Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تسونامي الكربون المقبل

البلدان النامية تحتاج إلى نموذج نمو جديد - قبل أن يفوت الأوان

"مواطنو أقل البلدان نمواً لديهم التطلعات نفسها إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي كمواطني الصين أو ألمانيا أو الولايات المتحدة" (رويترز)

في النضال من أجل مكافحة تغير المناخ، يخوض العالم الحرب الأخيرة. منذ فجر الثورة الصناعية، أطلقت البلدان تريليوناً ونصف التريليون طن متري من ثاني أوكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي. وصدرت الانبعاثات التراكمية الأضخم من الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية والصين وروسيا بهذا الترتيب. لكن هذه البلدان أصبحت الآن مزدهرة بالقدر الكافي لتغطية تكاليف السياسات القادرة على وضعها على مسار الانبعاثات الصفرية الصافية بحلول منتصف القرن. أما البلدان التي تطلق أعلى الانبعاثات في المستقبل فقد تأتي إلى حد كبير من صفوف العالم النامي - مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا، وهي بلدان تواجه المهمة الضخمة المتمثلة في انتشال الملايين من براثن الفقر في حين تتكيف في الوقت نفسه مع الحقائق القاسية المرتبطة بتغير المناخ.

وإذا لم تتحمل البلدان الصناعية المسؤولية عن المساعدة في منع هذه الموجة التالية من الانبعاثات، سيفشل الجهد العالمي الرامي إلى تجنب تعطل مناخي لا محالة. فالجهود الرامية إلى ضمان لجم أضخم مصادر التلوث اليوم بسرعة انبعاثاتها تشكل أهمية بالغة، لكن هذا التقدم مهدد بالانمحاء إذا وجدت البلدان الأكثر فقراً أن تبني استراتيجية تنمية منخفضة الكربون أمر مستحيل. ومن أجل الحفاظ على البيئة وفي الوقت نفسه المساعدة على انتشال مئات الملايين من البشر من براثن الفقر، يتعين على البلدان الغنية أن تقدم التمويل والدعم في مجال وضع السياسات على نطاق لم يكن متاحاً حتى الآن للبلدان الأكثر فقراً.

هناك ما يقرب من 24 اقتصاداً ناشئاً في مختلف أنحاء العالم من المحتمل أن توسع نطاق انبعاثاتها من غازات الدفيئة في شكل كبير في المستقبل القريب إذا لم تتلقَّ هذه المساعدة. والواقع أن حجم كتلها السكانية، ومعدلات نموها الاقتصادي السريعة، واعتمادها على الوقود الأحفوري، تضعها على مسار يسمح بالتوسع الهائل في انبعاثاتها. وقد تتسبب هذه الاقتصادات مجتمعة في الموجة الهائلة نفسها من الانبعاثات التي أنتجتها الصين أثناء العقدين الأولين من هذا القرن، عندما أطلقت 195 مليار طن متري من غازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي. وهذا من شأنه أن يجعل الجهود الرامية إلى الوصول إلى "الصفر الصافي" بحلول منتصف القرن، وهو ما يقول العلماء إنه ضروري لتجنب أسوأ آثار تغير المناخ، مستحيلة.

على الرغم من إعلان قادة العالم عزمهم الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية، يتجه الكوكب حالياً إلى اختبار احترار يتجاوز كثيراً ذلك المستوى

وهذا التحدي لا يمثل معضلة علمية وسياسية فحسب، بل أيضاً معضلة أخلاقية ومعنوية. فمواطنو أقل البلدان نمواً على مستوى العالم لديهم التطلعات نفسها إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي كمواطني الصين أو ألمانيا أو الولايات المتحدة. وأولئك الذين يجادلون بأن السبيل الوحيد لمكافحة تغير المناخ يتلخص في الحد من النمو الاقتصادي يفوتهم الغياب الجوهري للإنصاف عن التنمية الاقتصادية العالمية، التي خلفت ثلث سكان العالم وراءها. لكن إذا اتبعت البلدان النامية نمط "النمو أولاً والنظافة البيئية لاحقاً"، الذي كرسته الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وبلدان شرق آسيا، ستكون العواقب على المناخ مأساوية.

لكن التركيز الدولي يظل منصباً بعناد على الانبعاثات الكربونية للصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولا تزال المؤسسات المصممة إلى حد كبير من قبل البلدان المتقدمة ومن أجلها -مثل منتدى الاقتصادات الرئيسة المعني بالطاقة والمناخ ومجموعة البلدان السبع- تشكل أهمية مركزية لدبلوماسية المناخ، حتى ولو لم تثبت بعد فاعليتها في الحد من الانبعاثات العالمية. لكن أغلبية انبعاثات هذه البلدان بلغت ذروتها بالفعل، وكلها تتباهى بمؤسسات الحوكمة الناضجة، والقطاعات الخاصة النابضة بالحياة، والقدرة على الوصول إلى رأس المال على النحو الذي يجعل من المعقول تماماً أن تحقق الصفر الصافي بحلول عام 2050.

بيد أن العالم النامي لا يتمتع بأي من هذه المزايا. وليس العديد من قادة البلدان النامية معنيين بمستوى أقل بالعمل المناخي من نظرائهم في بكين وواشنطن وبروكسل، وستحدد الاختيارات التي سيتخذونها في السنوات الخمس أو العشر المقبلة إلى أي مدى يمكن تجنب زيادة الانبعاثات. لكن حتى الآن كانت الجهود الرامية إلى تزويد بلدانهم بفرص النمو الاقتصادي المنخفض الكربون غير كافية على الإطلاق. وعلى الرغم من أن مؤتمر الأمم المتحدة الأخير حول تغير المناخ، المعروف باسم COP26 (مؤتمر الأطراف الـ26)، أسفر عن تقدم تدريجي، أقر المفاوضون أيضاً "بأسف عميق" بأن البلدان فشلت في تعبئة التمويل لصالح استراتيجيات التنمية الخضراء التي وعدت بها في اتفاقات سابقة - بل إن تلك التعهدات لم تكن كافية لمعالجة حجم المشكلة. ومن ناحية أخرى، يستمر القطاع الخاص في الاستثمار في مشاريع الطاقة التي يرغب فيها - بصرف النظر عن مدى التلويث البيئي لهذه المشاريع.

