Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نجيب الحصادي المثقف العضوي 1/2

كتابة مدموغة بالذات على الرغم من موضوعيتها ومبحثها العلمي

معرض للكتاب في مدينة بنغازي الليبية (أ ف ب)

"نادراً ما عرف القلق طريقاً إليّ حتى في مهمتي التي أقوم بها، لأن قراءة ومطالعة أدب بورخيس تعطينا رؤية تقودنا إلى فهم سمو الحياة بشكل مجرد كمستوى، وفي الآن نفسه الحياء والتواضع اللذين نحتاجهما دائماً في حياتنا. لقد كان لبورخيس حكمة عميقة، متواضعاً على المستوى الفكري".

 رئيس وزراء إسبانيا الأسبق رودريغوز ثاباتيرو.

أثناء مسيرتي الثقافية تشكلت سيرتي الذاتية الفكرية من خلال مطالعة كتاب ومفكرين كثيرين، لكن هناك منهم من طالعت ما يكتبون ومنهم من درست أطروحاتهم الفكرية، لكن ثمة كتاب ومفكرون منهم شدني إليهم أيضاً سيرتهم الذاتية إلى جانب سيرتهم الفكرية والإبداعية، حتى إن منهم من لي مقاربات وعلائق مع فكرهم وشخصهم.

ولأنني بدأت منذ نعومة الأظافر قراءة ومطالعة الأدب، فقد كون ذلك مسباراً للتعاطي مع الأساليب الكتابية والإبداعية بالأساس، فمثلاً عند كنت في الشهادة الابتدائية طالعت "عودة الروح" لتوفيق الحكيم ومن ثم "الشيخ والبحر" لأرنست همينغوي.

أما الرواية الأولى فقد كنت قرأتها قبل مصورة للأطفال في مجلة الأطفال المصرية "سمير"، ما منها عرفت أن الزعيم جمال عبدالناصر أشاد بالرواية وذكر أنه طالعها! أما الثانية فقد كانت بمثابة الإنجيل الأدبي لجيل الستينيات، وفي العربية من خلال ترجمة منير البعلبكي كانت السفر الذي لابد منه.

ولما كنت من المعجبين منذها بنجم النجوم الليبي الصادق النيهوم فقد شدتني "الشيخ والبحر"، ما كانت بمثابة كشاف النيهوم الأدبي المؤثر في كتابته في ما بعد، بخاصة روايته الأولى "من مكة إلى هنا".

وأثناء تلك المرحلة أول ما شدني الأساليب الكتابية، فالناثر الليبي يوسف القويري يولي عناية فائقة بعقد الجملة ومنثوره من الألفاظ، فاللباس يُلبس على قدر الفكرة وحسبه ذلكم، وأما قماشة هذا الاهتمام فإنه الصادق النيهوم، من أترع الكتابة بجمل وألفاظ مبتكرة في روح سردية أمست نسيجاً وحده هي الكتابة النيهومية.

كذلك فإن هذه الكتابة عند الاثنين مدموغة بالذات، على الرغم من موضوعيتها ومبحثها العلمي، كما كانت تتمظهر لي كسيرة ذاتية لكاتبها أو سيرة فكرية إن شئت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولما كنت هكذا كان المفكر عبدالرحمن بدوي معلماً في جامعة بنغازي لسنوات، وينتج كتباً منها ما يخص التاريخ الليبي، ولم يكن يمكن الفصل بين راهب الفكر بدوي وما ينتج. وأشير إلى أن روح بدوي صبغت عندها بمدينة بنغازي حتى إنها فيما بعد تشخصت في حوالى 200 صفحة من مذكراته، وكان له في بنغازي أتباع وعلى التخصيص تلاميذ نجباء، منهم من كتب رواية وجودية أولى له، وفي ليبيا رواية "في المنفى" لرجب بودبوس ما نشرت أول سبعينيات القرن الماضي، أما أهم تلاميذه فسيكون نتاجه الفكري مميزاً وغزير الإنتاج في الترجمة والتأليف، نجيب الحصادي.

