أحدثت الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ ما يزيد على شهرين صدمة لأسواق السلع الأساسية، أدّت بدورها إلى زيادة أسعار المواد الغذائية، غير أن التأثير الأكثر ألماً عالمياً لذلك الصراع الذي تتداخل فيه القوى العالمية هو أزمة أعمق تتعلق بنقص الغذاء، وتحديداً الحبوب التي تشكل كل من روسيا وأوكرانيا مصدراً رئيساً لها بنحو أكثر من ربع الإمدادات العالمية من القمح.
ومن المتوقع أن ترتفع أسعار القمح بأكثر من 40 في المئة، لتصل إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق هذا العام، مع بقاء أسعار السلع الغذائية عند مستويات عالية تاريخياً حتى نهاية عام 2024، وفقاً لتقرير صدر حديثاً عن البنك الدولي.
كما أن الزيادات في أسعار السلع الغذائية، التي تعتبر البلدين منتجين رئيسين لها، والأسمدة، التي تعتمد على الغاز الطبيعي كمدخلات إنتاجية، كانت هي الأكبر منذ عام 2008، وسيؤدي ذلك إلى الضغط على الاقتصادات النامية التي تعتمد على واردات القمح، بخاصة من روسيا وأوكرانيا.
وقال جون بافيس، كبير الاقتصاديين في مجموعة آفاق البنك الدولي، "أسواق السلع الأساسية تتعرض لضغوط هائلة، إذ وصلت بعض أسعار السلع إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق. سيكون لهذا آثار غير مباشرة دائمة. يمكن أن يؤدي الارتفاع الحاد في أسعار المدخلات، مثل الطاقة والأسمدة، إلى انخفاض إنتاج الغذاء، بخاصة في الاقتصادات النامية. سيؤثر انخفاض استخدام المدخلات على إنتاج الغذاء وجودته، مما يؤثر على توفر الغذاء، والدخول الريفية، وسبل عيش الفقراء".
العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا على موسكو والدمار في أوكرانيا، التي يشار إليها باسم وعاء خبز أوروبا، تعني أن المستوردين الذين اعتمدوا على روسيا وأوكرانيا في إمدادات القمح عليهم الآن إيجاد بدائل.
وأمام هذا المشهد، تتسابق دول أخرى لاقتناص الفرصة لسد فجوة إمدادات القمح، التي من شأنها أن توفر فائدة اقتصادية من جانب، وعلى الصعيد الآخر كسب مزيد من النفوذ والتأثير العالمي. فبالنسبة إلى خصوم مثل الهند والصين ربما تكون الأزمة العالمية الحالية فرصة جديدة لتعزيز مكانتهما.
الهند يمكنها إطعام العالم
بالنسبة لنيودلهي، فإن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، قال إن بلاده على استعداد "لتزويد العالم بمخزونات الغذاء" إذا سمحت منظمة التجارة العالمية بذلك، باعتبار الهند ثاني أكبر منتج للقمح في العالم. وفي تعليقات عامة الشهر الماضي، قال مودي إنه أبلغ الرئيس الأميركي جو بايدن، إن الهند لديها ما يكفي من الغذاء لشعبها، لكن المزارعين اتخذوا الترتيبات اللازمة لإطعام العالم.
وتكررت هذه التصريحات من مسؤولين آخرين في الهند، حيث قال فيمال العوضي، العضو المنتدب في شركة الكيماويات الزراعية الهندية "بيست أجروليف"، إن نيودلهي لديها الطموح والقدرة على سد جزء على الأقل من فجوة إمدادات القمح العالمية، موضحاً في تعليقات نشرتها الصحافة الهندية، "الآن، عندما يراهن العالم علينا لسد فجوات العرض الناشئة عن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، لدينا فرصة عظيمة للظهور كقوة عالمية للقمح".
وأضاف، "يوجد اليوم طلب كبير على القمح الهندي في السوق الدولية. يجب أن نركز على أن نصبح مصدراً طويل الأجل لهذه البلدان، ولضمان ذلك، نحتاج إلى تصدير القمح عالي الجودة فقط إليها".