وعلى الرغم من إعلان قادة العالم عزمهم الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية [مقارنة بها قبل الثورة الصناعية]، يتجه الكوكب حالياً إلى اختبار احترار يتجاوز كثيراً ذلك المستوى. وستكون العواقب مدمرة: وفق أحدث تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، ستتسبب كل 0.5 درجة مئوية إضافية من الاحترار تتجاوز 1.5 درجة مئوية في "زيادات ملحوظة بوضوح في كثافة الظواهر المناخية القصوى الساخنة وتكرارها. . . فضلاً عن حالات الجفاف الزراعي والبيئي". وفي حالة ارتفاع درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين، من المرجح لموجات الحرارة الشديدة التي كانت لتحدث عادة مرة واحدة فقط في غضون 50 سنة أن تحدث 14 مرة أثناء الإطار الزمني نفسه. ويواجه 350 مليون شخص آخرين خطر التعرض إلى حرارة فتاكة: قد يشهد سكان كراتشي بباكستان وكالكوتا بالهند، مثلاً، على أساس سنوي موجة حارة كتلك التي ضربت شبه القارة الهندية عام 2015 وقتلت الآلاف. وستصيب هذه التغيرات العالم المتقدم والعالم النامي على حد سواء؛ ولا بديل سوى التعاون من أجل تجنب أسوأ آثار تغير المناخ.

اللعبة الخطرة مع المناخ

عندما ووجه قادة أميركا في وقت سابق بانبعاثات سريعة النمو من العالم النامي، استجابوا للتحدي إلى حد كبير بتوجيه أصابع الاتهام. وكان تقاعسهم عن العمل سبباً في تمهيد الطريق أمام ارتفاع هائل في انبعاثات غازات الدفيئة.

عام 1997، وافق مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع على قرار بيرد-هيغل الذي أعلن أن الولايات المتحدة لن توقع اتفاقية دولية تقضي بخفض الانبعاثات إذا لم تنص على خفض انبعاثات غازات الدفيئة في البلدان النامية أيضاً. واستمرت اللعبة الخطرة، التي أطلقها عضو مجلس الشيوخ روبرت بيرد، الديمقراطي عن ولاية وست فرجينيا، وعضو مجلس الشيوخ تشاك هيغل، الجمهوري عن ولاية نيبراسكا، لمدة 17 سنة طويلة، حتى عام 2014، عندما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الصيني شي جينبينغ معاً عن إلزام بلديهما بمستهدفات من اختيارهما لخفض الانبعاثات. ومهد هذا الاختراق الطريق أمام تبني اتفاقية باريس العالمية في شأن تغير المناخ عام 2015، التي التزم فيها كل بلد في العالم التزاماً عازماً على المستوى الوطني بالحد من الانبعاثات.

عند تمرير قرار بيرد-هيغل، كانت الانبعاثات الصينية لا تتجاوز 3.1 مليار طن متري سنوياً. وبلغت الانبعاثات في الولايات المتحدة 5.5 مليار طن متري سنوياً، وعلى أساس نصيب الفرد في الانبعاثات، أطلق الأميركيون من ثاني أوكسيد الكربون ثمانية أضعاف ما أطلقه الصينيون. واليوم، تطلق الصين من انبعاثات غازات الدفيئة كمية أكبر كثيراً مقارنة بأي بلد آخر، ولو أن نصيب الفرد في الانبعاثات لديها لا يتجاوز نصف نظيره في الولايات المتحدة. ولو أن البلدان الصناعية مثل الولايات المتحدة أيدت تحول الصين إلى نموذج اقتصادي منخفض الكربون خلال العقدين تقريباً اللذين فصلا بين قرار بيرد-هيغل واتفاقية باريس، يكاد يكون من المؤكد أن العالم كان ليتجنب ارتفاع الانبعاثات من الصين بنحو 200 مليار طن متري منذ بداية القرن الحادي والعشرين.

عام 1997، كان الناتج المحلي الإجمالي للصين ضئيلاً مقارنة بنظيره الأميركي، إذ سجل أقل من تريليون دولار محتسبة بالقيمة الحالية لعملة الولايات المتحدة. غير أن انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 أطلق العنان لإمكانات نموذجها التنموي المستند إلى التصدير: سجل الناتج المحلي الإجمالي في الصين نمواً هائلاً على مدى السنوات الـ20 التالية فبلغ 14.7 تريليون دولار بحلول عام 2020. هذا هو نموذج التنمية الذي تستلهمه أغلبية البلدان النامية اليوم - لكنه كارثة مناخية. ومع انفجار نمو الاقتصاد الصيني، قفزت انبعاثات البلاد على نحو مماثل، لتتجاوز بذلك نظيرتها في الولايات المتحدة عام 2005 وتتضاعف إلى ثلاثة أمثالها في غضون 14 سنة فقط.

وانتُزع ملايين الناس من براثن الفقر خلال "المعجزة" الاقتصادية الصينية. لكن تلوث الهواء في المناطق الحضرية خنق مدن الصين، وأفسد التلوث إمداداتها من المياه. وتوصلت دراسة مشتركة أجرتها عام 2007 الحكومة الصينية والبنك الدولي إلى أن المياه في نصف الأنهار الرئيسة في الصين غير آمنة للاستهلاك البشري. وطبقاً لتقديرات الدراسة نفسها، عادل العبء الاقتصادي المرتبط بتلوث الهواء وحده خفضاً بنسبة 1.16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الصين.

