى درجة أنني أقف عاجزاً عن القيام بأي شيء. صحيح أننا لسنا في وضع معدم، لكننا قلقون باستمرار في شأن تأمين المال".
زوجة بول هاريس التي تعمل في مجال المحاسبة، تتولى إدارة موازنة الأسرة. فقد غرق الزوجان في الديون، خصوصاً بعدما تخلى هاريس عن عمله وأجبرا على الاعتماد على دخل واحد لمواصلة العيش.
وتقول: "لقد تعرض تصنيفنا الائتماني في المصرف لنكسة. إذ لم يعد في إمكاننا اقتراض أي أموال أو الحصول على رهن عقاري. وبات شراء منزل بالنسبة إلينا ضرباً من الخيال واحتمالاً بعيد المنال".
وتضيف واصفةً شعورها: "لأنني لا أتمكن من المساهمة مالياً في نفقاتنا، فإن ذلك يؤثر حقاً في ثقتي بنفسي، وأشعر بكثير من الضغط".
هذا الوضع زادت في تفاقمه على نحو كبير الارتفاعات الضخمة في كلفة الفواتير. فهاريس بات يدفع نحو 100 جنيه استرليني (123 دولاراً أميركياً) كل شهر لقاء فواتير الطاقة، في وقت فقدت فيه زوجته بعض العملاء أثناء فترة الوباء.
ويقول: "هناك دائماً ما يجعلني أقع سريعاً في الإحباط، سواء عند سماع شيء ما في الأخبار عن ارتفاع كلفة فواتير الطاقة، أو عندما نتلقى رسالة من شركات الكهرباء والمياه يمكن أن تثير التوتر. إن هذا الواقع يؤثر فعلاً في من يعاني أساساً حالة نفسية ومزاجية متدنية".
وتشير فيكي ناش من منظمة "مايند" إلى وجود ترابط في الغالب بين المال والصحة العقلية. وتوضح أن "الصحة العقلية السيئة يمكن أن تجعل كسب المال وإدارته أكثر صعوبة، كما أن الهموم المالية يمكن أن يكون لها تأثير كبير في صحتنا الذهنية".
وترى في المقابل أن التضخم المتفاقم إلى جانب حال عدم اليقين في شأن الوظائف والدخل، يطرحان أمام الأفراد "خيارات مستحيلة" ما بين تأمين التدفئة والحصول على الطعام. وتقول إن "هذا الوضع يلقي بضغط هائل على الأشخاص الذين يعانون مشكلات في الصحة العقلية".
وغالباً ما تؤمن المساعدات (الحكومية) شريان حياة للأفراد الذين هم في وضع لا يسمح لهم بالعمل أو الذين هم غير قادرين على تأمين وظيفة مستقرة، لكن المدفوعات ترتفع بأقل من نصف وتيرة التضخم هذه السنة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض كبير في الدخل للمستفيدين من الإعانات الحكومية.
وفي هذا الإطار تقدر "مؤسسة جوزيف راونتري" Joseph Rowntree Foundation (جمعية خيرية تجري أبحاثاً هدفها حل مشكلة الفقر في المملكة المتحدة) أن قرار وزير الخزانة البريطاني (ريشي سوناك) عدم زيادة التقدمات بما يتماشى ونسبة التضخم، سيؤدي إلى إفقار نحو 600 ألف شخص في البلاد.
وتصف جمعيات خيرية النظام أيضاً بأنه معقد ومجهد بلا داعٍ. فالحالات التي يحرم فيها أشخاص خطأً من مدفوعات، أو يخضعون فيها لتقييمات مهينة وغير متعاطفة، باتت تتكرر.
وتؤكد مؤسسة "مايند" أنها تتلقى بانتظام شكاوى من أفراد يعانون مشكلات في الصحة العقلية، وقد تركهم نظام التقدمات بلا نقود، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في تدهور حالتهم العقلية.
واستناداً إلى أبحاث أجرتها مؤسسة "مايند"، فإن ما يقرب من نصف عدد الأشخاص الذين يتلقون إعانات حكومية، أكدوا أن صحتهم العقلية قد ازدادت سوءاً بسبب وضعهم المالي.