ويعتمد نحو نصف سكان الهند على الزراعة في معيشتهم، ويمثل القطاع نحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وفقاً لبيانات حكومية، لكن في حين تنتج الهند أكثر من100 مليون طن من القمح سنوياً، حيث تأتي في المرتبة الثانية بعد الصين، فإن صادراتها عام 2020 شكلت 0.5 في المئة فقط من صادرات القمح عالمياً، مقابل 17.6 في المئة لروسيا، التي تستحوذ على الحصة الأكبر عالمياً من عائدات تصدير القمح، و8 في المئة لأوكرانيا.
جودة الحبوب الهندية
ويقول مراقبون إنه في حين دفعت أزمة المعروض أسعار القمح العالمية إلى مستويات قياسية في الأسابيع الأخيرة، فإن أسعار القمح في الهند "تنافسية نسبياً"، وهو عامل آخر يعمل لصالحها. ومع ذلك، "لا تزال هناك مخاوف من أن جودة الشحنات والخدمات اللوجيستية يمكن أن تمنع ثالث أكبر اقتصاد آسيوي من تحقيق إمكاناته السوقية الكاملة".
ووفقاً لموقع "هيلينج شيبينج نيوز"، المتخصص في أخبار الشحن الدولي، فإن "نوعية الحبوب هي إحدى العقبات الرئيسة التي يمكن أن تعوق صادرات الهند، إذ إن الشوائب في بعض منتجات الهند تجعل بعض المشترين يتخوفون من قمحها، لا سيما أن الجودة تشكل عاملاً أساسياً في شأن استخدام الحبوب في صناعة المنتجات الغذائية، بما في ذلك الخبز والمعكرونة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن يرجح المراقبون "أن لا تضيع الهند هذه الفرصة الفريدة لتعزيز صادراتها، وقد بدأ التجار بالفعل في شحن مزيد من السلع إلى الخارج". وفي السنوات الأخيرة، صدرت الهند القمح بشكل أساسي إلى دول من بينها بنغلاديش، التي تستقبل نحو نصف شحنات الهند من الحبوب، والإمارات وسريلانكا. كما أن هناك مجالات تصدير جديدة واعدة تتفتح لدى العديد من البلدان بما في ذلك تركيا ولبنان.
والشهر الماضي، أعلنت وزارة التجارة والصناعة الهندية أن مصر، وهي أكبر مستورد للقمح الروسي والأوكراني، وافقت على استيراد القمح الهندي.
ومع ذلك، تقول وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد أند بورز غلوبال" إن الهند قد تخفق في تحقيق هدفها المتمثل في شحن 3 ملايين طن من القمح إلى مصر في السنة المالية الحالية، بل ربما تبلغ صادراتها مليون طن فقط، بسبب "مشكلات الجودة والخدمات اللوجيستية"، ذلك جنباً إلى جنب مع الأحداث المناخية القاسية التي يمكن أن تؤثر على المحاصيل وإنتاجية أصناف القمح المناسبة للتصدير.
الصين تكتنز الحبوب
ويعتقد مراقبون أن الصين، المنتج الأول للقمح في العالم، ربما تتحول لمنافس كبير للهند بالنظر إلى تحركات عدة تتخذها بكين منذ العام الماضي، بينها الاستحواذ على حصة كبيرة من القمح الروسي وغيره من الأسواق في العالم، مما أثار انتقادات واتهامات للصين باكتناز الحبوب والتسبب في دفع الأسعار نحو مزيد من الارتفاع.
ووفقاً لتوقعات وزارة الزراعة الأميركية، فإنه بحلول منتصف العام الجاري ستمتلك الصين 69 في المئة من احتياطي الذرة في العالم، و60 في المئة من مخزون الأرز، و51 في المئة من القمح.
يقول الكاتب الأميركي، آدم مينتر، إن الدول الأخرى، بخاصة في العالم النامي، قد تتساءل عن سبب اكتناز أقل من 20 في المئة من سكان العالم لهذا القدر من الطعام، لكن بعيداً من سيناريوهات التنافس على سد الفجوة الغذائية في العالم، يفسر مينتر في مقال نشر أخيراً على موقع شبكة "بلومبيرغ"، أسباب احتفاظ الصين بمثل هذه المخزونات، وعلى رأسها ضمان "أنها لن تكون تحت رحمة كبار مصدري الغذاء مثل الولايات المتحدة". وأضاف أن الخوف من نقص الغذاء الناجم عن جائحة كورونا وخوف أكثر شيوعاً من المجاعة التي ابتُليت بها الصين طوال تاريخها وانخفاض الإنتاجية الزراعية بسبب عوامل مثل التحضر وسوء المناخ، جنباً إلى جنب مع كون الحبوب عملة قوية للاستيراد، جميعها أسباب "دفعت بكين للاستحواذ على مزيد من المخزونات العالمية".