وليس من المرجح أن ينتج أي بلد بمفرده حجم الانبعاثات نفسه الذي أنتجته الصين أثناء العقدين الأولين من هذا القرن. كان نمو الانبعاثات في الصين نتيجة للحجم الهائل لكتلتها السكانية، ومعدلات النمو الاقتصادي المرتفعة، والاعتماد الشديد على الفحم لتوليد الطاقة. هناك 15 من الأسواق الناشئة أو البلدان النامية الرئيسة التي تمتلك اثنين من بين هذه العوامل الثلاثة (بنغلاديش، والصين، والكونغو، ومصر، وأثيوبيا، والهند، وإندونيسيا، وباكستان، والفيليبين، وجنوب أفريقيا، وتنزانيا، وتايلاند، وتركيا، وأوغندا، وفيتنام)؛ وتعتمد ثمانية بلدان أخرى اعتماداً عميقاً على استهلاك النفط، وهو ثاني أكثر أنواع الوقود إصداراً للانبعاثات الكربونية المكثفة (الجزائر، والبرازيل، وإيران، وكازاخستان، والمكسيك، ونيجيريا، وروسيا، والمملكة العربية السعودية). وهذا ما مجموعه نحو 24 بلداً تستحق الاهتمام والدعم على سبيل الأولوية.

من شأن العديد من هذه البلدان مجتمعة، إذا استمرت على مسار النمو الاقتصادي الحالي، أن تنشئ بسهولة موجة من الانبعاثات أشبه بتلك التي تسببت بها الصين بين عامي 2000 و2020. مثلاً، إذا كان لأربعة فقط من هذه البلدان -إندونيسيا وإيران ونيجيريا والمملكة العربية السعودية- أن تحقق معدلات نمو الانبعاثات السابقة للجائحة (وفق متتبع الإجراءات المناخية) حتى عام 2050، سيصبح صافي انبعاثاتها التراكمية بين الآن ووقتذاك 197 مليار طن متري. وهذا الرقم يعادل ناتج انبعاثات الصين بين عامي 2000 و2020.

ولا يأخذ هذا الحساب في الاعتبار أي سياسات أو تعهدات مقررة لخفض الانبعاثات. ومن حسن الحظ أن العديد من البلدان النامية أعلنت عن نيتها تحسين سجلاتها المناخية: فقد تعهدت جنوب أفريقيا بالوصول إلى انبعاثات صفرية صافية بحلول عام 2050، والتزمت إندونيسيا والمملكة العربية السعودية بالوصول إلى الصفر الصافي بحلول عام 2060، كما وعدت الهند بتحقيق الصفر الصافي بحلول عام 2070. لكن أياً من هذه البلدان لم يضع خطة تفصيلية لكيفية تحقيق هدفه. ومن ناحية أخرى، لم تعلن إيران حتى الآن جدولاً زمنياً للوصول إلى الصفر الصافي، وستواجه البلدان التي تعتمد بشدة على الفحم، مثل الهند وفيتنام، وقتاً عصيباً في شكل خاص في تحقيق الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر. وعلى الرغم من هذه التحديات، التزمت فيتنام في مؤتمر الأطراف الـ26 بالتخلص التدريجي من استخدام الفحم محلياً بحلول عام 2040.

وسيكون لزاماً على الاقتصادات الغنية أن تقدم شكلاً ما من أشكال الدعم إلى هذه البلدان كلها بهدف إنهاء العمل كالمعتاد. وتملك العديد من بلدان العالم النامي نيات طيبة لتجنب تغير المناخ، لكنها تحتاج إلى التمويل والدعم التقني لتحقيق هذا التحول في السياسات. ومن المفهوم أنها ستعطي الأولوية إلى التخفيف من حدة الفقر والنمو الاقتصادي – ولا سيما الآن، مع خروج العالم من الركود العالمي الناجم عن جائحة "كوفيد-19".

وهذه البلدان النامية أكثر عرضة أيضاً إلى ظروف الطقس القصوى الناجمة عن تغير المناخ. وإذا لم يبدأ العالم في خفض الانبعاثات بسرعة، سيتعثر نمو هذه البلدان بسبب الأعاصير والانهيارات الطينية والفيضانات وحالات الجفاف المتكررة على نحو متزايد. وبين أحد التحليلات، الذي رعته شبكة عالمية من المصارف المركزية، أن أغلبية البلدان قد تشهد خسارة تتراوح بين عشرة في المئة إلى 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في حال عدم اتخاذ خطوات إضافية للتخفيف من حدة تغير المناخ. ومن المتوقع أن تحدث كبرى الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا، لكن الصين والولايات المتحدة قد تتكبدان خسائر كبيرة تصل إلى عشرة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ووفق تقرير صدر عن الأمم المتحدة في وقت سابق من هذا العام، سترتفع تكاليف التكيف مع تغير المناخ في البلدان النامية من 70 مليار دولار اليوم إلى 500 مليار دولار بحلول عام 2050.

وسيكون تحول بعض هذه البلدان صعباً في شكل خاص إذا اعتمدت في شكل كبير على إنتاج الوقود الأحفوري، وهو ما ينطبق على إيران وروسيا والمملكة العربية السعودية. وحتى إذا نجحت هذه البلدان في الحد من الانبعاثات في اقتصاداتها المحلية، ستظل تصدر الفحم والنفط والغاز لدعم نموها الاقتصادي. وإذا استمرت في تشجيع نمو الانبعاثات في بلدان أخرى، ستصبح تعهداتها في شأن الصفر الصافي جوفاء.

