يُخطئ من يقول إن هجرة الأوكرانيين إلى الخارج هرباً من الحرب وتفاقم الأوضاع المعيشية بدأت مع الرابع والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، تاريخ بداية "العملية العسكرية الخاصة"، أو كما يسمونها في الأدبيات الغربية "الهجوم العسكري الروسي" للأراضي الأوكرانية. فالواقع يقول إن الأوكرانيين كانوا قد "بدأوا" مغادرة الوطن، مع مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لأسباب تتعلق بشظف العيش والبحث عن فرص العمل التي وجدتها الغالبية العظمى من النازحين في روسيا المجاورة. وكانت السلطات الروسية، وبموجب ما جرى توقيعه من اتفاقيات بين بلدان منظومة الكومنولث (بلدان الاتحاد السوفياتي السابق)، حول التعاون والعلاقات المتبادلة، قد وفَّرت حرية الحركة وتنظيم سوق العمل لمواطني هذه البلدان. غير أن ما تلا ذلك من تعقد في العلاقات، وتضارب في المصالح، واختلاف في التوجهات السياسية، كان سبباً في تحول الكثيرين من الأوكرانيين صوب الغرب.
غير أن ظاهرة الهجرة ظلت على قدر من الهدوء النسبي، حتى بداية الموجة الثانية للثورة البرتقالية في فبراير (شباط) 2014 وما أعقبها من أحداث جسام شهدت إطاحة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، واحتدام الأزمة في منطقة الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا ذات الأغلبية السكانية الناطقة بالروسية. وتحت وقع ضغوط الحكومة الأوكرانية الجديدة التي وجدت الدعم من جانب فصائل القوميين المتطرفين في غرب أوكرانيا، وما سنّته من قوانين وقيود "عنصرية" ضد الأقليات الناطقة بالروسية، أعلنت مقاطعتا لوغانسك ودونيتسك انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا، وهو ما لقي ارتياحاً غير معلن من جانب روسيا التي أمدت المقاطعتين بكل ما أسهم في صمودهما أمام زحف القوات الحكومية التي حاولت إخماد الحركة الانفصالية بالقوة العسكرية، وذلك ما كان البداية الفعلية للمواجهة المسلحة التي تتواصل حتى اليوم بين الجانبين.
الإعصار السكاني يعصف بأوكرانيا
مع احتدام النزاع وتصاعد حدة المواجهة المسلحة، وانفجار المشاكل القومية، والعديد من المشاكل الأخرى تدفق النازحون من مقاطعتي "دونيتسك" و"لوغانسك" صوب الأراضي الروسية المجاورة في أولى موجات الهجرة السكانية بحثاً عن الحماية والمأوى والعمل. ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية وإغلاق المؤسسات والكثير من مواقع العمل وعدم الاستقرار في مختلف أرجاء الدولة الأوكرانية، تزايدت حدة الهجرات السكانية التي لم تقتصر على جنوب شرقي أوكرانيا، بل وشملت مناطق وسط وغرب أوكرانيا التي غادرها الكثير من سكانها بحثاً عن "لقمة العيش" في بولندا ورومانيا والمجر وغيرها من بلدان شرق ووسط أوروبا، على عكس الكثيرين من سكان جنوب شرقي أوكرانيا من الناطقين بالروسية الذين وجدوا في روسيا "ضالّتهم" بما وفرته لهم من فرص عمل، بل وأقرت تيسير حصول الغالية العظمى منهم على الإقامة و"جوازات سفر"، تكفل لهم كل حقوق المواطن الروسي. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن في وقت سابق عن إقرار برنامج جديد لإعادة توطين المواطنين النازحين من بلدان الفضاء السوفياتي السابق، يهدف إلى مساعدة الأشخاص الذين يقررون مغادرة أوكرانيا، وغيرها من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، فضلاً عما كانوا يتمتعون به من امتيازات حرية التنقل والدخول من دون تأشيرات، بل وبحق العمل داخل الأراضي الروسية.
وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية يُعتد بها في هذا الشأن، تقول المصادر شبه الرسمية إن تعداد المهاجرين الذين غادروا أوكرانيا يتراوح بين خمسة وسبعة ملايين مهاجر، فضلاً عن مثلهم من النازحين الذين اضطرتهم ظروف المعيشة في السابق والنزاعات العسكرية، ثم الحرب حالياً إلى الانتقال إلى أماكن أخرى بعيداً من "النقاط الساخنة" في الداخل الأوكراني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بيانات وإحصاءات
وتقول البيانات الصادرة عن مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إن 5،034،439 أوكرانياً رحلوا عن بلادهم منذ بدء الغزو الروسي في 24 فبراير (شباط) الماضي، في أكبر أزمة لاجئين تشهدها أوروبا منذ سنوات الحرب العالمية الثانية. وتشير بيانات المنظمة الدولية للهجرة (IOM)، إلى أن من بين خمسة ملايين لاجئ يوجد أكثر من 218000 من مواطني بلدان أخرى.
وفيما يتعلق بتوزيع هؤلاء المهاجرين فقد أفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن "أكثر من 2.6 مليون مواطن هاجروا إلى بولندا بحثاً عن الحماية والدعم". كما أشارت إلى أنه اعتباراً من 9 أبريل (نيسان) الماضي عبر 686000 أوكراني إلى رومانيا، و419000 إلى المجر. وإلى مولدوفا توجه ما يقرب من 410.000 مواطن أوكراني، وإلى روسيا قرابة 404.000، وإلى سلوفاكيا 314.000. وبحلول 7 أبريل (نيسان) دخل 19000 شخص إلى بيلاروس. بين 21 و23 فبراير، غادر 113000 شخص منطقتي دونيتسك ولوغانسك إلى روسيا. أما عن عدد النازحين الذين سمحت الولايات المتحدة بدخولهم رسمياً، فلم يتجاوز حسب المصادر الروسية 12 شخصاً.