وفي إطار مبادرة الحزام والطريق، التي ستربط الصين بأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا عبر شبكات النقل البري والبحري، وقعت الصين أكثر من 100 اتفاقية تعاون زراعي مع دول المبادرة. ومن خلال ذلك المشروع الضخم، تحاول بكين إعادة بناء سلاسل الإمداد الغذائي العالمية عبر اتفاقيات التجارة الحرة الخارجية واستثمارات البنية التحتية والاستحواذ على الأراضي الزراعية الأجنبية.
ويجادل آخرون بأنه لا ينبغي تحميل الصين مسؤولية ارتفاع الأسعار العالمية أو النقص الإقليمي، وأنها بحاجة بالفعل للتركيز على تحسين الإنتاج المحلي وإجراء تغييرات هيكلية في الصناعة لضمان أن يكون لدى أكبر عدد من السكان في العالم ما يكفي من المواد الغذائية.
وقال يو تشونهاي، نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة رينمين ببكين، "الصين لم تخزن الحبوب، بل جرى استخدام الواردات فقط لسد فجوة العرض المحلي"، لكن في الوقت نفسه، أشار تشونهاي إلى حاجة الصين إلى لعب دور في تحديد الأسعار عالمياً، باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وقال في تعليقات لصحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست"، إنه إذا نجحت الصين في تحسين الإنتاج المحلي عبر مجموعة متنوعة من السياسات، "فسيكون ذلك أكبر مساهمة لها في استقرار أسعار الحبوب العالمية".
الاكتفاء الذاتي
الأمر لا يتعلق فقط بالحصول على ما يكفي من الطعام، بل بإنتاج ما يكفي من الطعام محلياً لتقليل الاعتماد على أي بلد آخر. ففي حين أن الصين هي أكبر منتج للقمح في العالم، فإنها في الوقت نفسه أكبر مستهلك.
وفي مطلع العام الجاري، قال الرئيس الصيني، شي جينبيغ، أمام اجتماع رفيع المستوى للحزب الشيوعي الحاكم، إن "طعام الشعب الصيني يجب أن يصنع ويبقى في أيدي الشعب الصيني". فمن وجهة نظر الحكومة الصينية، فإن التحركات كانت إنجازاً رائعاً لإطعام 1.4 مليار شخص يمثلون نسبة 20 في المئة من العالم بنحو 7 في المئة فقط من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم.
وتخطط الصين، التي تواجه أسوأ محصول قمح لها منذ عقود بعد فيضانات شديدة، لشراء المزيد من الإمدادات المتضائلة في العالم. وفي 5 مارس (آذار) الماضي، كشفت بكين عن أن الفيضانات العام الماضي أخّرت زراعة ثلث محصول القمح في البلاد، مما يعني موسم حصاد قاتماً. وقال وزير الزراعة الصيني، تانغ رنجيان، "يمكن القول إن وضع الشتلات هذا العام هو الأسوأ في التاريخ".
ومع ذلك يشكك مراقبون في الولايات المتحدة بحجج الصين، فالأسبوع الماضي، قالت مجموعة "كوموديتي ويزر"، المتخصصة بالاستشارات في مجال الزراعة، إن الخرائط الحالية المستندة إلى صور الأقمار الصناعية "تتناقض مع ما تقوله الصين".
وأوضح ديفيد ستريت، كبير مسؤولي التشغيل في الشركة، أنه وفقاً للبيانات الحالية فإن معظم مناطق القمح تبدو جيدة إلى حد ما فيما يتعلق بالصحة النباتية. وأشار إلى أنه وفقاً لخرائط فهرس الغطاء النباتي الطبيعي، التي أعدّتها وزارة الزراعة الأميركية، فإن "النمو الخضري أعلى بكثير من المعدل الطبيعي في مقاطعات خنان وشاندونغ وآنهوي وخبي وجيانغسو وسيتشوان، التي تمثل مجتمعة ثلاثة أرباع من إنتاج القمح في البلاد".