الشعور بالضغط

على الرغم من تنفيذ أربع اتفاقيات مناخية رئيسة والتحذيرات الوخيمة في شكل متزايد التي يصدرها العلماء، ارتفعت انبعاثات غازات الدفيئة من المصادر كلها بنسبة 58 في المئة بين عامي 1990 و2020. وازداد تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي بنسبة 18 في المئة خلال الفترة نفسها (نظراً إلى أن المحيطات والغابات تمتص بعض الانبعاثات).

بل إن اتفاقية باريس، التي تشكل نتيجة طيبة وفق معايير مفاوضات المناخ الدولية، ليست كافية على الإطلاق. فإذا وفت البلدان كلها بوعودها، ستقل الانبعاثات بنحو 15 مليار طن متري، وسيكون متوسط درجات الحرارة العالمية أقل بمقدار درجة مئوية واحدة عام 2050 مقارنة بما كان ليحدث بخلاف ذلك. وعلى الرغم من هذا سيظل إجمالي الاحترار طبقاً لأغلبية التقديرات عند مستوى لا يحتمل يساوي 2.7 درجة مئوية.

هناك ثلاثة أسباب رئيسة وراء قصر الجهود العالمية. أولاً، في اتفاقية باريس، كما هي الحال مع أغلبية الاتفاقيات البيئية العالمية، تواجه البلدان القليل من العواقب على عدم تحقيق مستهدفاتها. فقد استقر المفاوضون في الملف المناخ على نهج يسمح لكل بلد بتحديد مساره إلى الحد من الانبعاثات الكربونية على أمل أن يضمن هذا مشاركة شاملة - وبالتأكيد بالقدر الكافي، قدم 193 بلداً مستهدفات محددة محلياً بموجب اتفاقية باريس. لكن لا توجد آلية للإنفاذ تضمن احترام البلدان التزاماتها وعدم اتخاذ أي وسيلة لزيادة الجهود التي تبذلها البلدان المتقاعسة. كذلك حدد العديد من القادة السياسيين مستهدفات طموحة للمستقبل البعيد، بعد فترة طويلة من تركهم مناصبهم - بمعنى أنهم لن يكونوا مجبرين على اتخاذ القرارات الصعبة اللازمة لتحقيق أهدافهم المعلنة.

ثانياً، فشلت الاقتصادات الناشئة (فضلاً عن العديد من الاقتصادات الصناعية) في تطوير نموذج للنمو الاقتصادي لا يعتمد على الوقود الأحفوري والتصنيع الكثيف الاستخدام للطاقة. فقد تبنت اليابان وكوريا الجنوبية والصين ما أصبح يعرف بنموذج التنمية الشرق آسيوي -وهو النهج الذي يعتمد على التصنيع المكثف والتصدير، مع تدخل كبير من الدولة- وهذه البلدان كلها من بين أكبر عشرة بلدان إطلاقاً للانبعاثات اليوم. وتحاول الصين الحد من كثافة الكربون في اقتصادها من خلال التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة والطاقة النووية، لكن التخلي عن الفحم بطيء للغاية.

ثالثاً، لا توفر تدفقات رأس المال العام والخاص إلى الاقتصادات النامية التمويل الكافي لمشاريع الطاقة الخضراء. فطبقاً لتقديرات وكالة الطاقة الدولية فإن استثماراً سنوياً في الطاقة النظيفة يبلغ أربعة تريليونات دولار مطلوب لإزالة الكربون من نظام الطاقة العالمي. وفي باريس، التزم المفاوضون بتعبئة 100 مليار دولار فقط سنوياً للبلدان النامية بحلول عام 2020 - وحتى هذا التعهد لم يتحقق.

وعلى الرغم من صعوبة متابعة تمويل المناخ، يبدو العالم وكأنه يعبئ ما يزيد قليلاً على 600 مليار دولار سنوياً، أي 15 في المئة فقط من المبلغ المطلوب. وتقدم مؤسسات وشركات التنمية الوطنية القسم الأعظم من الأموال (نحو 275 مليار دولار)، وتأتي المصارف المتعددة الأطراف والتجارية في المرتبة الثانية (بأكثر من 190 مليار دولار)، ويقدم كل من المستثمرين الأفراد والشركات المملوكة للدولة نحو 55 مليار دولار. لكن ثلاثة أرباع هذه الأموال تنفق على المستوى المحلي في البلدان المتقدمة، ولا تترك إلا أقل القليل للعالم النامي. فأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تستفيد من نحو 20 مليار دولار فقط من تمويل المناخ سنوياً، مثلاً، مقارنة بنحو 292 مليار دولار في شرق آسيا.

لقد فشلت أغلبية مؤسسات التنمية المتعددة الأطراف في ترتيب أولويات مشاريع الطاقة المنخفضة الكربون. وتوصلت دراسة لاستثمارات البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية وبنك التنمية الآسيوي عامي 2015 و2016 إلى أن نحو 20 في المئة فقط من التمويل من هذه المؤسسات الثلاث كان متوائماً مع هدف الحفاظ على احترار يقل عن درجتين مئويتين.

وأفاد البنك الدولي بأنه قدم 9.4 مليار دولار لتمويل كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة بين عامي 2015 و2020. وهو لا يقدم تقريراً عن استثماراته في الوقود الأحفوري، الأمر الذي يجعل من الصعب تقييم محفظته الإجمالية - على الرغم من أن إحدى المنظمات غير الحكومية الألمانية، "أورجوالد"، أجرت أبحاثاً تشير إلى أن البنك الدولي استثمر 10.5 مليار دولار في مشاريع جديدة للوقود الأحفوري منذ توقيع اتفاقية باريس. وعلى النقيض من هذا، ضخ اثنان مما يسمى مصارف السياسات في الصين (بنك التنمية الصيني وبنك الاستيراد والتصدير الصيني)، وهما من المصارف التي تديرها الحكومة، 16.3 مليار دولار في مشاريع الطاقة الكهرومائية، و7.8 مليار دولار في الطاقة النووية، و2.4 مليار دولار في مصادر الطاقة المتجددة بين عامي 2016 و2020.