بالنسبة إليّ فهذا المثلث المكون من روح أسلوبية متماهية واختلاف فكري سيكون مربعاً عند معرفة المفكر إدوارد سعيد، من خلال شذرات له ومثلها عنه، لكن مع "الاستشراق" كتابه البارز، فما بعده تشكلت اللوحة. سلاسة الطرح وقوة الأفكار سمات بارزة في أساليب "إدواردية " مميزة وأخاذة في عمقها وبساطتها، على الرغم من أن "الاستشراق" في ترجمته على يد الشاعر كمال بوديب أربك المسألة، لأن بوديب صبغ ما ترجم بروح معقدة وقلقة مجحفة! المهم أن هذه القماشة الموضوعية مدموغة بالسيرة الذاتية والإبداعية المتباينة بين الصادق النيهوم وعبدالرحمن بدوي وإدوارد سعيد، جعلت مشتركهم عندي قوياً يوضح اختلافهم، جاعلاً منهم كأنهم الجدل بأطروحته وطباقه ونفيه.

"وقد وجدنا نفسينا في يوم من الأيام بعيد صدور كتابه (العالم والنص والناقد) العام 1983، نسير باتجاه مكتبة بتلر عبر الحرم الجامعي، وأبديت إعجابي بالإيجاز البلاغي الذي حققه في ذلك الكتاب السليط.

كان جوابه التقليل من قيمة ما أنجزه، وقال إن واجبنا هو قبل كل شيء أن يكون لدينا شيء نقوله بطبيعة الحال، ولكن من المهم ألا نقع فريسة الرغبة الاستطيقية التي تضع الناقد في دور الفنان. كانت تلك الرغبة في تلك الفترة تؤكد حضورها في الدوائر النظرية، وقال بلهجة تأكيدية "أنا لست فناناً. إن قصارى ما يطمح إليه الناقد هو أن يكتب ليفهم، وهذا فيه من الفن ما يكفي. (من كتاب "إدوارد سعيد أماكن الفكر" تأليف تمثي برنن وترجمة محمد عصفور- عالم المعرفة 492 الطبعة الأولى مارس 2022).

وكأنما لسان الحال أن الفن أن تكتب ما تكتب في الفكر من دون تغرض للفن، لكن غير ذلك هو تباين الضرورة بين ما يُكتب وما يُطرح.

نجيب الحصادي الجيل التالي أو الضلع الرابع في كذا كتابة التي هي كتابة الفكر الناقد، من لا تستهويه اللغة لكنه الحريص عليها، ولا يرغب في النقد باعتباره معول الفكر لكنه أداته في الوقت نفسه، وليس متفكراً زاده الفكر وحسب، وبالتالي لا تشغله القضايا الفكرية عن مباعيثها فالمبعث أس التفكر، وقد يكون نجيب الحصادي في هذا صنو أستاذه من درّسه الفلسفة في الجامعة الليبية ببنغازي عبدالرحمن بدوي، من عنده المنتج في الكتابة والتأليف كما في الترجمة التي تجهده حين يجتهد فيها فتمنحه اجتهاداً في أطروحاته الفكرية وشذراته الفلسفية.

وعود على بدء، فإنه إذا كانت سيرة إدوارد سعيد خارج المكان فإن الصادق النيهوم جعل من منفاه الخارجي سيرته داخل المكان، أما عبدالرحمن بدوي فقد اتخذ حيث كان في المكان صومعة الرهبان، لكن نجيب الحصادي لن يغادر المكان ولا المكان يغادره، حتى وإن لفته لحين صومعة الرهبان أو كان خارج المكان، وكأن كوجيتو نجيب "أنا أفكر في المكان إذا أنا موجود".

المزيد من آراء