Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جولة بين قطارات البلجيكي بول ديلفو وفنه الذي يجعله آخر المثاليين

شخصياته تتحرك كالسائرين نياماً وسط فضاءات مفرطة في طبيعيتها

من لوحات عن القطارات ومحطاتها (موقع السكك الحديدية البلجيكية)

كان من الأمور الغريبة التي يعزوها الفرنسيون عادة إلى أهل بلجيكا وهم يتندرون عليهم، أن تصدر هيئة السكك الحديدية في ذلك البلد المجاور لوطن العقلانية والمنطق، كتاباً يتناول لوحات للفنان بول دلفو. صحيح أن هذا الفنان بلجيكي وأن الفرع الذي نشر كتابه من بين فروع تلك الهيئة كان فرع مدينة لييج التي ينتمي إليها دلفو تحديداً؛ غير أن هذا الانتماء لم يعد كافياً للفرنسيين لتبرير ذلك الاهتمام الفني غير المتوقع. ومع ذلك كان ثمة سبب أكثر منطقية بكثير. فالكتاب الذي صدر عن دلفو على شكل مجموعة دراسات مرفقة بعدد كبير من اللوحات المنسوخة بكل أناقة، كان يحمل عنواناً واضحاً هو "بول دلفو رسام محطات القطار". وهكذا استعاد الأمر منطقه، إذ بات هناك لمحطات القطار رسامها ولوحاتها التي كانت مناسبة لإصدار هذا الكتاب/ الكتالوغ مرفقاً مع معرض أقيم في لييج نفسها لتلك اللوحات التي ضمها هذا العمل الاستثنائي ودارت جميعها، بشكل أو بآخر، من حول موضوعة القطارات ومحطاتها وركابها، ولكن ضمن نطاق ما كان الهواة قد عهدوه من فن بول دلفو (1879 – 1994) نفسه، منذ بدايات سنوات العشرين، هو الذي ستحمل اللوحات المنسوخة في الكتاب تواريخ شديدة التنوع بحيث تنتفي الفكرة القائلة بأنه قد حقق تلك اللوحات خصيصاً للمعرض والكتالوغ.

ضروب هوس متنوعة

فدلفو وبصرف النظر، طبعاً، عن اهتمام هيئة سكة الحديد البلجيكية به، كان منذ زمن مبكر جداً قد أضاف هوسه بالقطارات ومحطاتها إلى ضروب الهوس الأخرى التي دائماً ما شغلت فكره ولوحاته وهو الذي انطلق على أي حال سوريالياً إنما على طريقته الخاصة، انطلاقة يدين بها إلى معلمين سورياليين كبيرين آخرين هما السويسري رينيه ماغريت والإيطالي جورجيو دي شيريكو اللذان "اكتشفهما" تباعاً في عشرينيات القرن العشرين الذي عاش فيه وأبدع، لكنه سوف يعرف لاحقاً كيف يطور علاقته بفن كل منهما ولكن، كما يمكننا أن نفهم، بالعلاقة مع قاموس خاص به. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الفنان الخاص جداً قد استن لنفسه قوانينه السوريالية الخاصة التي تجعله في آن معاً واحداً من كبار المبدعين السورياليين والممثل الرئيس لفن رمزي يكاد تياره يقتصر عليه وحده! والحال أن حسب المرء أن يتفرس في اللوحات المنسوخة في كتاب القطارات التكريمي ليفهم كل ما نقول. بل ليفهم بشكل أكثر تحديداً ما كان الفنان نفسه يرمي إليه حين "عرف" السوريالية يوماً في واحدة من محاضراته.

فن وجد ليبقى

فهو قال في تلك المحاضرة التي نشرت للمرة الأولى في الكتاب الذي نشير إليه هنا: "باختصار على الفن، في نظري، أن يحذر الغرق في فائض من الجماليات، لكن عليه أن ينهل منها ويستفيد في الوقت نفسه. أما في ما يتعلق خصوصاً بالسوريالية، فإنها إنما أسهمت في البنيان الفني ولو بمدماك صغير أتت به، بحيث إن الآثار البالغة القوة التي خلفتها مساهمتها هذه، حتى وإن كان عليها أن تعاني في زمننا هذا من بعض كسوف لصالح سواها من التيارات الفنية الحديثة، لا شك أنها تسهم دائماً وسوف تسهم مستقبلاً في ذلك الثراء الكبير والحقيقي وفي التقدم الذي لن يتوقف عن رفد الفنون التشكيلية". ويقيناً أن هذا الاعتقاد الصارم بالبقاء المؤكد للسوريالية يتعلق بقاموس دلفو الفني نفسه وهو قاموس لا بأس من الإشارة إلى أنه يدور غالباً من حول الغابات والمناظر الخارجية والليل، وبخاصة ليل المدن ناهيك بالنساء عاريات أو محتشمات، وكل ذلك في إطار يعبق بالأحلام وبأحلام اليقظة، وبغرباء غالباً ما يلتقون في لوحاته من دون أن يبدو أن أياً منهم يلقي بالاً للآخرين. فهم دائماً كالسائرين نياماً لا يدركون أين هم، ولا ما يفعلون هنا، وقد جمعهم الفنان في رؤى لو أخذنا كل عنصر منها على حدة لأدهشنا مدى واقعيتها، لكن الفنان إذ يساوق بينها في مكان واحد وزمان واحد يخلق تلك "المعجزات" الفنية الصغيرة، وربما على غرار ما يفعل صديقه وزميله ماغريت الذي يعتبره دلفو ثاني المعلمين الذين ساعدوه على تكون عالمه الفني، بعد دي كيريكو بالتأكيد.

