ربما كانت الصدفة وحدها ما جعل اثنين من كبار سينمائيي النصف الثاني من القرن الـ 20، ستانلي كوبريك من ناحية وفرانسيس فورد كوبولا من ناحية أخرى، يلجآن كموسيقى تصويرية لاثنين من أكبر أفلامهما، إلى موسيقى تحمل توقيع واحد من أفراد عائلة شتراوس النمسوية ليستخدماها في لحظات مفصلية من "2001 أوديسا الفضاء" بالنسبة إلى الأول، و"يوم الحشر الآن" بالنسبة إلى الثاني، ولكن لم يكن من الصدفة على أية حال أن يقع الاختيار في الحالتين على القطعة الموسيقية نفسها، وهي "فالس" "الدانوب الأزرق" ولكن في حالة كوبريك للتعبير عن رحلة عبور الزمن، وفي حالة كوبولا لـ"تزيين" المشهد الأعنف في فيلمه: مشهد الهجوم المريع للمروحيات في إحدى المعارك الفيتنامية، ويمكننا أن نقول على أية حال إن ملحن تلك القطعة الموسيقية الخالدة لم يعرف فن السينما، ولم يتوقع أبداً أن تستخدم موسيقاه للتعبير السينمائي عن حالتين متناقضتين، وهذا الملحن هو يوهان شتراوس الثاني الذي، على الرغم من أنه رحل عام 1899، أي بعد ثلاثة أعوام من ظهور السينما، لم يكن في مقدوره أن يجد رابطاً لفنه بها.
عودة حتى في العام 1988
مهما يكن من أمر لم يكن يوهان الثاني هذا سوى واحد ممن لا يقل عددهم عن 15 موسيقياً أنجبتهم تلك العائلة بين بدايات ظهورها حوالى العام 1750 كعائلة، ثم بدايات ظهور أفراد مميزين منها بشخص يوهان شتراوس الأول (1804 - 1849)، وصولاً إلى الأخير في السلسلة السلالية، يوهان الثالث (1866 - 1939)، الذي حتى وإن كان قد رحل من دون أن يخلف للعائلة مبدعاً فرداً يضاف إليها، فإن موسيقياً طموحاً هو أندريه ريو تعهد كما يبدو، باستعادة إرث العائلة في العام 1987 ليشكل أوركسترا جديدة تحت اسم "أوركسترا يوهان شتراوس"، قدمت أولى حفلاتها عام 1988 بـ 12 عازفاً لتتوسع بسرعة إلى 50، وأحياناً 60 عازفاً، ولكن من دون أن يعتبرها المؤرخون جزءاً من آل شتراوس الحقيقيين، فهؤلاء انتهوا قبل عقود طويلة، مخلّفين على أية حال، سمعة موسيقية عطرة، ومجموعة مؤلفات تعتبر اليوم من أجمل ما أُنتجه فنّ موسيقى الرقص في تاريخ الموسيقى.
ولكن إذا كان يمكننا اعتبار أن عائلة شتراوس قد بدأت مجدها الموسيقي مع المؤسس يوهان الأول الذي سوف يعرف بخاصة بقطعته الرائعة "مارش رادتسكي" التي بلغت من الشهرة مبلغاً جعل الكاتب جوزف روث يستعير اسمها عنواناً لرواية شهيرة ستعتبر من أهم الأعمال الأدبية التي صدرت عند بدايات القرن الـ 20، فإن البدايات الحقيقية لـ "الفالس" تعود إلى أكثر من 50 عاماً سبقت ولادة يوهان الأول هذا، ولم يكن موطنها فيينا، بل مدينة "بودا" الهنغارية التي سوف تندمج لاحقاً بنصفها الآخر "بست" لتصبحا مدينة واحدة هي بودابست التي ستصبح إلى الأبد عاصمة هنغاريا وحتى بعد أن يُنسى أنها مسقط رأس تلك الموسيقى البالغة الجمال.
من الأندلس إلى تراث الحانات
فقبل أن يرحل الجد الكبير للعائلة والذي يحمل بدوره اسم يوهان شتراوس، وهو اسم سيتكرر مرات ومرات في تاريخ السلالة حتى بدايات القرن الـ 20 بحيث ثمة لدينا ما لا يقل عن أربعة يوهان شتراوس، كان ذلك الجد الأكبر، وقبل أن ينتقل من بودا إلى فيينا كان قد اطلع على تراث كثيف من موسيقى الرقص والحانات الشعبية التي راقت له، لا سيما ما كان منها ينسب إلى الغجر المبدعين رحلاً يعزفون "الكمان" و"الأكورديون" والطبول في القرى والدساكر الصغيرة على طول مجرى الدانوب، ونعرف اليوم أن ما استوعبه الجد ودوّنه في صباه الباكر، وغالباً ما شارك في عزفه مدركاً أنه قد أتى مع الغجر أصلاً في تنقلاتهم التي كان بعضها قد انطلق من مدن الأندلس التي كانوا يعيشون فيها مرحباً بهم إلى جوار العرب والمسلمين واليهود قبل أن تطردهم الحملات الأراغونية ومحاكم التفتيش، فينزحوا شرقاً، ويستقر كثيرون منهم في مناطق تحاذي مجرى الدانوب، النهر الذي ستخلده قطع كثيرة وبديعة من موسيقاهم، وعلى رأسها لاحقاً "الدانوب الأزرق" ذات الإيقاعات التي تجبر سامعها على التحرك يميناً ويساراً واستدارة، وحتى قبل أن تصاغ لكل ذلك قوانين صارمة كانت هي ما جعله رقص القصور الأثير في القرنين اللاحقين، لا سيما في عهدة أبناء تلك السلالة الذين عرفوا كيف يجعلون من رقص القرى ومجرى النهر رقصاً رسمياً يعيش زمناً طويلاً ولا تزال له قوته حتى أيامنا هذه.