وعلى الرغم من أن أغلبية مصارف التنمية المتعددة الأطراف أوقفت تمويل الفحم قبل عقد، فلم تفعل إلا أقل القليل لدعم بدائل هذا الوقود الذي يصدر انبعاثات كربونية مكثفة. وتحقق بعض التقدم المتواضع: لقد مول كل من البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وبنك التنمية الجديد مشاريع الطاقة المتجددة في شكل فاعل. وتؤكد استراتيجية البنك الدولي في مجال الطاقة، التي حدثت عام 2020، أن البنك لم يعد يمول مشاريع الفحم، وأنه أوقف تمويل إنتاج النفط والغاز عام 2019، وأنه "عزز" الجهود الرامية إلى مساعدة البلدان النامية على الانتقال إلى الطاقة النظيفة.

هذه مبادرات محمودة، لكن استثمارات المصارف المتعددة الأطراف في الطاقة النظيفة لا تزال غير كافية. فقد دعمت صناديق الاستثمار في المناخ التابعة للبنك الدولي 26 غيغاوات من الطاقة النظيفة منذ عام 2008، في حين مولت الصين وحدها 32 غيغاوات من مشاريع الطاقة النظيفة في السنوات الخمس الأخيرة. وأداة التمويل الرئيسة بموجب اتفاقية باريس هي صندوق المناخ الأخضر، وهو منظمة صغيرة كانت حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2021 قد مولت 190 مشروعاً فقط في مختلف أنحاء العالم، مع التزام تراكمي بقيمة عشرة مليارات دولار. وعلى الرغم من أن الصندوق ينبغي أن يظل جزءاً من الحل، فلن توفر النهج المتبعة في تمويل كل مشروع على حدة حجم الدعم المطلوب.

ويعني فشل مصارف التنمية المتعددة الأطراف في إتاحة تمويل الطاقة النظيفة على نطاق واسع يعني أنها تفسح المجال للمستثمرين من القطاعين العام والخاص الأكثر اهتماماً بالربح أو العوامل الجيوسياسية من تغير المناخ. ووفرت مبادرة الحزام والطريق الصينية دعماً إنمائياً مهماً للعديد من البلدان الأكثر فقراً، لكن أكثر من 55 في المئة من تمويل الطاقة في المبادرة كان من نصيب الوقود الأحفوري، ومن هذا الأخير، كان 70 في المئة عبارة عن استثمار في الفحم. وفي الإجمال، مولت الصين 133 غيغاوات من محطات الطاقة الجديدة بين عامي 2000 و2021، كان من بينها 56 غيغاوات مولدة من الفحم، و35 غيغاوات من الطاقة الكهرومائية، وتسعة غيغاوات من الرياح، وأربعة من الطاقة الشمسية، وواحد من الطاقة النووية. والتزم شي أخيراً بالتوقف عن بناء محطات الفحم في الخارج و"تكثيف" الدعم لمشاريع الطاقة المنخفضة الكربون والنظيفة، لكن لا يزال علينا أن نرى ما إذا كانت الصين ستلتزم بهذه الوعود.

لكن على الرغم من الإغراء الذي ينطوي عليه انتقاد الصين تمويل مشاريع الفحم في الخارج من خلال مصارف السياسات المملوكة للدولة، من المهم أن نلاحظ أن 87 في المئة من تمويل مصانع الفحم في الخارج بين عامي 2013 و2018 جاءت من ممولين من القطاعين العام والخاص غير الصينيين، بما في ذلك مصارف الاستثمار التجاري الأميركية، ومصارف يابانية عامة وخاصة، وغير ذلك كثير.

وأثناء عهد إدارة ترمب، لم تقدم الولايات المتحدة أي دعم تقريباً إلى استراتيجيات التنمية الخضراء. فقد أوقف بنك التصدير والاستيراد الأميركي الإقراض مؤقتاً عام 2015، لأنه افتقر إلى النصاب القانوني في مجلسه المكون من خمسة أعضاء ورفض الجمهوريون تثبيت المعينين الجدد. وأعيد تفويضه عام 2019، مع تأخير لمشاريع بقيمة 39 مليون دولار في تمويله المرتقب. ولم يكن لدى الولايات المتحدة مصرف للتنمية حتى عام 2019، عندما ولدت المؤسسة الأميركية لتمويل التنمية الدولية - وحتى في ذلك الوقت، لم تستغل إدارة ترمب هذا المصرف كثيراً. والتزمت المؤسسة بتحقيق الصفر الصافي في محفظتها الاستثمارية بحلول عام 2040 وأعلنت في سبتمبر (أيلول) أن الاستثمارات التي تركز على المناخ ستشكل ثلث محفظتها بحلول السنة المالية 2023.

والولايات المتحدة لديها أيضاً الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، لكن مواردها ضئيلة مقارنة بموارد مصارف التنمية العالمية. والتزمت ميزانية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية للعام المالي 2021 بتقديم 600 مليون دولار فقط إلى جهود مكافحة تغير المناخ. وكانت مبادرة "الطاقة لأفريقيا" التي أطلقتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في عهد إدارة أوباما، وتهدف إلى توسيع القدرة على الوصول إلى الطاقة النظيفة في أفريقيا، مثالاً عظيماً على ما هو مطلوب - لكنها ماتت في مهدها خلال سنوات ترمب. فحتى مارس (آذار) 2021، مولت "الطاقة لأفريقيا" 12 غيغاوات فقط من الطاقة المتجددة، ولم يبدأ العمل بالفعل إلا في 4.8 غيغاوات منها. وتعد الموارد المكرسة لبرامج الطاقة النظيفة أصغر كثيراً من أن تسمح لها بتلبية الطلب المتزايد في العالم النامي.