فن شديد الخصوصية

ومع ذلك لا شك أن مجموعة الأعمال المرتبطة بالقطارات تكشف لنا كم أن دلفو عرف وبصورة تدريجية كيف يفصل سورياليته، ليس فقط عن تلك التي كانت تنال رضى السورياليين بوصفها تعبيراً تلقائياً "يصنع نفسه بنفسه"– كما حال لوحات إيف تانغي وماسون بين آخرين– بل عن لوحات دي كيريكو وماغريت، وذلك لأن دلفو إذ أضاف محطات القطار والقطارات نفسها إلى قاموسه ليس فقط كمكان يضفي سحره وغموضه وقوته على فضاء اللوحة– كما الحال في معظم لوحت دي كيريكو الميتافيزيقية، أو لوحات ماغريت المؤلفة من تضافر وتراكم لعدة واقعيات تستمد من ذلك التضافر غرابتها الحلمية– بل كجزء أساسي لقاموس جديد يقرب اللوحات إلى الواقعية، وهو يعمل في الوقت نفسه على فصلها بقوة عن الواقع. ولعل في إمكاننا أن نرى هنا أن هذا التوصيف ينطبق بشكل أكثر وضوحاً على تلك "الرباعية" التي حققها دلفو تباعاً في عام 1963، وهذه المرة على أي حال بتمويل من هيئة السكك الحديدية البلجيكية التي تتفرد بامتلاكها اليوم وكانت القطع الرئيسة في المعرض الذي صدر الكتاب لمناسبته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واقعية المحطات وسوريالية البشر

لهذه اللوحات الأربع مقاس طولي موحد (77سم ارتفاعاً و53 عرضاً لكل لوحة)، وحسبنا أن نذكر هنا عناوينها على التوالي كي ندرك عمق ارتباطها بالموضوع المتعلق بالقطارات وتفسير اهتمام السكك الحديدية بها: "المحطة ليلاً، القطار البخاري"، "المحطة ليلاً، القطار البخاري 2"، "المحطة نهاراً، القاطرة BB 20"، وأخيراً "المحطة نهاراً، وبرج الساعة والقاطرة BB150". والحال أن هذه العناوين تجعلنا نشعر للوهلة الأولى، وكأننا في حضرة برنامج حركة القطارات وأرقامها؛ غير أن التفرس في اللوحات سرعان ما يوضح لنا كونها تنتمي مباشرة إلى فن بول دلفو وقاموسه، على الرغم من الواقعية المطلقة للمشهد نفسه، المشهد الذي يكاد يتكرر من لوحة إلى أخرى، وربما بعيداً جداً عن الحلمية التي اعتاد دلفو أن يضفيها على الفضاءات التي يرسمها سواء كانت فضاءات ليلية أو نهارية. أما العنصر الحلمي هنا، فيأتي من أولئك الأشخاص الذين كالعادة يبدون كالسائرين نياماً نحو القاطرة أو مبتعدين عنها كما الحال دائماً مع الأشخاص الذين اعتاد دلفو "زرعهم" في لوحاته. ونستعمل هنا عبارة "زرعهم" عن قصد بالنظر إلى أن أياً منهم لا يبدو متحركاً بالفعل حتى وإن كان سيخيل إلينا للوهلة الأولى أن الرسام قد التقطه وسط تحرك ما. وسواء هنا التقط الرسام تلك الشخصيات مصوراً إياها مواجهة– وهذا في حالات قليلة– أو من ظهرها كما في معظم الحالات- فإنها سوف تبدو هنا وكأنها "كومبارس" في مشهد سينمائي بادي الغرابة، أوقفهم المخرج جامدين ريثما يصدر لهم أوامره بالتحرك مع حركة الكاميرا التي سوف تلتقط المشهد، أسوة بالقاطرات التي تبدو بدورها مستعدة للتحرك حالما تتلقى الإشارة. فهنا كل شيء يبدو جامداً في نهاية الأمر في انتظار صرخة ما، تحول المشهد السوريالي، الخاص جداً كما لا بد أن نؤكد، على مشهد طبيعي لا يعود له سحره وغموضه وإن سيبقى له جماله المطلق. ومن المؤكد أن هذا البعد الذي يجمد المشهد في انتظار تحريكه هو ما يضفي على فن بول دلفو سحره وعنصر الحلم الذي يرتبط به ارتباطاً وثيقاً.

آخر الفنانين المثاليين!

ومن هنا ما يمكن قوله إن بول دلفو– وأكثر كثيراً من ابنه السينمائي أندريه دلفو الذي استقى منه سوريالية سينمائية مدهشة لكنه سبقه شاباً إلى العالم الآخر- بول دلفو عاش القرن العشرين كله كحالم يقظ أو ربما كالسائر نائماً بوصفه الوريث الأخير لفن رمزي غلفته السوريالية، لكنه كان مطبوعاً بتلك الرمزية التي كانت على يديه آخر ما تبقى من الفن المثالي.

المزيد من ثقافة