بول هاريس لديه تجربته الخاصة في هذا الإطار. فقد توجه لإجراء تقييم لوضعه في عام 2019، وتبلغ من "وزارة العمل والمعاشات التقاعدية" أنه سيتم وقف "مخصصات الاستقلالية الشخصية" Personal Independence Payment (PIP) (إعانة اجتماعية تهدف إلى مساعدة البالغين على تحمل تكاليف العيش الإضافية الناجمة عن إعاقة أو حالة صحية طويلة الأجل) التي كان يتلقاها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف هاريس: "لقد أبلغوني بأنني في خير وبأنني غير مؤهل (للحصول على المخصصات). لكنني كنت أعرف في قرارة نفسي أنني لست على ما يرام".
ويتابع: "سألوني عن التقدم الذي أحرزته وقالوا لي (إذا كان بإمكانك أن تحقق ذلك، فيمكنك تالياً أن تكمل مسارك من التعافي بانتظام)، لكنني لم أكن أقوى على ذلك، وأصبح وضعي المالي أكثر سوءاً".
منذ ذلك الحين، ظل هاريس يناضل من أجل استعادة حقه في تلقي المدفوعات.
وتقول فيكي ناش من منظمة "مايند" إنها وقعت على عدد من الأمثلة الأخرى التي طلب فيها من أفراد إعادة التحدث عن الصدمات النفسية التي واجهوها، أو حتى محاولات الانتحار التي أقدموا عليها.
وتضيف أن "هذا النظام غالباً ما يمنع الناس من الصمود مادياً، أو يجعلهم يعيشون في خوف دائم من انقطاع دخلهم لمعاقبتهم".
وفي كثير من الأحيان، عندما يتخلف الأفراد عن سداد الدفعة الأولى لمدة خمسة أسابيع، يقعون فريسة تراكم الديون، الأمر الذي يؤدي إلى تدهور في صحتهم النفسية.
وتطالب مؤسسة "مايند" كذلك الحكومة بإجراء إصلاح شامل للقانون المتعلق بـ"أجر المرض القانوني" Statutory Sick Pay (للعاجزين عن مزاولة العمل بسبب المرض) الذي يبلغ في الوقت الراهن 99.35 جنيه استرليني (122 دولاراً) فقط في الأسبوع، وهو أحد أدنى المعدلات في أي بلد غني.
واستناداً إلى استطلاع أجرته المؤسسة الخيرية، فقد أكد نحو ثلثي عدد الأشخاص المستجوبين الذين يعانون مشكلة في الصحة العقلية والذين تلقوا "أجر المرض القانوني" أنه زاد من مشكلاتهم المالية. وترى المسؤولة في المؤسسة أن "هذا الواقع يلقي بمزيد من الضغوط على الأفراد، ويقلل من فرصهم في التعافي".
سو أندرسون رئيسة قسم الإعلام في مؤسسة "ستيب تشينج" StepChange الخيرية التي تقدم مشورة وإرشادات للأفراد في ما يتعلق بديونهم، تشير إلى أن المشكلات المالية والصحة العقلية مترابطتان، بحيث تؤثر إحداهما في الأخرى.
وتوضح أنه "يمكن للدين أن يزيد من مخاطر المعاناة من مشكلات كالقلق والاكتئاب، في حين أن الأشخاص الذين يعانون ضعفاً في صحتهم العقلية، قد يجدون صعوبة في السيطرة على أوضاعهم المالية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم مشكلة الديون لديهم".
وتنصح أندرسون باتخاذ خطوات لمعالجة هذه المشاكل، كالاتصال بالخط الهاتفي المخصص للمشورة في مؤسسة "ستيب تشينج".
وتختم بالقول إنه "بعد نحو ثلاثة أشهر من تلقي مشورة في شأن الديون، وبمجرد أن يبدأ الأفراد بإحراز تقدم في التعامل مع ديونهم، تظهر صحتهم النفسية في الإجمال تحسناً ملحوظاً لجهة روتينهم اليومي، كالقدرة على النوم في الليل، والشعور بأنهم باتوا مستعدين بشكل أفضل للتعامل مع التحديات اليومية".
© The Independent