التنمية الموقوفة

ليست العديد من البلدان النامية على استعداد لتحقيق مزيد من التنمية المستدامة فحسب، بل إنها حريصة أيضاً على تحقيق هذه الغاية. ويتمثل التحدي في تأمين التمويل اللازم والمساعدة التقنية اللازمة للانتقال إلى الطاقة النظيفة من دون تعريض النمو الاقتصادي لهذه البلدان إلى الخطر.

ولنأخذ إثيوبيا، التي التزمت بمستقبل من الوقود غير الأحفوري وكانت لديها قائمة طويلة من مشاريع الطاقة الحرارية الأرضية، والطاقة المائية، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح في خطتها الرئيسة لقطاع الكهرباء. لكن العديد من هذه المشاريع لم تمول حتى الآن، حتى مع حلول إثيوبيا من بين أكبر ثلاثة بلدان في العالم على صعيد عدد الأشخاص الذين لا يملكون القدرة على الوصول إلى الطاقة الكهربائية. ونظراً إلى افتقار البلاد إلى الجدارة الائتمانية، تشكل الصين المقرض الرئيس المهتم لمشاريع الطاقة المتجددة الإثيوبية: قدم بنك التصدير والاستيراد في بكين 4.4 مليار دولار في تمويل إلى تسعة مشاريع للطاقة المائية وطاقة الرياح وخمسة مشاريع لنقل الطاقة وتوزيعها منذ عام 2000. ومن ناحية أخرى، قدم البنك الدولي قروضاً بلغت 2.4 مليار دولار إلى إثيوبيا خلال هذه الفترة لتمويل مشاريع طاقة ومشاريع مرتبطة بالمناخ.

في الوقت الحالي، تنفصل السياسات المناخية الوطنية في الأساس عن التدفقات المالية العالمية

وهناك بلدان أخرى منفتحة على الطاقة النظيفة لكنها مشغولة بحلول قريبة الأجل لنقص الطاقة لديها. فباكستان تتبع استراتيجية للطاقة تستند إلى مفهوم "ما ورد أعلاه كله"، بما في ذلك توسيع طاقة الفحم، والطاقة الكهرومائية، وطاقة الغاز الطبيعي، والطاقة النووية، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح. ومولت مصارف السياسات في الصين مزيجاً من مشاريع الوقود الأحفوري والوقود غير الأحفوري في البلاد، فاستثمرت 20.6 مليار دولار في 19 مشروعاً من مشاريع الطاقة منذ عام 2000، بما في ذلك سبعة مشاريع للفحم، وخمسة مشاريع كهرومائية، وثلاثة مشاريع نووية. وخلال الفترة الزمنية نفسها، يبدو أن البنك الدولي استثمر 4.4 مليار دولار، في مشاريع للطاقة النظيفة والنقل والتوزيع أساساً. ولا شك في أن التخفيف من آثار تغير المناخ في باكستان يبدو وكأنه رفاهية لا تستطيع البلاد تحمل تكاليفها دوماً في إطار الجهود الرامية إلى زيادة نموها الاقتصادي والتخفيف من حدة الفقر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من أن الحواجز التي تحول دون توسيع الطاقة النظيفة في إثيوبيا وباكستان قد تكون مالية في المقام الأول، فلا تعرف العديد من البلدان النامية الأخرى ببساطة كيف تسعى إلى تنمية أكثر اخضراراً. حتى إن بعضها ليس على يقين من رغبته في القيام بهذا، خشية أن يؤدي هذا إلى تقويض أولويته الرئيسة: التنمية. وتتمتع أغلبية واضعي السياسات في العالم النامي بالحد الأدنى من الألفة مع مصادر الطاقة المتجددة، فضلاً عن قدر عظيم من الألفة مع الفحم. ووفق الوكالة الدولية للطاقة، عام 2020، اعتمدت بلدان خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على الفحم والخث والنفط الصخري بنسبة 36 في المئة من إجمالي إمداداتها من الطاقة، في حين قدمت مصادر الطاقة المتجددة 16 في المئة فقط.

وعام 2016، اختارت بنغلاديش ما تعتبره المسار ذا التكاليف المناسبة أكثر من غيره لتطوير الطاقة، فأصدرت خطة رئيسة لقطاع الطاقة تبنت التحول من الغاز الطبيعي إلى الفحم. ولا يخلو هذا من المفارقة، لأن بنغلاديش واحدة من أكثر البلدان عرضة إلى تغير المناخ. (في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، يبدو أن حكومتها بدأت تعيد النظر في الأمر، فقدمت خطة تنمية جديدة تعترف في الأقل بأن اعتماد بنغلاديش الشديد على الوقود الأحفوري "أمر مثير للقلق"). كذلك تناصر استراتيجيات الطاقة الوطنية في إندونيسيا وجنوب أفريقيا وفيتنام أيضاً الفحم، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى أن هذه البلدان لديها وفرة من الإمدادات المحلية من هذا الوقود.

وأعلن عن مثال على ما هو مطلوب في مؤتمر الأطراف الـ26، عندما تعهدت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتقديم 8.5 مليار دولار لمساعدة جنوب أفريقيا في تحقيق تحول عادل بعيداً من الفحم وتنفيذ السياسات الرامية إلى إزالة الكربون من اقتصادها. ومن الممكن أن تعجل سياسات من هذا القبيل بالتحول إلى مصادر أكثر نظافة للطاقة في الأسواق الناشئة، وضمان ألا تعيق تنميتها الاقتصادية الجهود الرامية إلى التخفيف من آثار تغير المناخ.