ملك "الفالس" في فيينا
في فيينا، سيلقب يوهان الأول بـ "ملك الفالس"، هو الذي بعد أن وضع الأسس الإيقاعية لتلك الموسيقى، وهي أسس لم يدرك أنها وصلته أصلاً من الإيقاعات الأندلسية حيث لا يزال في وسعنا حتى اليوم العثور عليها في ثنايا الأغاني الأندلسية التي تشكل جزءاً من الريبرتوار الأندلسي في موسيقى المغرب والجزائر وتونس، لكنه سيدرك أنه أتت بجديد إلى وسط أوروبا وستعيش طويلاً، وستعيش أولاً مع ابنه يوهان الثاني، الذي أنجبه من زوجته ماريا آن شتريم ابنة صاحب ألحان التي تزوجها لتعتبر الأم المؤسسة بدورها لتلك السلالة، بخاصة ليوهان الثاني الذي سيعتبر لاحقاً الموسيقي الأشهر في زمنه بتلحينه أكثر من 400 قطعة بين "فالس" و"بولكا" ورباعية وغيرها من أعمال إيقاعية لا تزال حداثتها قادرة على إدهاشنا حتى اليوم، هو الذي ندين له طبعاً بـ "الدانوب الأزرق"، ولكن كذلك بـ "الفالس" الملكي كما بتلك القطع التعبيرية الرائعة التي اعتاد أن يضمها عنوان واحد هو "حكايات من غابات فيينا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والطريف في أمر يوهان الثاني (1825 - 1899)، هذا أنه كان أول من تمرد على رغبات أبيه المؤسس إذ كان هذا قد أوصى بأنه لا يريد لأي من أبنائه أن يصبح موسيقياً، بالتالي كان من المفروض بيوهان الثاني أن يصبح مصرفياً في وقت كانت الموسيقى ستؤول إلى شخص آخر من تلاميذ الأب هو جوزف ليتنر، وكان بارعاً بدوره، ولحّن كثيراً، لكن يوهان الثاني سرعان ما أزاحه عن عرش حاول احتلاله ليتمكن من نسف مكانة أبيه كما نسف إرادته، وقد تخلى عن مهنة الصيرفة ليصبح ملكاً غير متوج لـ "الفالس" بدوره، ولكن ليس لـ "الفالس" فقط، بل إنه خاض شتى الأنواع الموسيقية وصولاً إلى الأوبريت وغيرها مبرزاً بشكل خاص من خلال "فالس الإمبراطور" الذي يمكننا اعتباره من أشهر أعماله إلى جانب "الدانوب الأزرق".
الإمبراطوريات تختفي والموسيقى باقية
وكما الحال بين يوهان الثاني وأبيه المؤسس، ستتكرر الحكاية بين هذا اليوهان الجديد وأخيه الأصغر إدوارد (1835 - 1916) الذي كان في حقيقة أمره موهوباً في علم اللغات ويريد أن يتبع مساراً أكاديمياً، لكنه سرعان ما وجد نفسه يسير حذو أبيه وأخيه كاتباً في سيرته أنه وجد نفسه يخوض غمار الموسيقى لمجرد أنه شعر أن جوزف ابن يوهان الكبير الثالث يريد أن يخذل العائلة ويبتعد عن "الفالس" ليصبح عسكرياً، وهكذا كسبت مهنة العائلة الإبداعية هذه مبدعاً جديداً هو إدوارد شتراوس الذي لئن سيكون ضئيل الإنتاج في التلحين، فإنه سوف يتولى شؤون أوركسترا العائلة طوال 31 عاماً أي حتى العام 1901. وفي المقابل، نعرف أن جوزف شتراوس سيعود إلى حظيرة "الفالس" بدوره، لكنه لن يعمر طويلاً بسبب اعتلال صحته، فكتب أعمالاً رائعة وواعدة، لكن حقبته كانت قصيرة، ليخلفه ذاك الذي سوف يعرف بيوهان الثالث، وهو ابن إدوارد الذي ستسند إليه مهمة بالغة الخطورة تتمثل في الحفاظ على إرث العائلة وتراثها الفني كما على مكانتها ولا سيما عند بدايات القرن الـ 20 حين حلّ زمن التسجيلات والأسطوانات والتدخلات القضائية للحفاظ على الحقوق.
ولكن في ذلك الحين، كانت أمور كثيرة قد تبدلت، وكانت فيينا قد انهارت كعاصمة للإمبراطورية وانهارت معها حفلات القصور، ومع هذا تبين للجمهور العريض أن ما أبدعه موسيقيو العائلة، من كبار ذكرناهم إلى آخرين تبدوا أقل من هؤلاء أهمية فلم يتسع المكان لذكرهم، يبدو كافياً لأزمنة كثيرة مقبلة، فباتت العائلة أسطورة بقدر ما هي تاريخ، وعاش "الفالس" في أجمل أغنيات الأزمان الجديدة كما في أفلامها ومسرحياتها، حتى بعد أن نسيت كل تلك الظروف التاريخية التي خلقتها ذات يوم على ضفاف الدانوب آتية من الأندلس.