وقائع الهجرة وأسبابها
الأرقام تقول إن أوكرانيا تحتضر. فبعد تناقص عدد سكانها مما كان يزيد على 51 مليون نسمة تاريخ انفصالها عن الاتحاد السوفياتي السابق، يتراجع هذا العدد اليوم إلى ما دون أربعين مليون نسمة بكثير، في أكبر كارثة ديموغرافية تشهدها البلاد في تاريخها المعاصر، بل وهناك من البيانات والإحصائيات التي تقول إن هذا الرقم يتراجع يوماً بعد يوم، على وقع اشتداد الضائقة الاقتصادية، وتزايد حدة العمليات القتالية، وتضاعف معدل الوفيات بالمقارنة مع معدل المواليد. ونقلت صحيفة "إزفيستيا" الروسية عن خبراء ومتخصصين تصريحاتهم حول "أن الانخفاض الحقيقي أعلى بكثير من الأرقام الرسمية". وعزت الصحيفة ذلك إلى ما أشار إليه علماء الديموغرافيا من أسباب هجرة السكان، مثل الفقر والهجرة الجماعية وتدهور الرعاية الطبية. وكشفت الإحصائيات الرسمية عن تسجيل أكبر انخفاض في وسط وشرق البلاد، لأسباب تعود إلى توقف العديد من المؤسسات الصناعية عن الوجود في السنوات الأخيرة، وذلك فضلاً عن تزايد معدل الوفيات في مناطق تشيرنيغيف وسومي ودونيتسك، عن معدل المواليد بمقدار ثلاث مرات، وفي خاركوف ودنيبروبيتروفسك وبولتافا وزابورجيا بمقدر مرتين ونصف.
أما عن التعداد الحالي فإنه يتعذر الإشارة إليه لأسباب كثيرة يعجز خبراء الديموغرافيا والإحصاء السكاني عن التوصل إلى أرقام بشأنه، وإن يقول البعض إن عدد الذين يعيشون في أوكرانيا تناقص حتى قرابة 37 مليون نسمة، بينما نقلت صحيفة "إزفيستيا" الروسية عن الخبيرة الاقتصادية لاريسا شيسلر ما قالته استناداً إلى "تحليل أرقام الخبز والدقيق المستهلك في البلاد" حول أن 24.5 مليون شخص لا يزالون يعيشون في أوكرانيا التي لا تزال تفتقد إلى الإحصاء السكاني الذي تحتاج إليه أوكرانيا لدحض أو تأكيد مثل هذه المعلومات.
الهجرة الأوكرانية وتصفية الحسابات مع بوتين
الهجرة السكانية والرحيل الاضطراري عن الوطن ظاهرة لا تقتصر على بلد أو شعب بعينهما. وتقول كل الأدبيات التاريخية والوثائق إنهما صنوان لا يفترقان وتجمع بينهما الضائقة الاقتصادية واندلاع الحروب والصراعات المسلحة لأسباب منها ما يعود إلى تناقضات الداخل، أو مطامع الخارج. ولعل المتابع لما كابدته وتُكابده أوكرانيا من آلام ومتاعب، يعود في معظمه إلى تناقضات الداخل في المقام الأول. وقد شهدت هذه الظاهرة مقدماتها فيما عاشته شعوب جنوب شرقي أوكرانيا الناطقة بالروسية من مضايقات السلطات الرسمية في كييف، بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية في 2014 وما أعقبها من إعلان هذه المنطقة عن انفصالها من جانب واحد عن أوكرانيا. آنذاك، داهمتها جحافل القوات الحكومية بكل ما تملكه من عدة وعتاد ودعم من فصائل القوميين الجدد التي وجدت في هذه المنطقة فرصة لتأكيد توجهاتها القومية المتطرفة التي صارت حديث الغادي والرائح منذ ذلك الحين، تحت سمع وبصر السلطات الرسمية في كييف. وقد استطاعت هذه القوات المشتركة استعادة سيطرتها على ما يقرب من نصف أراضي مقاطعتي دونيتسك، ولوغانسك، ما اضطر الكثير من سكانها إلى النزوح إلى الأراضي الروسية المجاورة في هجرة اضطرارية بحثاً عن الحماية والأمان منذ 2014 حتى تاريخ العملية العسكرية الروسية الخاصة في فبراير (شباط) الماضي. ولطالما حاولت روسيا إقناع أوكرانيا الرسمية والعالم بعدالة قضية سكان هاتين المقاطعتين في تقرير المصير، شأن ما فعلت "كوسوفو" التي سارعت عشرات الدول الغربية إلى الاعتراف بها، دون جدوى. هاجر الكثيرون من أبناء المقاطعتين إلى روسيا التي شملتهم بالرعاية في إطار محاولات التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة وجدتها في "اتفاقيات مينسك" التي جرى التوصل إليها بمشاركة السلطات الأوكرانية الرسمية في شخص الرئيس الأوكراني السابق بيتر بوروشينكو، وتحت رعاية قيادات ألمانيا وفرنسا وروسيا.