تابعوا المال

إن عملية المفاوضات العالمية حول المناخ ضرورية لكنها ليست كافية لحل أزمة المناخ. فلا بد من أن يقترن هذا العمل بالجهود الرامية إلى ضمان قدرة البلدان النامية على الوصول إلى الموارد الكافية لاتباع استراتيجيات تنموية منخفضة الكربون. ويتعين على القطاعين العام والخاص أن يعبئا التمويل اللازم للبلدان التي يبلغ عددها نحو 24 بلداً، حيث قد يؤدي النمو الاقتصادي إلى زيادات ضخمة في الانبعاثات في المستقبل القريب. وينبغي لبعض هذه البلدان، مثل المملكة العربية السعودية، أن تكون قادرة على تمويل تحولها من دون مساعدة دولية (ولو أنها قد تستفيد مع ذلك من المشورة في مجال السياسات). وستحتاج بلدان أخرى مثل إثيوبيا والهند وباكستان وتنزانيا وفيتنام إلى قدر أعظم من الدعم الشامل لجهة التمويل، وبناء القدرات، والمساعدة التقنية.

وفي الوقت الحالي، تنفصل السياسات المناخية الوطنية في الأساس عن التدفقات المالية العالمية. ويبدأ تغيير هذا الوضع بالحكومات، التي يتعين عليها أن تحاسب نفسها وبعضها بعضاً على تنظيم المؤسسات المالية الخاصة بها وتخضير استثماراتها العامة. وتسيطر الشركات الخاصة على الأغلبية العظمى من التدفقات المالية الدولية لكنها فشلت في تنظيم نفسها على الرغم من الاتفاقات الطوعية العديدة القائمة بالفعل، مثل مبادئ السندات الخضراء، التي توفر مبادئ توجيهية لتمويل المشاريع السليمة بيئياً والمستدامة.

لذلك يتعين على الحكومات أن تتدخل. وفي مقدور جهات التنظيم المالي أن تتطلب الكشف عن الاستثمارات المرتبطة بالمناخ، ومنع الشركات من تنفيذ استثمارات جديدة في الفحم أو صناعات أخرى عالية الكربون (كما اقترح أخيراً عضو مجلس الشيوخ الأميركي جيف مركلي، الديمقراطي عن أوريغون)، وتشجيع التعاون بين المصارف المركزية للحد من المخاطر المرتبطة بالمناخ في النظام المالي. وانضم مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أخيراً إلى شبكة المصارف المركزية والسلطات الإشرافية من أجل تخضير النظام المالي، وهي مجموعة تتألف من 80 مصرفاً مركزياً وسلطة إشرافية تتقاسم أفضل الممارسات لتعزيز قدرة النظام المالي على الصمود في مواجهة المخاطر المرتبطة بالمناخ.

ويعد القطاع العام أيضاً في حاجة ماسة إلى الإصلاح. فحكومات الاقتصادات الناشئة الرئيسة، مثل البرازيل والصين والهند والمكسيك وروسيا، يجب أن تصلح مؤسساتها المملوكة للدولة لتصبح محايدة كربونياً وتبدأ في الابتعاد عن فرض الضرائب على الوقود كمصدر رئيس للعائدات. ويتلخص أحد الخيارات في التحول من فرض ضرائب على الوقود والدخل إلى فرض ضرائب كربونية، ما قد يعزز من استخدام مصادر الطاقة المنخفضة الكربون في حين يسمح للحكومات بالحفاظ على قواعدها الضريبية. وينبغي للبلدان الصناعية التي فرضت بالفعل ضريبة كربونية أن تقدم مساعدة تقنية إلى البلدان النامية. فالنرويج، مثلاً، لديها خبرة عميقة في هذه السياسات: لقد اقترحت مضاعفة ضريبتها الوطنية على انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون إلى ثلاثة أضعافها بحلول عام 2030، في حين تعهدت أيضاً بتعويض هذه الزيادات عن طريق خفض الضرائب الأخرى لتجنب تضاؤل القدرة التنافسية.

وتتلخص المهمة الكبرى الأخرى في إعادة النظر جوهرياً في كيفية عمل مؤسسات التنمية العالمية. ذات يوم، لاحظ المخترع تشارلز كيترينغ، الذي قاد قسم الأبحاث في "جنرال موتورز" في النصف الأول من القرن العشرين، قائلاً إن المديرين "لا ينبغي لهم أبداً أن يضعوا تكنولوجيا جديدة في قسم قديم"، ذلك لأن التكنولوجيات القديمة ستفترسها. ولهذا السبب يحتاج العالم إلى مصرف عالمي جديد للتنمية الخضراء. وينبغي لمصرف كهذا أن يسير على غرار البنك الدولي أو البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، لكن لا ينبغي له أن يكرس جهوده إلا لتمويل مسارات تنمية اقتصادية مرنة منخفضة الكربون. وبوسعه أن يقدم المنح والقروض وضمانات القروض وغير ذلك من أشكال الاستثمار إلى البلدان النامية، من دون تبني النهج المرهق لتمويل كل مشروع على حدة، الذي يستخدمه حالياً صندوق المناخ الأخضر. ولا بد من أن يوظَّف فيه خبراء قادرون على تقديم المساعدة التقنية إلى البلدان النامية حول كيفية تهيئة البيئة اللازمة لتحفيز استثمارات القطاع الخاص في الصناعات المنخفضة الكربون. ويفضل أن يحفز "السباق إلى القمة" مع محاولة كل بلد التفوق على غيره في تقديم حلول الازدهار المستدام.

وأخيراً، لا بد أن يركز نموذج التنمية المنخفض الكربون على التصنيع الأخضر - توليد فرص العمل والنمو في الصناعات التي لا تؤدي إلى التلوث. وبالمضي قدماً، من الممكن أن يستفيد هذا النموذج من التكنولوجيات الرقمية الجديدة لإنتاج نشاط اقتصادي أقل اعتماداً على الكربون. وتشكل أيضاً الصناعات الخدمية المتوسعة، ووضع استراتيجيات للزراعة المستدامة والاستثمار في صناعات الطاقة الجديدة والنقل والبناء ذات التكنولوجيا المتقدمة، عناصر رئيسة لنموذج التنمية المنخفضة الكربون.

حدثت قصص نجاح مهمة في العالم النامي تبين إمكانات هذا النوع من نماذج التنمية. ففي الهند، جمعت شركة مملوكة للدولة التزامات من المدن والولايات لشراء 85 ألف عربة كهربائية ذات ثلاث عجلات، هي الآن متاحة للشراء بأسعار مدعومة. وفي كيرالا، أمرت حكومة الولاية المكاتب الحكومية بأن تشتري المركبات الكهربائية. هذه هي ترتيبات الشراء والتمويل التي يحتاج إليها العالم النامي للمضي قدماً. لكن المركبات الكهربائية كانت لا تزال تمثل أقل من اثنين في المئة من مبيعات السيارات في الهند العام الماضي، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى التعجيل بزيادة الجهود الرامية إلى إزالة الكربون من الاقتصادات في مختلف أنحاء العالم.

الريادة

من الممكن تماماً وقف الموجة التالية من الانبعاثات، شرط أن تظهر البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء قدراً من القيادة في مواجهة هذا التحدي. والواقع أن العديد من الاقتصادات الناشئة على استعداد لتبني السياسات الكفيلة بالتخفيف من آثار تغير المناخ: فمن بين نحو 24 بلداً حددت بوصفها قادرة على تحقيق نمو مرتفع للانبعاثات، اقترح نصف هذه البلدان مستهدفات للصفر الصافي بحلول منتصف القرن. والآن توشك إندونيسيا على فرض ضريبة كربونية متواضعة تستهدف محطات الفحم، كما تفرض المكسيك وجنوب أفريقيا بالفعل ضرائب كربونية. وأخيراً وضعت الصين اللمسات الأخيرة على نظام وطني لتداول الانبعاثات في محطات الطاقة، وأنشأت كازاخستان نظاماً خاصاً بها لتداول الانبعاثات. وأطلقت إثيوبيا استراتيجية اقتصادية تعطي الأولوية للتنمية الخضراء، فوضعت خططاً لتوسيع إمداداتها من مصادر الطاقة المتجددة وإعادة تحريج البلاد.

لكن هذه البلدان تحتاج أيضاً إلى التمويل والدعم في مجال السياسات، ومن المؤسف أن الاقتصادين الأضخم في العالم فشلا في تقديم القيادة المناخية. فالولايات المتحدة لم تضع نهجاً جيداً في مجال السياسات بغرض التعامل مع النمو الاقتصادي المنخفض الكربون، إذ لا تزال التشريعات المناخية المجدية معطلة في الكونغرس. ويزعم البعض أن البلاد تقود العالم في مشاريع البحث والتطوير في مجال الطاقة النظيفة، لكنها تفتقر بشدة إلى نقل هذه الاختراعات إلى السوق بسبب عجزها التاريخي عن توليد حوافز سوقية مستقرة للصناعات المنخفضة الكربون. يتعين على الولايات المتحدة أن تقود الضغوط من أجل إصلاح مصارف التنمية المتعددة الأطراف وإنشاء مصرف عالمي أخضر. ويتعين عليها أيضاً أن تبدأ في تنظيم مصارفها الخاصة حتى تكف عن الاستثمار في الصناعات العالية الكربون وتوفر التمويل اللازم للصناعات المنخفضة الكربون والوقود المنخفض الكربون.

ومن ناحية أخرى، ركزت الصين على السياسة الصناعية في التعامل مع الصناعات المنخفضة الكربون. وغزت شركاتها بالفعل أسواق الطاقة الشمسية العالمية، وهي الآن في طريقها إلى توسيع سيطرتها على سوق السيارات الكهربائية والبطاريات. وعلى نحو مماثل، أنشأت بكين أسواقاً مستقرة لنشر الطاقة المتجددة، الأمر الذي أدى إلى امتلاك الصين القدرة الكبرى في مجال الطاقة المتجددة على مستوى العالم. لكن الصين بعيدة من أن تكون قدوة: هي لم تتمكن حتى الآن من وقف بناء محطات الفحم أو إصلاح شركاتها المملوكة للدولة التي تعتمد على الوقود الأحفوري. وعلاوة على ذلك، لم تضع بعد خطة لزيادة تمويل الصناعات النظيفة في الخارج، ولا تزال استثماراتها من خلال مبادرة الحزام والطريق وغيرها من أدوات التمويل محاطة بالسرية. ويتعين على كل من الولايات المتحدة والصين أن تكشفا في شكل كامل عن استثماراتهما العامة والخاصة في الأسواق الخارجية حتى يتسنى لهما أن تحسبا أثرهما في المناخ.

وهذا التنازل عن القيادة يترك الكرة في ملعب البلدان النامية الرئيسة، مثل الهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا، لصياغة نهج جديد. وأثبتت البلدان النامية قدرتها على الابتكار لكنها تحتاج إلى موارد ومساعدة في مجال السياسات من نظيرتها المتقدمة إلى الانتقال إلى نموذج تنموي منخفض الكربون. وهذا الدعم من جانب البلدان الغنية -غني عن القول إنها أصبحت غنية من خلال ضخ حصة الأسد من الكربون إلى الغلاف الجوي- يشكل السبيل الوحيد أمام العالم للتخفيف من آثار تغير المناخ.

كيلي سيمز غالاغر عميدة أكاديمية، وأستاذة سياسات الطاقة والبيئة، ومديرة مختبر سياسات المناخ في مدرسة فليتشر بجامعة تافت. وهي عملت مستشارة بارزة للسياسات في مكتب السياسة العلمية والتكنولوجية في البيت الأبيض في عهد إدارة أوباما

مترجم من فورين أفيرز، يناير (كانون الثاني) / فبراير (شباط) 2022

المزيد من بيئة